شوَيَّا… “مِش شوَيِّة”
راشد فايد*
في زمن الوَلدَنة، كانت لعبة المُصارعة الحرّة تخلبنا كل اهتمام، وكان تسييس جيلنا لا يمنعه عنها، خصوصاً إذا نقلها تلفزيون لبنان. يومها كنا نتعمّد المرور بالمدينة الرياضية لنتأكّد من وجود سيارته للنقل التلفزيوني قربها فنطمئن أن سهرة السبت مضمونة مع الأخوين سعادة وبرنس كومالي وديفيد لانش وغيرهم. كان الغالب على الظن لدينا أنها رياضة فيها الخاسر والرابح، وفيها جدّية في المواجهة. وكم كانت الدهشة عارمة حين اكتشفنا، إثر هجرتنا إلى أوروبا، أن لا علاقة لها بالرياضة بل هي استعراضٌ مثلها كمثل أي استعراض فني في نادٍ ليلي، وأن المواجهات بين طرفيها، أو أطرافها، محكومة بضوابط مُتَّفق عليها بينهم، ولو بدت للمشاهدين غارقة في العنف. فالعنفُ جُزءٌ من الاستعراض، وكلما اشتدّ زاد تتبع المشاهدين وحماستهم وانحيازهم لـ”بطلهم”.
ذكّرني بهؤلاء ما يُسمّيه السيد حسن نصرالله بـ”قواعد الإشتباك” مع “العدو الصهيوني الغاصب والمحتل”، وهي، في الترجمة العملانية ، ترسيم قواعد اللا اشتباك لأن كلا الطرفين يتنافسان في الحرص عليها بما يخدم غايات لكل منهما بعيدة من الحدود، تمتدّ من “صفقة القرن” إلى “مؤتمر فيينا” المُتَحَشرِج، بدليل أن القصف على مساحات شاغرة هنا استلزم البحث عن مساحات شاغرة هناك و”يا دار ما دخلك شر”، أما السيادة الوطنية والرد المؤلم فلموعدٍ لن يأتي، ورحم (إذا أمكن) مَن قالَ أن ردّه سيكون في المكان والموعد المُناسبين، وتركنا ننتظر، منذ تشرين 1973 إلى اليوم، لكن وريثه حافظ على العهد.
عمليّاً، هي هدنة مُقنّعة، بين طرَفَي المواجهة المزعومة، وإسقاطها قرار أبعد من تل أبيب وحارة حريك، فلماذا إذاً زمجرت راجمات الحزب وخصمه في حلبة المنطقة؟ وإذا كان ملاذه أن الصواريخ التي أُطلقت من الجنوب ليست من مقاتليه، فإن اللبنانيين وغيرهم يعرفون أنه، بحسب قول الأمين العام، يحصي أنفاس الإسرائيليين، فهل يعقل أنه لا يعرف من “نسّم” صواريخ من لبنان؟
ربما الجواب في مجريات الأيام القليلة السابقة على زيارة الراجمة لقرية شويا في منطقة حاصبيا الجنوبية. فلقد وقع اشتباك خلدة ولم توائم وقائعه رهبة “حزب الله” وهيبته التي بناها على مر السنين، وزعمه تمدد ما يسميه البيئة الحاضنة إلى كل الطبقات والطوائف.
وربما الجواب أيضاً في ذكرى تفجير مرفأ بيروت في 4 آب، التي فاق جرحها كل صمت، وأسقطت صرخات الأهالي كل رهبة مزعومة، ولم يتردّد الصغير والكبير في الإشارة صراحة وبوضوح إلى دورٍ للحزب لا يُمكن تجاهله في جلب نيترات الأمونيوم وتخزينها واستخدامها ضد الشعب السوري، بفجاجة وعلنية وقحة، لم تُراعِ فطنة اللبنانيين، وما كان في السابق إيماناً بتحرير لبنان من احتلالِ العدو الصهيوني صار بعد ذلك إيماناً تحرير لبنان من الإحتلال الايراني وهيمنته المقنّعة. أما المواجهة مع الأهالي في شويا، وانسجامها مع الفرز بين بيئة حاضنة وأخرى كانت حاضنة وثابت إلى رشدها، ففحواها أن الحزب لم يعد مُحتَضَناّ من معظم فئات الشعب اللبناني بسبب دوره التدميري في الخارج وإلغائه الدولة في الداخل.
ما شهدته بلدة شوَيَّا، “مِش شوَيِّة”.
- راشد فايد هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @RachedFayed
- يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازياً مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).