كيف طوّرت روسيا نظام مدفوعات “مير” لمواجهة العقوبات الأميركية

في منتصف العقد الأول من هذا القرن وُلِدت فكرة “مير” من سلسلة مبادرات مشتركة بين البنك المركزي الروسي والبنك الدولي والتي كانت تهدف إلى إنشاء إطارِ عملٍ لنظامِ مُعالجة المدفوعات المستقل داخل روسيا. وبينما كان التطوير على وشك الانتهاء، أوقفت الأزمة المالية العالمية في 2008 النشاط في المشروع، إلى أن جاءت العقوبات الدولية على روسيا خلال الأزمة الأوكرانية في العام 2014.

الرئيس فلاديمير بوتين: “مير” هو سلاحه المالي ضد العقوبات الأميركية

محمد سليم*

عندما عقد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لقاءه الهاتفي السنوي مع الناخبين في حزيران (يونيو) 2021، سارع إلى التأكيد على قدرة البلاد على الازدهار والإنتعاش رُغم العقوبات الأميركية. كفكرة، فهي لا تخلو من الصحة: لقد كان أداء الاقتصاد الروسي رائعاً في السنوات الأخيرة بفضل السياسات المالية والنقدية الحكيمة، بالإضافة إلى الجهود التنظيمية لتعزيز النظام المصرفي. إن الكثير من هذا النجاح، الذي جاء في أعقاب عقوبات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي التي فُرِضَت ردّاً على ضمّ روسيا لشبه جزيرة القرم في العام 2014، يؤكد الحقيقة الأساسية وراء ادّعاء بوتين. من خلال إنشاء ما أطلق عليه “روسيا المُحصّنة”، صمّم الكرملين درجة عالية من الاستقلالية المحلّية للاقتصاد الوطني، وبالتالي، خفّف من تكلفة العقوبات التي تفرضها الجهات الأجنبية.

إنشاء “مير”

إن النجاح المُذهل لنظام الدفع الوطني الروسي هو مثالٌ للدرس. في العام 2014، تم قطع العديد من البنوك الروسية عن شبكات الدفع “فيزا” و”ماستركارد” نتيجة للعقوبات. لم يؤدّ ذلك إلى قطع قدرة المُقرضين على معالجة المدفوعات على هذه الشبكات فحسب، بل نبّه الحكومة الروسية أيضاً إلى مخاطر الاعتماد على مجموعات الدفع الأميركية لخدمة الاقتصاد الوطني. رداً على ذلك، أطلق الكرملين جهوداً غير مسبوقة لتطوير وإنضاج حلٍّ للدفع المحلّي من الصفر. على الرغم من إجراء بعض الدراسات حول مخطط وطني في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين – قبل أن يتم تأجيل الأمر بعد الأزمة المالية العالمية – فقد بدأ العمل بجدية في أواخر العام 2014.

كان مسارُ تطوير نظام المدفوعات الوطني الروسي، المعروف باسم “مير” (يعني السلام أو العالم)، مُدهشاً. بدأت البنوك الروسية الأولى إصدار بطاقات “مير” في إطار مشروع تجريبي في أواخر 2015. وبعد عام، تمّ إصدارُ أكثر من 1.75 مليون بطاقة، قفزت إلى 19 مليون بحلول الربع الأخير من العام 2017، وفقاً لبيانات وكالة الأنباء الحكومية “تاس”. وتسارع هذا الاتجاه بشكلٍ لافت: في بداية العام 2018، تم إصدار حوالي 30 مليون بطاقة، ووصلت إلى ما يقرب من 100 مليون بحلول حزيران (يونيو) 2021، وفقاً للأرقام الصادرة عن نظام بطاقات الدفع الوطني الروسي.

“لقد كانت قصة نجاح هائلة. لم تكن لتحدث [بهذه السرعة] لولا نظام العقوبات. تمتلك روسيا الآن أصولاً إستراتيجيةً يتمّ التحكّم فيها وإدارتها من داخل البلاد”، يقول بيتر كينان، المؤسس والرئيس التنفيذي لشركة “إيبكس غلوبال” (Apexx Global)، وهي شركة متخصصة بالمدفوعات الرقمية.

تدخّل الحكومة

اليوم، يتمتّع نظام مدفوعات “مير” بحصّةٍ سوقية تزيد عن 25٪ من حيث إجمالي قيمة معاملات الدفع في روسيا، وفقاً للأرقام التي نشرتها “غلوبال داتا” (GlobalData). قصة النمو المُذهلة هذه هي ما يُميز “مير” عن مبادرات الدفع المحلية الأخرى. على الرغم من أن الأسواق الأخرى قد أنشأت خطط الدفع الوطنية الخاصة بها للتحايل على عمالقة الدفع في أميركا، إلّا أن أياً منها لم يُضاهِ إنجازات “مير” خلال هذه الفترة الزمنية القصيرة. بهذا المعنى، لعب تدخّل الحكومة الروسية دوراً كبيراً في دفع “مير” إلى الأمام وتعزيزه.

“أحد تحدّيات إنشاء نظام دفع جديد هو أنه من ناحية النظام البيئي فهو يحتاج إلى أن تكون لدى ملايين العملاء الذين لديهم البطاقة رغبة باستخدامها للدفع، وعلى الجانب الآخر يحتاج إلى الكثير من المتاجر والمواقع الإلكترونية التي ستقبله. وينبغي تنمية كلاهما في الوقت عينه”، يقول كينان.

“وهذا ما كان مُذهلاً للغاية في هذا الخصوص، لأن ما تمكّنت روسيا من القيام به هو تنمية كلا جانبي النظام البيئي بشكل كبير – لدرجة أن كل موقع إلكتروني ومتجر في روسيا يقبله الآن، وتقريباً كل شخص بالغ في روسيا لديه بطاقة “مير”. وما دفع إلى تحقيق هذا النجاح هو دعم الحكومة الروسية له”، كما يقول.

لتحقيق هذا النمو، طلبت الحكومة الروسية من المُقرضين الروس العمل على دمج مدفوعات “مير” كأولوية، على حساب مشاريع أخرى. بالإضافة إلى ذلك، يجب دفع مداخيل موظفي الدولة – من الممرضات إلى موظفي الخدمة المدنية – في الحسابات المصرفية المرتبطة ببطاقات “مير”. هذا بالإضافة إلى القواعد التي تتطلب من التجار الذين تجاوزوا معدل دوران معين قبول مدفوعات “مير”، مع خفض الحد الأدنى لها بمرور الوقت.

إلى جانب هذه الإجراءات، حرصت السلطات الروسية أيضاً على جعل “مير” أكثر جاذبية عبر نظام الدفع البيئي. “[خطوة أخرى] اتخذتها الحكومة الروسية لتحسين التبنّي تتمثّل في خفض رسوم التبادل لتقليل تكلفة المدفوعات على شبكة “مير””، كما يقول كياران تشو، مدير الممارسة للحوسبة السحابية العامة في “إيه سي آي وورلدوايد” (ACI Worldwide). تم تحديد رسوم التبادل لمدفوعات “مير” حالياً عند 0.8٪ على بطاقات الخصم و1.3٪ على بطاقات الائتمان، وهو أقل بكثير من مخططات الدفع الأجنبية العاملة في روسيا.

التوسّع الدولي

بعدما اكتسب نظام “مير” قوّة دفعٍ محلياً، فقد بدأ يتطلع إلى إنشاء مدار مدفوعاته الخاص على المستوى الدولي. وقد لعب تدفّق السياح الروس إلى دولٍ عبر الاتحاد السوفياتي السابق وشمال آسيا، وكذلك تركيا، الذين يتطلعون إلى استخدام بطاقات “مير” الخاصة بهم، دوراً في هذه القصة. ولكن الأمر نفسه ينطبق أيضاً على طبيعة النظام الفعّالة من حيث التكلفة والدافع نحو الشمول المالي في معظم أنحاء آسيا الوسطى. بينما تتطلع الحكومات الإقليمية إلى تقليل المدفوعات النقدية، فإنها تلجأ إلى “مير” كوسيلة للقيام بذلك مع تعزيز الشمول المالي.

“يتم قبول مدفوعات “مير” في 11 دولة و، باستثناء تركيا، يتمتع الكثير من هذه الأسواق بمستوى منخفض جداً من مدفوعات البطاقات. لذا، هناك زاوية شمول مالي لهذا”، كما يقول تشو.

خُذ طاجيكستان على سبيل المثال: في شباط (فبراير) 2020، أعلنت السلطات الطاجيكية قبول بطاقات “مير” على شبكة الدفع الوطنية “كورتي ميلي” (Korti Milli). في المدى الطويل، من المُتوقع أن يقوم الأعضاء المُكَوِّنون لـ”كورتي ميلي” بإصدار بطاقات “مير” الخاصة بهم للعملاء لاستخدامها في البلاد وفي جميع أنحاء المنطقة الأوسع، وفقاً لتعليقات سيرغي بوشاريف، نائب المدير العام لنظام الدفع “مير”.

على هذا النحو، يُشير التوسّع السريع لمدفوعات “مير” في روسيا وما ورائها إلى نموِّ شيءٍ يشبه شبكة المدفوعات الأوروبية- الآسيوية المستقلة تماماً عن الحلول الغربية. مع وجود موسكو في قلب هذا النظام، فهي مثالٌ واضحٌ على القوّة الناعمة الروسية السائدة في جميع أنحاء المنطقة على حساب الولايات المتحدة واحتكارها الثنائي للبطاقات. على الرغم من أنه من غير المرجح أن يُحقّق “مير” نطاقاً عالمياً حقيقياً، إلّا أن انتشاره آخذٌ في الازدياد، بما في ذلك من خلال الاتفاقات مع منصّات الدفع الرائدة الأخرى، مثل “أليباي” (Alipay) في الصين.

“الشيء الذي كان الروس أذكياء فيه هو الارتباط مع “أليباي”. هذا يزيد من أهمية مدفوعات “مير” خارج روسيا وبعض جيرانها المباشرين. حقيقة أنه يمكنك بالفعل نقلها إلى شركاء محددين، مثل “أليباي”، هو أمر مهم”، يقول تشو.

بالتطلّع إلى المستقبل، فإن قبول مدفوعات “مير” لن يتوسّع إلّا خلال السنوات المقبلة، وإن كان بدرجة أقل بكثير من العديد من العروض العالمية الحالية. ومع ذلك، فإن أهمية نظام “مير” لها علاقة أكثر بما يُمثّله. على سبيل المثال، كما يجادل كينان من “إيبكس غلوبال”، فإنه يقدم نموذجاً للولايات القضائية الأخرى لاتباعه من حيث التطور السريع لنظام الدفع الأصلي. يمكن أن ينتج عن هذا الدعم المُنسَّق للدولة مخطط دفع بهذا الحجم لم يكن ليمر مرور الكرام في أيِّ مكان آخر من العالم. لا يقتصر الأمر على أن نظاماً من هذا النوع أرخص من البدائل العالمية، ولكنه أيضاً يحتفظ بمجمعات إيرادات المدفوعات على المستوى المحلي بالكامل، بينما يحمي الحكومات من العقوبات التي قد تكون عقابية.

يقول كينان: “أصبحت نُظُم الدفع الرقمية أكثر أهمية للاقتصادات الوطنية وكيف تتحكّم في أنظمة الدفع الخاصة بها، حيث يتم استخدام النقد بشكل أقل وأقل”.

كما أنه يؤكد الفكرة بأن الاقتصاد العالمي أصبح مُفَكَّكاً بشكل متزايد. وبهذا المعنى، فإن الانتقال من العولمة نحو المزيد من الهياكل الإقليمية والمحلية، من سلاسل التوريد إلى شبكات الدفع، أصبح ساري المفعول بالكامل. على هذا النحو، يمكن رؤية نمو “مير” في سياق مخططات الدفع المحلية والإقليمية الأخرى، بما فيها مبادرة المدفوعات الأوروبية، والتي تهدف إلى ضمان استقلالية هذه الشبكات الحيوية. وفي البحث عن نفوذ إستراتيجي، تتجه الأنظار الآن إلى أنظمة الدفع.

  • محمد سليم هو صحافي لبناني مُقيم في لندن من أسرة “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى