جمال عبد الناصر والفلسطينيون: العلاقة بينهما بعيونٍ أميركية

رفعت واشنطن أخيراً السرية عن وثائق تتعلق بالرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر وعلاقته بالفلسطينيين وقضيتهم وإسرائيل والولايات المتحدة، والتي تكشف الكثير عما دار وكان يدور سرياً في ذلك الزمن وخصوصاً قبل وبعد حرب 1967.  

عبد الناصر وياسر عرفات: دعم الأول الثاني كثيراً ولكن…

مايكل شارنوف*

بعد ما يقرب من واحد وخمسين عاماً على وفاته، لا يزال الرئيس المصري جمال عبد الناصر يُعتَبَرُ شخصيةً مرموقةً لدفاعه القوي عن القومية العربية بشكلٍ عام، والقضية الفلسطينية بشكلٍ خاص. وقد نظّمَ ملتقى العروبة في متحف محمود درويش في رام الله في 2017 ندوةً ومعرضاً للاحتفال بإرث عبد الناصر في النضال ضد إسرائيل تحت عنوان “عبد الناصر في فلسطين، بينما ادّعى كاتب عمود فلسطيني أنه لو كان الرئيس المصري على قيد الحياة اليوم، لكان العالم العربي واصل مسيرته نحو الوحدة و”تحرير فلسطين”.

على الرغم من بعض الأصوات المُعارِضة، يبدو أن شعبية عبد الناصر بين الفلسطينيين مستمرة بسبب ذكرياته العزيزة عن تعهّداته النارية بتدمير إسرائيل ورفضه تحقيق السلام مع الدولة اليهودية. ومع ذلك، تكشف الوثائق التي رُفِعَت عنها السرّية أخيراً أن نصرة عبد الناصر للقضية الفلسطينية كانت مدفوعة إلى حدٍّ كبيرٍ بدوافع خفيّة للتعظيم الشخصي والقيادة القومية العربية. في الواقع، كما يتضح من قبوله لقرار الأمم المتحدة رقم 242 في تشرين الثاني (نوفمبر) 1967 وخطة روجرز في تموز (يوليو) 1970، فضلاً عن اتصالاته الخاصة مع المُحاورين السوفيات والأميركيين والبريطانيين من بين آخرين، بدا عبد الناصر قابلاً ومُستَعِدّاً للتخلي عن القضية الفلسطينية من أجل اتفاقٍ مصري ـ إسرائيلي مُنفَصلٍ يُعيدُ شبه جزيرة سيناء إلى سلطة القاهرة.

سنوات اللامبالاة، 1952-1954

خاضَ عبد الناصر تجربة قتالية مباشرة عندما كان رائداً في الجيش، وهو في الثلاثين من العمر، في الحرب العربية-الإسرائيلية في العام 1948، وألقى باللوم على الأداء العسكري الضعيف لمصر على الملك فاروق الذي اعتبره خادماً فاسداً لبريطانيا. وكتب في مذكراته: “شعرتُ من أعماقِ قلبي أنني كنتُ أكرهُ الحرب، ليس فقط هذه الحرب بالذات التي انخرطنا فيها، ولكن فكرة الحرب نفسها. لقد شعرتُ أن البشرية لا تستحق شرف الحياة إذا لم تُكافِح من كلِّ قلبها من أجل قضية السلام”.

على الرغم من دفاع عبد الناصر العلني عن القضية الفلسطينية، فهو لم يؤيد هذه القضية خلال مسيرته المهنية المُبكِرة، كما بدا غالباً غير مُبالٍ بالفلسطينيين ومُتردِّداً في مواجهة إسرائيل. في أوائل الخمسينات الفائتة، اعتبرت تقارير المخابرات الأميركية والبريطانية عبد الناصر مُعتَدِلاً لن يتجنّب أي اتفاق مُحتَمَل مع إسرائيل. في الواقع، في العام 1952، ذكر بعض التقارير أن عبد الناصر انخرط في محادثات سرّية مع إسرائيل، وبينما فشلت هذه المحادثات في تحقيق أي نتائج، فقد كشفت عن شعورٍ بالبراغماتية والاهتمام بالاتفاق السياسي.

في آب (أغسطس) 1954، قال عبد الناصر لصحيفة لوموند الفرنسية اليومية إن مصر بحاجة إلى السلام للتركيز على القضايا الداخلية، وأن بإمكان واشنطن تسهيل السلام بين إسرائيل والدول العربية. وفي محادثة مع سياسي بريطاني مؤيّد لإسرائيل، قال عبد الناصر إنه لا يرغب في تدمير إسرائيل وأن “فكرة إلقاء اليهود في البحر هي للدعاية”. وكرّر هذا الادعاء لمراسل نيويورك تايمز وفي مقال في مجلة فورين أفيرز: “الحرب ستجعلنا نخسر، لا أن نكسب، الكثير مما نسعى إلى تحقيقه”.

لتأكيد نفور عبد الناصر الظاهري من الحرب، استذكر إسحق رابين لقاءه مع الرئيس المصري المُستَقبلي خلال المفاوضات العسكرية المحلية خلال حرب العام 1948: “كان عبد الناصر يجلس إلى جانبي. نظر إلى شعار “البلماح” (قوة النخبة المقاتلة في الهاغاناه) وسألني ماذا يعني، وشرحت له. ثم قال لي إن الحربَ التي نخوضها هي حربٌ خاطئة ضد العدو الخطأ في الوقت الخطأ. وأتذكر ذلك، لأنه لم يقلها على انفراد”.

ما الذي أدّى بعد ذلك إلى التغيير الكبير في موقف عبد الناصر من القضية الفلسطينية في منتصف الخمسينات الفائتة؟ بينما يُشيرُ بعض الخبراء إلى عملية التخريب الإسرائيلية الفاشلة في العام 1954 في مصر كنقطة تحوّل، فمن المنطقي أن نعزو التغيير إلى سعي عبد الناصر الطموح إلى السلطة والمكانة. إن مغازلته لإيديولوجياتٍ مُختلفة في طريقه إلى السلطة، والرؤية العظيمة لدور مصر الجيوسياسي التي تبنّاها في مذكراته، واحتضانه المحسوب للعروبة، كُلّها تُشيرُ إلى هذا الاتجاه.

عندما كان مُراهِقاً في منتصف الثلاثينات من القرن الماضي، أمضى عبد الناصر بعض الوقت في حزب مصر الفتاة القومي المُتطرّف، وفي العقد التالي، بصفته ضابطاً شاباً، انضم إلى جماعة “الإخوان المسلمين” وكان نشطاً في تنظيمها شبه العسكري المدعو “التنظيم الخاص”. وبحسب الرائد خالد محيي الدين، أحد زملائه في تنظيم “الضباط الأحرار” الذي أطاح النظام الملكي في تموز (يوليو) 1952، فقد التقى عبد الناصر بالزعيم المؤسس للإخوان حسن البنا في العام 1947 وأقسم الولاء للحركة الإسلامية على مسدس ونسخة من القرآن. ومع ذلك، فإن هذا لم يمنع عبد الناصر من ترك جماعة الإخوان بعد حرب العام 1948 عندما لم تَعُد تخدم احتياجاته السياسية، ثم شنّ حملة تطهير مستمرة ضدها بعد محاولتها اغتياله في تشرين الأول (أكتوبر) 1954 بعدما أدركت بأن نظامه لا ينوي إقامة دولة إسلامية في مصر. وبتجاهلِه للطريقة الإسلامية، أصبح عبد الناصر مُرتَدّاً أو كافراً في نظر الإخوان وعقبة أمام تحقيق أهدافهم حيث كان لا بدّ من إزالته. “عبد الناصر استخدم الإخوان وأساء إليهم من أجل مصالحه الأنانية”، هذا ما قاله مسؤولٌ كبير في جماعة “الإخوان المسلمين”.

في بحثه عن السلطة والمجد، سعى عبد الناصر إلى قضيةٍ جديدة من شأنها رفع مكانة مصر ومكانته. وكتب في كتابه “فلسفة الثورة”: “لا يُمكننا أن ننظر إلى خريطة العالم … من دون أن نُدرِكَ موقع مصر على الخريطة ودورها بمنطق ذلك الموقع”.

ويتابع: هل يُمكن ألّا نرى أن هناك منطقة عربية تُحيط بنا؟ … هل يُمكننا أن نتجاهل حقيقة أن هناك قارة أفريقية جعلنا القدر جُزءاً منها؟ .. هل يُمكننا أن نتجاهل حقيقة وجود عالم إسلامي تُوَحِّدنا به روابط المبادئ الدينية التي تُعزّزها الحقائق التاريخية؟ … يُذهلني دائماً أنه في هذه المنطقة التي نعيش فيها هناك دَورٌ يدور حولنا بلا هدف يبحث عن بطل … الدور موجود، خصائصه تمَّ وصفها، هذا هو المسرح، بموجب قوانين الظروف الجغرافية، نحن وحدنا قادرون على لعبه”.

كان من الصعب تحقيق الوصول إلى قيادة العالم الإسلامي في ظل اضطهاد عبد الناصر المستمر لجماعة “الإخوان المسلمين”. كما كانت القيادة الأفريقية بعيدة المنال نظراً إلى التهميش النسبي الذي عرفته مصر في القارة السمراء وتَعاطُف الدول الأفريقية مع إسرائيل وكفاحها الوطني ضد البريطانيين، بالإضافة إلى برامج المساعدات الإسرائيلية للقارة. وهكذا، كانت “المنطقة العربية” أكثر طرق عبد الناصر وعداً للسلطة والمجد. لتحقيق هذا الهدف، اختار دعم عقيدة القومية العربية، التي هيمنت على السياسة العربية البينية منذ سقوط الإمبراطورية العثمانية، مُتَصَوِّرةً إنشاء دولة عربية واسعة مُوَحَّدة على أنقاض الإمبراطورية العثمانية.

مهما كان الأمر، فإن تأييد عبد الناصر للقضية الفلسطينية لم يكن مدفوعاً بشكلٍ خاص بالاهتمام بالحقوق الوطنية الفلسطينية، لأن العروبة لم تعتبر الفلسطينيين أمّةً مُتميّزة تستحق دولة خاصة بها، ولكن كجزءٍ لا يتجزّأ من دولة عربية مُوَحَّدة مستقبلية. وكما قال المؤرخ البارز فيليب حتي أمام لجنة تحقيق أنغلو-أميركية بشأن فلسطين في العام 1946: “لا يوجد أي شيء يُدعى فلسطين في التاريخ، بالتأكيد لا”. بعد عقد من الزمان، قال عبد الناصر لصحافي غربي: “الفلسطينيون مفيدون للدول العربية كما هم … هل يُمكنك تخيّل دولة أخرى على شواطئ شرق البحر الأبيض المتوسط؟!”.

لنأخذ، على سبيل المثال، معاملته للسكان الفلسطينيين البالغ عددهم في ذلك الحين 250 ألف نسمة في قطاع غزة (كثيرٌ منهم من اللاجئين)، الذي احتلته مصر خلال حرب العام 1948. على الرغم من إعلان جامعة الدول العربية (مع إعتراضٍ وحيدٍ من شرق الأردن) في أيلول (سبتمبر) 1948 عن تشكيل حكومة عموم فلسطين التي كان اختصاصها يمتد على كامل أراضي البلاد من نهر الأردن إلى البحر الأبيض المتوسط​​، إلّا أنها كانت في الواقع دُميةً مصرية لا سلطة فعلية لها. عبد الناصر، الذي ورث هذه المهمة من النظام الملكي، لم يفعل شيئاً يُذكَر لتغيير هذا الوضع، وفي العام 1959، تخلّى عن التظاهر بالسيادة الفلسطينية تماماً وألغى حكومة عموم فلسطين.

ولم يفعل عبد الناصر الكثير لتحسين الوضع الاقتصادي والسياسي لسكان غزة ، ناهيك عن دفعهم نحو إقامة دولة. على عكس الفلسطينيين في الضفة الغربية، الذين حصلوا على الجنسية الأردنية وتم دمجهم في النسيج الاجتماعي والاقتصادي للمملكة (وإن كان ذلك مع قدر جيد من التمييز)، لم يُمنَح سكان غزة الجنسية المصرية، بل تم الاحتفاظ بهم في مخيمات قذرة كأداةٍ سياسية ودعاية ضد إسرائيل. عمل المُحافظون (الولاة) المصريون المتعاقبون على إخضاعهم من خلال قيودٍ صارمة على الأنشطة السياسية وحرية التنقل. ولم يتغيّر هذا الوضع حتى احتلت إسرائيل القطاع خلال حرب حزيران (يونيو) 1967.

قمّة الدعم، 1955-1966

ومهما كانت مشاعره الحقيقية تجاه الفلسطينيين، فقد كان عبد الناصر مُدرِكاً تماماً أن فوزه بالعباءة العربية يتطلّب تصعيداً لخطابه وسياساته المُناهِضين لإسرائيل، لأن هذه الإيديولوجية ترفض وجود دولة يهودية على ما تعتبره جزءاً من “الإرث العربي”.

نظراً إلى أنه كان مُتردّداً في الانجرار إلى حربٍ شاملة مع إسرائيل، في أواخر العام 1954، بدأ عبد الناصر باستخدام فلسطينيين من غزة درّبهم المصريون (أُطلِقَ عليهم اسم فدائيون) لشنّ هجماتٍ على أهدافٍ مدنية داخل إسرائيل، والتي وصفها بأنها أعمالٌ بطولية للتضحية لتسريع تدمير إسرائيل. وقال في خطابٍ حظي بتغطية إعلامية في 31 آب (أغسطس) 1955: “مصر قررت إرسال أبطالها، تلاميذ فرعون وأبناء الإسلام، وسوف يُطهّرون أرض فلسطين. لن يكون هناك سلامٌ على حدود إسرائيل لأننا نُطالب بالثأر، والثأر هو موت إسرائيل”.

وبدلاً من القضاء على إسرائيل، أدّت الغارات الفدائية إلى حملةٍ انتقامية إسرائيلية مُتواصلة ضد أهدافٍ عسكرية مصرية في غزة، مما أسفر عن مقتل عشرات الجنود المصريين وإهانة الجيش المصري والرئيس المصري. كما لعبت هذه  الهجمات دوراً رئيساً، جنباً إلى جنب مع صفقةِ أسلحة مصرية سوفياتية ضخمة تم توقيعها في العام 1955، في دفع إسرائيل للانضمام إلى بريطانيا وفرنسا في حرب السويس في تشرين الأول (أكتوبر) وتشرين الثاني (نوفمبر) 1956، والتي هزمَت جيوشها خلالها القوات المسلحة المصرية في سيناء واحتلت شبه جزيرة سيناء في غضون أسبوع.

لحسنِ حظّ عبد الناصر، كان أداء القوات الأنغلو-فرنسية التي هبطت في قناة السويس أقل إثارة للإعجاب (مع تدخّل الرئيس الأميركي إيزنهاور)، مما سمح له بتقديم الحرب على أنها انتصارٌ مصري مُتَوَهِّج على “العدوان الثلاثي” وترسيخ مكانته الإقليمية والدولية. مُتسلِّحاً بهذا التفوّق الجديد، كثّف عبد الناصر حملته الدعائية ضد إسرائيل. في بعض الأحيان، عاد ببساطة إلى العبارات الملطفة المعيارية لتدمير إسرائيل مثل “تحرير فلسطين” و”استعادة الحقوق الكاملة لشعب فلسطين”. وأعلن، “إذا عاد اللاجئون إلى إسرائيل، فإن إسرائيل سوف تتوقّف عن الوجود”. في مناسبات أخرى، ادّعى أنه مثلما أدّت الانقسامات العربية إلى “كارثة” في العام 1948، فإن القضاء على آثار الاستعمار الغربي في المنطقة، أوّلاً وقبل كل شيء، “الزرع الصهيوني الإمبريالي الخبيث” لن يتحقّق إلّا من خلال الوحدة العربية الكاملة. وعلى حد تعبير ميثاق رسمي لعام 1962 يُحدّد فلسفة مصر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية: “إن إصرارَ شعبنا على تصفية العدوان الإسرائيلي على جزء من أرض فلسطين هو إصرار على تصفية أحد أخطر جيوب المقاومة الإمبريالية ضد نضال الشعوب. إن متابعتنا لسياسة التسلل الإسرائيلية في إفريقيا ما هي إلّا محاولة للحد من انتشار سرطان إمبريالي مُدمّر”.

في حالاتٍ أخرى، إحتوَت دعاية عبد الناصر على تعصّبٍ مُباشرٍ ضد اليهود. في العام 1965، على سبيل المثال، وزّعت وزارة الإعلام المصرية مادة مُعادية للسامية في إفريقيا بعنوان “إسرائيل، عدوّة إفريقيا”، والتي شوّهت اليهودية وأساءت إلى سمعة اليهود ووصفتهم بـ “الغشّاشين واللصوص والقتلة”. ولدعم مزاعمهم المُتعصّبة، استشهد المؤلّفون بعمليتين سيئتي السمعة مُعاديتين للسامية، وهما البروتوكولات الروسية لحكماء صهيون و”اليهودي الدولي” لهنري فورد. من جانبها، وصفت مجلة الجيش المصري الماسونيين بأنهم مجتمعٌ يهودي سرّي يسعى إلى القضاء على المسيحية من خلال “إغراء الشباب المسيحيين وجذبهم إلى أحضان اليهود وإلى الخراب الأخلاقي”.

لا يقل أهمية عن ذلك، في العام 1964، أنشأ عبد الناصر، بمساعدة سوفياتية، منظمة التحرير الفلسطينية وعيّن الفلسطيني، اللبناني المولد، أحمد الشقيري، السفير السوري والسعودي السابق لدى الأمم المتحدة، رئيساً لها. في ظاهر الأمر، كانت هذه خطوة جريئة لتعزيز القضية الوطنية الفلسطينية. في الواقع، كانت حيلة ذكية لمنح الرئيس المصري السيطرة الكاملة على هذه القضية كما أشارت منظمة “فتح” التي يرأسها ياسر عرفات، والتي تأسست قبل ذلك بسنوات قليلة. في الواقع، حتى الميثاق الوطني الفلسطيني، وهو أحد الوثائق التأسيسية لمنظمة التحرير الفلسطينية الرافضة لشرعية إسرائيل والحثّ على تدميرها، حدّد فلسطين على أنها جزءٌ من “الوطن العربي” وربط “تحريرها” بالقضية العربية التي أصبحت في ذلك الوقت مُرتبطة بشكلٍ كاملٍ بعبد الناصر: “الوحدة العربية وتحرير فلسطين هدفان مُتكاملان؛ كلُّ واحدٍ يُحضّر لتحقيق الآخر. الوحدة العربية تؤدي إلى تحرير فلسطين، وتحرير فلسطين يؤدي إلى الوحدة العربية. العمل لكليهما يجب أن يسير جنباً إلى جنب”.

في الوقت نفسه، تخلّى الميثاق الفلسطيني عن “أي سيادة إقليمية على الضفة الغربية في المملكة الأردنية الهاشمية، [و] على قطاع غزة”، وبالتالي استبعد فعلياً هاتين المنطقتين، اللتين تحتلهما الأردن ومصر على التوالي منذ حرب 1948، من أراضي فلسطين “المُحرَّرة”. (بعد أربع سنوات، تم حذف هذا الاستثناء من النسخة المُعَدَّلة من الميثاق، بعد احتلال إسرائيل للضفة الغربية وغزة خلال حرب حزيران (يونيو) 1967).

من خلال المواجهة مع منظمة التحرير الفلسطينية، سعى عبد الناصر إلى الظهور بمظهرٍ راديكالي ومُعتدل في الوقت عينه من أجل تعزيز مكانته العربية من ناحية، وتعظيم المكاسب السياسية والاقتصادية من موسكو وواشنطن (وكذلك الدول العربية) من ناحية أخرى. وهكذا، أثناء مخاطبته الجماهير الغربية، كان عبد الناصر يُقلّل من شأن الدعوات الفلسطينية لتدمير إسرائيل باعتبارها كلاماً مُبالغاً فيه، مشيراً إلى اتفاقات الهدنة لعام 1949 كدليل على أن القاهرة قد قبلت فعلياً حقيقة وجود إسرائيل. لكن أثناء مخاطبته الجماهير العربية، لا سيما في دول متطرفة مثل سوريا والعراق والجزائر، كان يُشدّد على نصرة مصر للنضال الفلسطيني من أجل تدمير إسرائيل مع الامتناع عن الحديث عن تفاصيل كيفية “تحرير فلسطين”. وهكذا، على سبيل المثال، جادل في خطابٍ ألقاه في تشرين الثاني (نوفمبر) 1965 بأن هدف مصر كان تدمير إسرائيل، لكنه رفض أن يُوضّح كيف ومتى سيتم تحقيق ذلك بحجة أن التفصيل في هذه القضية لن يُفيدَ إلّا إسرائيل. بعد ثمانية أشهر، مُخاطباً حشداً كبيراً، ادّعى عبد الناصر أن القوة الحقيقية لمصر والعالم العربي تكمن في تفوقهما الديموغرافي الساحق على إسرائيل وأن الطريقة الوحيدة لـ “تحرير فلسطين” هي تعبئة جيشٍ عربي قوامه أربعة ملايين جندي للقتال وتدمير إسرائيل. أدّت مثل هذه التصريحات الغامضة إلى استنتاجٍ لأحد تقارير الإستخبارات الأميركية أن “موقف عبد الناصر الرئيس تجاه إسرائيل كان للدفاع عن مصر من إسرائيل، وليس لهجوم مصر عليها”.

ومع ذلك، بحلول أيار (مايو) 1967، دفعت سياسة عبد الناصر تجاه فلسطين والدعاية المُعادية لإسرائيل التي أثارها في العالم العربي إلى سلسلة من التحرّكات الاستفزازية للغاية التي أدّت إلى توجيه ضربة إسرائيلية استباقية. لقد أمر بنقلِ قواتٍ مصرية كبيرة إلى شبه جزيرة سيناء المنزوعة السلاح. وطرد قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة التي تم نشرها على طول الحدود الإسرائيلية-المصرية منذ حرب 1956. وحاصر مضيق تيران أمام الشحن الإسرائيلي، الأمر الذي اعتبرته الأمم المتحدة غير قانوني وعملاً يُبرّر الحرب؛ ووقّع اتفاقية دفاع عسكري مع الأردن والتي تشير إلى أن الحرب كانت وشيكة. واعترف عبد الناصر قبل أسبوع من اندلاع الأعمال العدائية: “علمنا أنه بإغلاق خليج العقبة، قد يعني ذلك حرباً مع إسرائيل. [إذا وقعت الحرب] ستكون شاملة، وسيكون الهدف تدمير إسرائيل”.

سياسة مصر أولاً، 1967-1970

كما حدث في ما بعد، لم يتم تدمير إسرائيل في الحرب التي تلت في 5 حزيران (يونيو) 1967 فحسب، ولكن في أسرع حملة عسكرية في التاريخ الحديث، هزمت القوات الإسرائيلية القوات المصرية والأردنية والسورية مجتمعة في ستة أيام واستولت على مناطق شاسعة تساوي ثلاث مرات حجمها، بما فيها قطاع غزة بسكانه الفلسطينيين البالغ عددهم حينذاك  500 ألف نسمة والضفة الغربية وسكانها الفلسطينيين البالغ عددهم 800 ألف نسمة. في مواجهة هذه الهزيمة المهينة، سارع الرئيس المصري إلى تغيير هدفه الأول في السياسة الخارجية من “تدمير الدولة اليهودية” إلى “إزالة أثار العدوان” – وهي عبارة غامضة لم تُحدّد ما ينطوي عليه هذا الإجراء وأي أراضٍ ستُحررها مصر. هل يجب أن تعطي الأولوية لتحرير سيناء التي كانت جُزءاً لا يتجزّأ من أراضيها؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل يشمل غزة، التي كانت خارج حدود مصر ولم يتم اعتبارها جُزءاً من الوطن الأم؟ هل اقترح عبد الناصر أن تساعد مصر الأردن وسوريا على “إزالة آثار العدوان” في القدس والضفة الغربية ومرتفعات الجولان، أم أن استعادة هذه الأراضي هي مسؤولية الدولتين وحدهما؟ هل ستتحرّر المناطق بالقوة أم بالديبلوماسية أم بكليهما؟ وهل سيرفض عبد الناصر حلاً سياسياً مع إسرائيل لا يؤدي إلّا إلى عودة الأراضي المصرية المفقودة؟ وهكذا كانت لغة عبد الناصر الغامضة عمداً خياراً استراتيجياً مُصَمَّماً لتوفير أكبر قدرٍ مُمكنٍ من المرونة في التوصل إلى تسوية سياسية مع إسرائيل بدون استبعاد الخيار العسكري.

ومن أجل “إزالة آثار العدوان” شاركت مصر في مداولات الأمم المتحدة بشأن الصراع في صيف وخريف العام 1967 حيث أصرّت على انسحابٍ إسرائيلي كامل إلى خطوط ما قبل الحرب. بالتزامن مع ذلك، جرت محادثات سرية وطَرَحَ العديد من المسؤولين والوسطاء الأجانب خططاً لإنهاء حالة الحرب بين مصر وإسرائيل. وبينما لم تنضج أيٌّ من هذه المبادرات الخاصة لتصبح اتفاقات سلام كاملة، تكشف الوثائق التي رُفِعَت عنها السرية أخيراً عن استعداد عبد الناصر في حينه ليس فقط للتوصل إلى تسوية سياسية مع إسرائيل ولكن أيضاً لقبول ترتيبٍ قائمٍ على الحدود المصرية-الإسرائيلية. غالباً ما جرت المناقشات حول مثل هذه الاتفاقية بدون أن يَذكُرَ عبد الناصر مصير الفلسطينيين، أو إذا فعل ذلك، من خلال التلميح إلى نهجٍ أكثر براغماتية يُقدّم تعويضات للاجئين بدلاً من إعادتهم إلى إسرائيل (وهو المصطلح القياسي للتخريب الديموغرافي للدولة اليهودية). كما لم يوجه عبد الناصر تهديدات علنية لتدمير إسرائيل خلال هذه المحادثات الخاصة، ونادراً ما ظهرت في خطاباته العامة في ذلك الوقت.

وهكذا، على سبيل المثال، كشفت مذكرة استخباراتية أميركية أنه في وقت مبكر من حزيران (يونيو) 1967، وردّاً على رسائل عدة من أطرافٍ ثالثة لم تذكر من هي، ورد أن عبد الناصر وافق على الاعتراف بإسرائيل والسماح للشحن الإسرائيلي عبر مضيق تيران، بشرط إجراء المفاوضات معه بشكلٍ سري وخاص من قبل مبعوثين شخصيين للرئيسَين الأميركي ليندون جونسون والفرنسي شارل ديغول بدلاً من القنوات الديبلوماسية العادية، كما ينبغي مكافأة مصر اقتصادياً على التنازلات التي تُقدّمها. كرر عبد الناصر استعداده المزعوم لتقديم تنازلات في اجتماع 11 تموز (يوليو) مع نائب وزير الخارجية السوفياتي، ياكوف مالك، مع بقاء قناة السويس مُغلقة أمام الشحن الإسرائيلي. ورأى أنه “في مثل هذه الظروف، فإن منح إسرائيل حق الشحن في القناة سيكون بمثابة ضربة جديدة لنا. يُمكننا قبول أيّ حل سياسي، وأنا شخصياً قد أوافق على أيّ شيء، ولكن ليس على مرور السفن الإسرائيلية عبر القناة”.

إن استعداد عبد الناصر المزعوم للإعتراف بوجود إسرائيل يدلّ على تغييرٍ جذري في التزامه الصاخب الذي دام عقداً من الزمن بتدميرها، على الرغم من أن إصراره على محادثات خاصة وغير مباشرة يُشير إلى إحجامه عن الاعتراف بهذا التغيير علناً. في الواقع، في مرحلة لاحقة من هذا التبادل السري، تراجع عن استعداده الظاهري للاعتراف بوجود إسرائيل. ومع ذلك، فإن استعداده الواضح لمنح الديبلوماسية السرّية فرصةً بدون اشتراطه بحل القضية الفلسطينية (لكن بدلاً منع الشحن الإسرائيلي في القناة)، أوحى إلى بلورة نهج “مصر أولاً”.

كما تمّت ملاحظة هذا التحوّل من خلال ردّ الرئيس المصري على مسودة الاتفاقية التي أعدها نظيره اليوغوسلافي والحليف المقرب جوزيف تيتو للدورة السنوية المقبلة للجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول (سبتمبر) 1967. وفقاً للاتفاقية المتوخاة، والتي كان من المُقرَّر أن تضمنها القوى العظمى الأربع (الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي وبريطانيا وفرنسا)، كان على إسرائيل الانسحاب من الأراضي التي احتلتها خلال حرب 1967 مُقابل إنهاء حالة الحرب وحقوق الملاحة في مضيق تيران وقناة السويس. كان من المُقترَح تجريد مرتفعات الجولان من السلاح بينما تُقسَّم القدس، بما في ذلك المدينة القديمة، على أسس وطنية ودينية. كان سيعود قطاع غزة إلى مصر، والضفة الغربية إلى الحكم الأردني مع بعض التعديلات الحدودية لصالح إسرائيل.

على الرغم من أن هذا الشرط الأخير أغلق الغطاء على فكرة الاستقلال الفلسطيني، فقد اقترح وزير الخارجية المصري، محمود رياض، في محادثة مع نظيره الإيطالي في 4 أيلول (سبتمبر) أن الخطة يُمكن أن تكون بمثابة أساس لتسوية، شريطة ضمان مجلس الأمن الدولي انسحاب إسرائيل إلى حدود ما قبل حزيران (يونيو) 1967. لو تحقّق هذا السيناريو، “لكانت منظمة التحرير الفلسطينية انتهت. انتهت تماماً”، كما اعترف ياسر عرفات في وقت لاحق.

في حين أن خطة تيتو لم يتم طرحها أبداً على الجمعية العامة للتصويت بسبب عدم كفاية الدعم، فقد تكرّر استعداد عبد الناصر الضمني للتخلّي عن القضية الفلسطينية بينما كان يكتفي بإرضاء مصالح مصر المباشرة مرة أخرى بقبوله على مضض لقرار مجلس الأمن رقم 242 الصادر في تشرين الثاني (نوفمبر) 1967، الذي أسس معادلة “الأرض مقابل السلام” كحجر زاوية لمفاوضات السلام العربية-الإسرائيلية المستقبلية وقبل بحق إسرائيل في وجود سلمي وآمن. وبينما فسّر عبد الناصر دعوة القرار لانسحاب إسرائيل “من الأراضي المحتلة في الصراع الأخير” على أنها تتطلب الانسحاب من جميع الأراضي التي احتلتها خلال الحرب، فقد رضخ لـ “تقسيم فلسطين الفعلي ووجود إسرائيل السيادي في ذلك الجزء من فلسطين” الذي صمدت فيه منذ العام 1949″ فضلاً عن استبعاد القرار لإمكانية قيام دولة فلسطينية. في الواقع، لم يذكر القرار الفلسطينيين بالاسم، بل تحدّث عن الحاجة إلى “تحقيق تسوية عادلة لمشكلة اللاجئين”، الذي اعتبر القضية الفلسطينية مشكلة إنسانية فحسب، بدلاً من اعتبارها أيضاً مشكلة وطنية، حيث يمكن تفسيره ليشمل ما يقرب من مليون لاجئ يهودي تم طردهم من الدول العربية أثناء حرب العام 1948 وبعدها. لذا، لا عجب أن منظمة التحرير الفلسطينية رفضت القرار 242 باعتباره “مؤامرة صهيونية”.

إذا كان عبد الناصر يومها مُستعداً لإخضاع القضية الفلسطينية علناً لمصلحة مصر الوطنية، فقد كان أكثر استعداداً لفعل ذلك بشكل سري وعلى انفراد. في اجتماعٍ مع وزير الخارجية الأميركي دين راسك في 2 تشرين الأول (أكتوبر) 1967، كان الوزير المصري رياض على استعداد لتقديمه نيابة عن الفلسطينيين الإبقاء على قناة السويس مُغلقة حتى تساعد إسرائيل إما على إعادة توطين اللاجئين أو تقديم تعويضات. عندما أشار راسك إلى أن رئيس منظمة التحرير الفلسطينية أحمد الشقيري هدّد بقطع رقاب الفلسطينيين ما لم يوافق جميع اللاجئين على العودة، رفض رياض ذلك باعتباره كلمات جوفاء وتفاخر بأن مصر “يُمكن أن تزيل الشقيري”. هذه الملاحظات الفظّة، التي لم يكن من الممكن قولها علناً، تدل ضمنياً على أن منظمة التحرير الفلسطينية، التي دعمها وعزّزها عبد الناصر، كانت أداةً سياسة خارجية يمكن الاستغناء عنها ويمكن التخلّص منها بمجرد انتهاء فائدتها لتحقيق أهداف مصر الوطنية.

من ناحية أخرى، أبدى وزير الخزانة الأميركي السابق روبرت أندرسون بالمثل إعجابه باجتماعاته مع عبد الناصر في 31 تشرين الأول (أكتوبر) و2 تشرين الثاني (نوفمبر). على الرغم من أن الرئيس المصري أخبره أن القادة العرب لا يمكنهم التفاوض مباشرة مع إسرائيل بسبب “اللاءات الثلاث” –لا مفاوضات، ولا اعتراف، ولا سلام مع إسرائيل– التي تبنّتها قمة الخرطوم في 1 أيلول (سبتمبر)، شعر أندرسون أن عبد الناصر بدا مهتماً باتفاقٍ مصري-إسرائيلي، بوساطة وضمان من القوتين العظميين، والذي سيعيد سيناء، وافتراضاً غزة، إلى السيطرة المصرية.

في انعكاسٍ لنهجِه الناشئ عن “مصر أولاً”، لم يُثِر عبد الناصر قضية الأراضي الأخرى التي فُقِدَت خلال الحرب، بما فيها القدس، تاركاً مسؤولية عودتها إلى الأردن وسوريا. وفي ما يتعلق بالفلسطينيين، كرّر عبد الناصر رفض السماح للإسرائيليين بالمرور عبر القناة قبل حلّ مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، رُغمَ أنه أشار إلى وجود مجال للمرونة في هذه النقطة. عندما شكّك أندرسون في أن إسرائيل لا يمكن أن توافق على إعادة اللاجئين في أراضيها، بدا عبد الناصر مرناً بشكلٍ مدهش. قال: “حسناً، إذن، دعونا نتفق معهم بالموافقة على دفع تعويضات لهم، دعونا نحاول أن نكون عمليين، وإذا كنا نريد السلام، ونحن نفعل ذلك، فلنجد طريقة لتسوية خلافاتنا والعيش في سلام”.

كرّر عبد الناصر الموضوع عينه بعد شهر في رسالة شفوية إلى المبعوث الشخصي للرئيس جونسون، المحامي النيويوركي جيمس بيردسال، طلب فيها من واشنطن التأثير على إسرائيل للانسحاب من الأراضي العربية مقابل اتفاقية عدم عداء بين مصر وإسرائيل. متراجعاً عن المطالب العلنية السابقة بإعادة اللاجئين، وافق ناصر الآن على إمكانية إيجاد حلّ للمشكلة “بما يتفق مع استمرار وجود إسرائيل”.

وردّد سياسيون بريطانيون زائرون، أنه لا يمكن تجاهل أهمية هذه الرسائل. ربما كانت عودة اللاجئين إلى أوطانهم أهم بند في الإيمان القومي العربي في ما يتعلق بحل “قضية فلسطين” والتعبير المُلَطَّف المعياري لتدمير إسرائيل من خلال التخريب الديموغرافي. وهنا كان زعيم أقوى دولة عربية والبطل المُعتَرَف به على نطاق واسع للقضية العربية، الذي كان عبّر عن هذا المبدأ في أواخر حزيران (يونيو) 1967، يتخلّى عنه (وإن كان سراً) من أجل إنجاز صفقة منفصلة لكنها قابلة للقبول على ما يبدو بوجود “الكيان الصهيوني”.

إستنتاج

بحلول وقت وفاته في 28 أيلول (سبتمبر) 1970، بدت سياسة عبد الناصر في فلسطين وكأنها قد اكتملت: من عدم الإكتراث واللامبالاة، إلى الاحتضان الكامل والدعم، إلى فك الارتباط والعودة إلى سياسة “مصر أولاً”. في أواخر تموز (يوليو) 1970، وافق على قبول خطة سلام جديدة تبناها وزير الخارجية الأميركي وليام روجرز، حيث قال لمسؤولٍ كبيرٍ في منظمة التحرير الفلسطينية، “سأقبلها. لك مطلق الحرية في رفضها – هذا هو حقك. لكن مهما كان ما تقرّره، لا تنتقدني”. وقال أمام قمة عربية عامة في القاهرة قبل أيام قليلة من وفاته “أنتم تصدرون بيانات ولكن علينا نحن أن نقاتل. إذا كنتم تريدون التحرير، فاصطفوا أمامنا … لكننا تعلمنا الحذر بعد 1967، وبعد أن جرّنا اليمنيون إلى شؤونهم في العام 1962، والسوريون في حرب العام 1967”.

لو كان عبد الناصر مُلتزماً حقاً بالقضية الفلسطينية – وبالتالي بالمُثُلِ العربية العليا – لما كان ليقبل بإسقاط هذه القضية من أجل صفقة مصرية-إسرائيلية منفصلة. بدلاً من ذلك، مثلما كان مُرتَبِطاً بحزب مصر الفتاة والإخوان المسلمين في سعيه إلى تحقيق طموحاته الكبيرة، دافع عبد الناصر عن القضية الفلسطينية طالما ساعد ذلك على دفعه إلى القيادة العربية والحفاظ على هذا الدور. كان الفلسطينيون، مثل الإخوان المسلمين، بيادق مُستَهلَكة يُمكن تجاهلها أو التخلص منها بمجرد استنفاد فائدتها لأهداف عبد الناصر – وبالتالي مصر -.

مع توفر المزيد من المصادر الأولية حول التاريخ المصري والسياسة الخارجية، من الممكن أن تخضع صورة عبد الناصر وإرثه لمزيد من التغيير. ومع ذلك، فمن الممكن تماماً ألّا يكون لهذه الاكتشافات تأثيٌر كبير حيث يستمر العديد من المصريين والفلسطينيين وغيرهم من العرب في النظر إلى عبد الناصر كرمزٍ شاهق وزعيم غير فاسد في العصر الضعيف لإنهاء الاستعمار. وعلى حد تعبير أحد الأكاديميين المصريين، “في نهاية المطاف، كان عبد الناصر الزعيم الذي ترتبط به الغالبية العظمى من الناس؛ لقد كان القائد القوي الذي يتطلع إليه الشعب ويثق به”.

  • مايكل شارنوف هو أستاذ مشارك في مركز الشرق الأدنى وجنوب آسيا للدراسات الاستراتيجية في جامعة الدفاع الوطني في واشنطن. وهو مؤلف كتاب “سلام عبد الناصر: ردّ مصر على حرب 1967 مع إسرائيل”. الآراء التي وردت في المقال تخصّ الكاتب وتُمثّله.
  • كُتِبَ هذا التقرير بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى