الناخبون العراقيون يُريدونَ ميليشياتٍ أضعف ودولةً أقوى
تُظهرُ نتائج الانتخابات التي جرت أخيراً في العراق أن المواطنين يريدون حكومة يُمكنها الوقوف بمفردها من دون أن تدعمها إيران أو الولايات المتحدة أو الميليشيات الغامضة.
شيلي كيتلسون*
كان أفراد “قوات الحشد الشعبي” العراقية ذات يوم أبطالاً لبعض الشيعة في البلاد. كان ذلك في العام 2017، عندما ساعدت قوات الحشد الشعبي -بدعمٍ إيراني- في إنهاء حكم تنظيم “الدولة الإسلامية” الإرهابي في أجزاء كبيرة من العراق. تلك الانتصارات في ساحة المعركة، مع ذلك، لم تُترجَم إلى نجاحٍ في صناديق الاقتراع في الشهر الفائت. تُظهر النتائج الأوّلية للانتخابات البرلمانية العراقية الخامسة منذ العام 2003 أن الجماعات المدعومة من إيران، والمُمثّلة بشكل فضفاض في تحالف “الفتح”، خسرت 28 مقعداً من أصل 48 مقعداً كانت تشغلها في السابق.
كان أداء حزبٌ سياسي مدعوم من قبل منظمة إرهابية في المنطقة الكردية الشمالية من العراق ضعيفاً أيضاً. حصل الاتحاد الوطني الكردستاني على دعمٍ قوي من حزب العمال الكردستاني التركي، الذي صنّفته الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وتركيا كمجموعة إرهابية. وبرز منافس الاتحاد الوطني الكردستاني، الحزب الديموقراطي الكردستاني، الفائز الواضح في التصويت: فقد حصل على 32 مقعداً، أي ضعف مقاعد الاتحاد الوطني الكردستاني البالغ عددها 16 مقعداً. في انتخابات 2018، حصل الحزب الديموقراطي الكردستاني على 25 مقعداً وحصل الاتحاد الوطني الكردستاني على 18 مقعداً.
وكما كان متوقَّعاً إلى حدٍّ ما، ادّعت الأحزاب الخاسرة في الانتخابات أن التزوير ساد عملية الاقتراع. وقال بيانٌ صادرٌ عن مكتب هادي العامري زعيم تحالف “الفتح”: “لا نقبل هذه النتائج المُلفّقة مهما كان الثمن. وسندافع عن أصوات مرشحينا وناخبينا بكل قوّة”. في بعض الأحيان، تقترن مثل هذه المزاعم بتهديداتٍ أكثر تحديداً بالعنف، مثل تعليق أحد المُحلّلين المرتبطين بالمقاومة خلال مقابلة متلفزة أن لديه “معلومات دقيقة” مفادها أن “طائرات مُسَيَّرة وصواريخ دقيقة وأُخرى باليستية سيتم إطلاقها من أرض العراق” لضرب دولة الإمارات العربية المتحدة. أُطلقت مزاعم ضد الإمارات لكونها جزءاً من مؤامرة مزعومة ضد الجماعات المُرتبطة بإيران).
ولكن على الرغم من أن بعض الفساد في الانتخابات يكاد يكون من المُسلَّمات في العراق، إلّا أن الانتكاسات التي تعرّضَت لها الجماعات المدعومة من إيران لم تكن غير مُتَوقَّعة. يُمكن تفسيرها جزئياً من خلال حقيقة أن التهديد الذي يشكّله تنظيم “الدولة الإسلامية”، قد تم القضاء عليه في الغالب. الراديكاليون الشيعة المتمرّسون في المعارك والذين كانوا مفيدين – وضروريين من قبل لصد “الدولة الإسلامية”- يُنظر إليهم الآن على نطاق واسع على أنهم يشكلون عائقاً أمام التقدّم السلمي. كما لعبت اتهامات واسعة النطاق ضد الجماعات المرتبطة بالحشد الشعبي بتورّطها المزعوم في قتل وخطف متظاهرين سياسيين ونشطاء مستقلين في السنوات الأخيرة دوراً في ذلك.
يبدو أن عدداً كبيراً من الناخبين يريدون الآن المضي قُدُماً بعيداً من عصر العنف والاعتماد على القوى الخارجية – بما فيها إيران والولايات المتحدة – ونحو الأحزاب التي يُنظَر إليها على أنها تتمتّع بقدر أكبر من الولاء للعراق. ويبدو أن تصويت العاشر من تشرين الأول/أكتوبر قد أظهر أيضاً اهتماماً واضحاً للشعب العراقي في كبح جماح قوة الميليشيات، من الشمال إلى الجنوب، التي لا تخضع لسيطرة الدولة. وبهذا المعنى، يمكن أن يمثل التصويت تحوّلاً مهمّاً في المشهد السياسي في العراق.
شهدت فترة السنة والنصف القصيرة التي قضاها رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي في منصبه محاولات حازمة لزيادة الاستثمار في البلاد وتهدئة التوترات الإقليمية، بما فيها ترتيب اجتماعات بين ممثلي الخصمين الإقليميين إيران والسعودية في بغداد.
ومع ذلك، هناك خطر من أن أولئك الذين يرون نفوذهم يتضاءل قد يستمرون في اللجوء إلى العنف، بما في ذلك من خلال مجموعات الواجهة التي تتيح إمكانية الإنكار المعقول، لأن أولئك الذين يشاركون في العملية السياسية لديهم الآن مصلحة أكبر في ضمان عدم لوم السكان لهم عن أي خسائر مدنية ناجمة عن الهجمات.
كان الفائز الرئيس في الانتخابات هو الزعيم الشيعي المثير للجدل، مقتدى الصدر، وهو عدو قديم للولايات المتحدة. في السنوات الأخيرة، اتخذ رجل الدين الشعبي مواقف عدة مُعاكسة لتلك التي اتخذتها فصائل المقاومة المُرتبطة بإيران. وهو يدّعي أن كتلته، التي يبدو أنها فازت بـ 73 من مقاعد البرلمان البالغ عددها 329 -أكثر من أي مجموعة أخرى- مُكرَّسة للتطور السلمي الخالي من التدخل الخارجي.
يتمتع الصدر بقاعدة انتخابية كبيرة في مدينة الصدر الفقيرة ببغداد، وهي ضاحية شرقية للعاصمة العراقية، وكذلك بين الشيعة في الريف الفقير. وهو يُقدم نفسه كمدافع عن المضطهدين. لسنوات عديدة بعد غزو 2003، كان قائد ميلشيا “جيش المهدي”، التي قاومت القوات الأميركية وارتكبت فظائع ضد السنّة. (العديد من الميليشيات المرتبطة بإيران كانت في الأصل مجموعات منشقة عن جيش المهدي).
في الآونة الأخيرة، حثّ الصدر على وضع جميع الأسلحة تحت سيطرة الدولة. وقال في خطابِ نصرٍ مُتلفز: “حان الوقت لكي يعيش الناس بسلام، بلا احتلال وإرهاب وميليشيات وخطف”.
على عكس الانتخابات السابقة، لم تُلهم الصيحات الحاشدة ضد الاحتلال الأميركي أو تُحفّز الناخبين كثيراً، لأن الاحتلال قد انتهى إلى حدٍّ كبير. في الوقت الحالي، لا يبدو أن هناك حتى متحدثاً واضحاً باسم التحالف الدولي ضد “الدولة الإسلامية”، لقد غادر المتحدث االسابق في الشهر الفائت، ولم يتم الإعلان عن أيّ بديل.
مع ذلك، بالنسبة إلى العراقيين الذين يعتبرون الوجود الأميركي المحدود عامل استقرار، هناك ما يدعو للقلق. لقد أدّى الانسحاب الأميركي من أفغانستان إلى تفاقم تلك المخاوف. في الأسابيع الأخيرة، قال بعض العراقيين إن الانسحاب الأفغاني دليلٌ على أن الولايات المتحدة، التي لا يزال لديها حوالي 2500 جندي في العراق، لا يمكن الوثوق بها.
يخشى هؤلاء العراقيون من أن عدم اليقين بشأن نتائج الانتخابات قد يؤدّي إلى مزيد من القوّة التي تمارسها الجماعات المسلحة غير الحكومية، فضلاً عن النفوذ والتدخّل غير المُبرَّرَين من الجار الشرقي للبلاد. لا يُلقي الكثيرون باللوم على “الدولة الإسلامية” فحسب، بل أيضاً على الجماعات المسلحة المرتبطة بإيران في اختفاء آلاف الرجال والفتيان خلال الحرب، ولا يثقون في أن إيران ستستخدم أي نفوذ متزايد بطريقة قد تكون مفيدة للعراق.
يخاف آخرون أن يصبح العراق ساحة معركة بين الولايات المتحدة وإيران، حيث يعاني السكان من العواقب: غالباً ما تُستخدَم الاتهامات بكونهم “جواسيس” للأميركيين أو الإسرائيليين كذريعة لاستهداف النشطاء، على سبيل المثال. وسبق اغتيال الخبير الأمني العراقي البارز هشام الهاشمي في تموز/ يوليو 2020 اتهامات من جماعاتٍ وأفرادٍ مُرتبطين بإيران بأنه عمل لصالح المخابرات الأميركية في البلاد.
على الرغم من حقيقة أن الانتخابات كانت الأكثر أماناً منذ الغزو الأميركي في العام 2003، فقد تغلغل عدم مبالاة الناخب في العملية برمتها. لم يصوّت معظم العراقيين: كانت نسبة المشاركة الإجمالية أقل بكثير من 50 في المئة. أثناء السير في الشوارع يوم الاقتراع، كان من الممكن سماع الصوت العالي للطائرات التي كانت تُحلّق على ارتفاعٍ مُنخفض، ربما كان المقصود منها أن تكون إشارة إلى السكان العراقيين بأنهم ليس لديهم ما يخشونه. وكان رجال الشرطة المصابون بالملل يمازحون الصحافيين المارة، بما فيها بعض المضايقات اللطيفة الموجهة إليَّ بينما كنت أسيرُ بمفردي في أحد الشوارع.
ومع ذلك، كانت هناك مساحة للوافدين الجدد نسبياً على المشهد السياسي. ومن بين هؤلاء حزب يُسمّى “امتداد”، وهو مرتبط بالاحتجاجات واسعة النطاق ضد الحكومة. أثارت تلك المظاهرات -ضد الفساد والبطالة وسوء الخدمات الحكومية- ردّ فعل عنيفاً من قبل قوات الأمن الحكومية والميليشيات المدعومة من إيران. لكنها ساعدت في نهاية المطاف على إسقاط الحكومة.
وبحسب النتائج الأوّلية فقد فاز “امتداد” بتسعة مقاعد في الانتخابات وحقق أداءً جيداً بشكل خاص في محافظة ذي قار، التي شهدت بعض أقسى أعمال العنف ضد المتظاهرين بين أواخر العام 2019 وأوائل العام 2020. ويأمل الحزب في تشكيل ائتلاف مع مستقلين آخرين، بما في ذلك مجموعة كردية تُدعى “الجيل الجديد” التي حصلت على تسعة مقاعد.
كما سيكون هناك المزيد من النساء في البرلمان العراقي المقبل: ستنضم 97 نائبة إلى مجلس النواب الجديد، وهو رقم أعلى بكثير من الحصة البالغة 25 في المئة التي يتطلبها القانون.
يبدو أن الاتجاه السائد هو الرغبة في التخلّص من التدخّل الأجنبي من أيِّ نوعٍ في السياسة العراقية. ومع تصاعد الضغط ضد التدخّل الأجنبي، قد تجد الميليشيات المدعومة من إيران وأكراد حزب العمال الكردستاني الآن أن لديهما قضية مشتركة.
يُعتقَد أن الجماعات المدعومة من إيران وحزب العمال الكردستاني قد تورّطا في هجمات خلال العام الفائت أسفرت عن مقتل مواطنين عراقيين وأفراد من قوات الأمن. كما أنهما أصبحا أقرب إلى بعضهما البعض في المناطق التي يتشاركون فيها الأهداف – لا سيما في منطقة سنجار، التي تضم الأقلية اليزيدية في العراق والتي شهدت بعضاً من أسوأ أعمال عنف تنظيم “الدولة الإسلامية”.
إن سنجار هي جزء من مناطق العراق المُتنازَع عليها بين الحكومة المركزية في بغداد وحكومة إقليم كردستان، وتقع على طول الحدود مع شمال شرق سوريا، حيث تعمل وحدات حماية الشعب المرتبطة بحزب العمال الكردستاني، وجنوب شرق تركيا، حيث يعبر مقاتلو حزب العمال الكردستاني دخولاً وخروجاً لشنّ هجمات.
تواصل الجماعات المسلحة المرتبطة بإيران وحزب العمال الكردستاني وحلفاؤه المحليون العمل جنباً إلى جنب في سنجار، وفي بعض الأحيان يتجاهلون الأوامر الصادرة من بغداد. يود الجميع مواصلة العمل بحرية في المنطقة ورؤية حكومة إقليم كردستان التي يهيمن عليها الحزب الديموقراطي الكردستاني على أنها تهديد لقدرتهم على حمل السلاح بشكل مستقل – وبالتالي، على تحركات الجنود والأسلحة عبر الحدود.
قام حزب العمال الكردستاني بتدريب الجماعات المحلية في سنجار وحافظ على العلاقات معها. كان من المفترض أن ينسحب من المنطقة وفقاً لاتفاق 9 تشرين الأول/أكتوبر 2020 بين الحكومتين في أربيل وبغداد، لكن بعد مرور عام، لا يزال مقاتلوه موجودين هناك.
أخبرني السكان الذين قابلتهم أثناء إعداد التقرير هناك لمدة ست سنوات مراراً وتكراراً أن العديد من الجماعات المسلحة تخلق حالة من عدم الاستقرار. كما أن هذا الوضع يؤدي، على وجه الخصوص، إلى الخوف من التحدّث علانية ضد هذه الجماعات المسلحة.
لا الجماعات المسلحة المرتبطة بإيران ولا حزب العمال الكردستاني ينظران إلى المعارضة بلطف، وقد نُسبت عمليات الاغتيالات التي لم تُحل إلى كليهما. تريد الجماعات المسلحة المرتبطة بإيران أيضاً من الحلفاء تمكينها من ضرب حكومة إقليم كردستان، التي لا تزال متحالفة بشكل وثيق مع الولايات المتحدة لأسباب تاريخية وبسبب الدعم الأميركي المستمر للسكان الأكراد في العراق.
في وقت سابق من هذا الشهر، تحدثتُ إلى الناشط اليزيدي ميرزا دنايي، الذي لم تكن تصريحاته الحذرة واضحة حول مَن هو المسؤول عن غياب سيادة القانون في سنجار. وشدد، مع ذلك، على أن اليزيديين يريدون العيش ضمن نظام دولة مع “سيادة القانون، بدون أن يكونوا جُزءاً من أي ميليشيات”.
على الرغم من أن الكثير من الشعب العراقي يريد حكم القانون، إلّا أن الكثيرين توقفوا ببساطة عن الاعتقاد بأن العملية السياسية ستساعد على تحقيق هذا الهدف. تشمل التحديات المتعددة التي تواجهها الحكومة المقبلة ضمان أنها تؤسس احتكار الدولة لاستخدام القوة والعنف.
لكن للقيام بذلك، سوف تحتاج إلى إظهار أنه يمكن الوثوق بها للوقوف بمفردها من دون دعمٍ لا داعي له من واشنطن أو طهران – أو من الجماعات المسلحة التي تعمل في الظل وفي الشوارع.
- شيلي كيتلسون هي صحافية تُركز على الشرق الأوسط وأفغانستان. نُشرت أعمالها في العديد من وسائل الإعلام الأميركية والإيطالية والدولية.
- يصدر هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازياً مع صدوره بالإنكليزية في “فورين بوليسي” الأميركية.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.