تونس: المأزق … والحلولُ المُمكِنة

عبد اللطيف الفراتي*

الوضعُ في تونس صعبٌ جداً وأمام طريقٍ مسدود. أعلن الرئيس قيس سعيد أنّ لا عودة لما قبل 25 تموز (يوليو)، وهو اليوم الذي أعلن فيه إقالة الحكومة ورئيسها، وتعليق عمل البرلمان، ورفع الحصانة عن النواب وتولّيه رئاسة النيابة العامة لتحريك دعاوى ضدّ عدد منهم مُتورّطين في قضايا. والكلامُ عينه يُردّده الآن عددٌ من السياسيين من كل الجهّات والتوجهّات، ليس من المعارضة فحسب، بل حتى من الأغلبية البرلمانية. وقد أعلن نوابٌ كثر من حركة “النهضة” وحزب “قلب تونس” عن ذلك بصراحة. ويبدو أن هناك اعتقاداً بات سائداً باستحالة العودة إلى ما قبل قرارات ذلك اليوم، وما سبقها من مظاهرات وعمليات حرقٍ لبعض مقرّات حركة “النهضة”.

ورُغمَ أن هناك مَن يقول بأن راشد الغنوشي برئاسته غير المُوَفَّقة للبرلمان، قد صبّ الزيت إن لم يكن البنزين على وضعٍ مُتفجّر أصلاً حيث لم يعد مجلس النواب قادراً على اختزاله أو التفاعل معه، فإن الاستنتاج هو أن عودة ذلك البرلمان وبرئاسة الغنوشي ونائبته الأولى سميرة الشواشي لم تعد مقبولة لا من رئاسة الجمهورية، ولا من النواب، ولا من الشعب، إذ أن قرارات قيس سعيد ما زالت تتمتع بالتأييد والالتفاف الشعبيين. والسؤال الآن: ما هو الحلّ للمرور إلى خطوة من شأنها تفكيك الأزمة؟

يبدو أن الرئيس سعيد ماضٍ في طريقه لا يلوي على شيء، وحركة “النهضة” المُنقسِمة على نفسها، والتي لم تستخلص قيادتها العبرة مما حصل في 25 كانون الثاني (يناير) على مستوى الشارع وعلى مستوى الدولة، ماضية في طريقها رُغم بعض الخطاب المُتردّد غير الحاسم للموقف.

في العام 2013 كان هناك عقلاءٌ من الجانبين. الباجي قائد السبسي من جهة والغنوشي من جهة أخرى، اللذان كان يتمتع كلٌّ منهما أيامها ب”دالة” وتأثيراً على الشعب، دفعا إلى حوار وطني تفادَيا به الذهاب إلى الأقصى، وفي البال ما حصل في مصر، وسقوط “الإخوان المسلمين” وما سالت من دماء. فكان الوفاق، ولعلّه كان وفاقاً مغشوشاً أجّلَ كلّ شيء إلى الآن.

ولكن ليس في كل مرّة تسلم الجرّة، وهذه المرة فإن الطرفين الرئيسيين في قلب المعمعة، ويُعتَقَد عموماً أن كليهما يدفع، إما مباشرة أو من طريق أتباعٍ، لا يعرفون حتى كيف يُمَوِّهون أو يتموَّهون، إلى المواجهة.

قيس سعبد معروف بعناده، وهو يعتبر نفسه اليوم بمثابة “النبي” الطاهر أرسله القدر لإنقاذ البلاد، والغنوشي شخصياً ظهره إلى الحائط، وهو أول مَن يُدرك أنه إذا خسر المواجهة فقد انتهى أمره وفَقَدَ “مستقبله” السياسي، وخرج من التاريخ ومن بابه الضيّق إن لم يكن من نافذته المواربة. ونُكرّر ما قلناه سابقاً، لعلّه اليوم نادمٌ أشدّ الندم على ما أقدم عليه من ترشيح نفسه في الانتخابات التشريعية الأخيرة، ثم ترشّحه لرئاسة البرلمان، حيث أفقده ذلك صفته كحَكَم، فضلاً عمّا ناله ما لم يكن يتوقّعه من حطٍّ في قدره وقيمته.

ما هو الحلّ إذن  لتدوير زوايا المُرَبَّع كما يقول الفرنسيون؟

الجلوس إلى طاولة حوار، وطرح كل القضايا بشفافية بما فيها:

* الإتفاق على تعديلات دستورية ضرورية، ليس في العمق، ولكن بالصورة التي تُمكّن من فتح نوافذ في الدستور المُغلَق لإدخال أشعة أمل للمستقبل؛

* كتابة مجلة انتخابية جديدة، وبخاصة طريقة اقتراع تُمكّن فعلاً من قيام أغلبية برلمانية واضحة؛

* إعادة تشكيل هيئة للانتخابات تكون فوق الشبهات؛

* سنّ مرسوم يقضي بأن تكون قرارات محكمة المحاسبات نافدة مباشرة، ولو بثلاث درجات أو أيّ حلّ آخر يهتدي له رجال القانون بالاستعانة بالتجارب الدولية؛

* إصلاح قوانين تنظيم الأحزاب والجمعيات وفرض تنفيذ القرارات بالسرعة الكافية، وبدون انتظار، والكف الكامل للتمويل الخارجي والتمويل المشبوه؛

* إعادة تشكيل هيئة الإعلام السمعي والبصري وإعطاؤها السلطات اللازمة لتنفيذ قراراتها؛

* إنشاء هيئة مماثلة للإعلام الورقي والالكتروني، وكتابة ميثاق شرف إلزامي. ولعلّ مجلس الصحافة مؤهّل للقيام بهذه المهمة؛

* إجراء إنتخابات رئاسية وتشريعية في ظرف 6 أشهر تحت طائلة هذه الإصلاحات لضمان الشفافية والنزاهة.

وتبقى كيفية مراقبة السلطة التنفيذية خلال الفترة الانتقالية، ولن يعدم الحوار الوطني الجدّي من إيجاد الصيغ الملائمة. مع تعيين محكمة دستورية وقتية تكون محل وفاق ولا تضم إلّا اختصاصيين كبار في مادة القانون الدستوري في الغالب من المتقاعدين أو ممن لم يبق على تقاعدهم أكثر من 10 سنين.

وفي الأثناء جاءت مظاهرات السبت لتكون مخيبة لآمال من دعا إليها، أي حركة “النهضة” من طرف خفي، فمن توقع مليونية جاء بضعة آلاف (وصفتهم وكالة الصحافة الفرنسية ببضع مئات) في مواجهة بمظاهرة أخرى من مؤيدي قيس سعيد، الذين قالوا إنهم قادرون على إنزال عشرات الألوف للشارع وفي كل المدن والقرى.

ومن حسن الطالع حصول أمرَين اثنين يوم التظاهرة: أوّلهما أنه لم تحصل مواجهة. وثانيهما أن الأمن تصرّف بكل لباقة وكياسة، وأبرز أن الرئيس سعيد ليس ذلك الديكتاتور المُستبد الذي يقمع المظاهرات، وإن كان وسيكون عليه إثبات ديموقراطيته تحت سلوك آخر لم يأته بعد.

قيس سعيد في ورطة، ولكن الجهة الأخرى، أي الغنوشي، في ورطة أشدّ وأعتى، والبلد هو الخاسر الأكبر.

  • عبد اللطيف الفراتي هو كاتب وصحافي تونسي. كان سابقاً رئيس تحرير صحيفة “الصباح” التونسية. يُمكن التواصل معه عبر البريد الإلكتروني التالي: fouratiab@gmail.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى