العَقدُ الإجتماعي في مَرحَلَةِ ما بعد النفط يُواجِهُ مُعْضِلَةً في السعودية والإمارات
تتّخِذُ السعودية والإمارات إجراءاتٍ لتنويعِ مصادر الاقتصاد استعداداً لمرحلة ما بعد النفط، لكن هذه الإجراءات تُهدِّدُ بخلخلة العقد الاجتماعي الضمني المُرتكِز على شرعيةٍ تقليدية قوامها الولاء القبلي وأبوية الحاكم، والحفاظ على الأعراف الاجتماعية، والامتيازات الممنوحة للمواطنين.
ميرا الحسين وإيمان الحسين*
ركّز عددٌ من مُحللي الخليج على مدار الأسابيع الماضية اهتمامهم على تفسيرِ الخلاف الذي عكّر صفو علاقة الحليفين القديمين، المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، وأدّى بكلٍّ منهما إلى اتخاذ مسارات مُتباينة لخدمة مصالحهما الإقليمية والمحلية.
ظهرت أولى علامات التباين في أواخر العام 2019 عندما أعلنت دولة الإمارات عن اعتزامها الانسحاب من اليمن – وهي خطوة وصفها بعض المحللين والمراقبين بأنها “تخلٍّ عن حليف”. وفي شباط (فبراير) 2021، أعلنت الرياض عن نيّتها منع أيّ مُعاملاتٍ تجاريةٍ للشركات الأجنبية التي لا يوجد مقرّها الرئيس في المملكة بحلول العام 2024 – وهي خطوة تمسّ مباشرة الإمارات.
على الرغم من أن ردود الفعل الرسمية كانت هادئة، إلّا أن ترسّبات قراراتٍ سابقة اعتبرها كِلا الجانبين غير مواتية، أدّت إلى ظهور خلافٍ علنيٍ غير مسبوقٍ بينهما في الاجتماع الذي جمع دول “أوبك +” في حزيران (يونيو) 2021.
فور ظهور الخلاف اشتعلت وسائل التواصل الاجتماعي بتعليقات مواطني البلدين الذين سارعوا لدعم الموقف الرسمي لبلديهما في ردِّ فعلٍ تلقائي بدا مُتناقضاً تماماً مع الموقف المُتردّد الذي اتخذوه في أعقاب قرار حصار قطر في 2017، والذي أجبر النائب (المُدعي) العام الإماراتي وقتها على إصدار تحذيرٍ شديد اللهجة يُجرّم التعاطف مع قطر عبر الوسائل الإلكترونية. والواقع أن توجيه الرأي العام لم يكن ضرورياً في خلاف “أوبك +” لأن المواطنين لم يترددوا في دعم المصالح الاقتصادية لبلادهم نظراً إلى مدى تأثير مثل هذه القرارات على الوضع الاقتصادي العام.
ويطرح هذا الموقف الداعم للدولة سؤالاً مفصلياً عن مدى استعداد المواطن الخليجي، الذي قايض الحق في المشاركة السياسية مقابل ما يحصل عليه من امتيازات اقتصادية، قد تكون حالياً مُهَدَّدة بالتضاؤل، لتحدّي العُرفَ السياسي المُستقر القائل بأن إدارة شؤون الدولة وما يترتب عليها من سياسات داخلية وخارجية هي من اختصاص الحكومة وليس المواطن.
ويطرح أيضاً إشكالية جديدة تواجهها كلاً من السعودية والإمارات، بسبب انخفاض عائدات النفط والرغبة في تنويع مصادر الدخل القومي، وهي أن محاولة إضفاء الحداثة على نظام الحكم الهرمي المحافظ بغرض جذب المستثمرين الأجانب قد يُهدّد شرعية العقود الاجتماعية القائمة والمستقرة في كلا البلدين.
حالة المملكة العربية السعودية
تتضمّن “رؤية السعودية 2030″، وهي خريطةُ طريقٍ لاقتصادِ ما بعد النفط، إدخالَ تغييراتٍ اجتماعيةٍ واسعةٍ لجعلِ المملكة أكثر جاذبية للسياح والشركات الدولية. وقد وجدت السعودية، التي تقتفي خُطى دبي، في مساحاتها الشاسعة وموقعها الجغرافي المتميّز على البحر الأحمر فرصةً سانحة لتحقيق هدفها هذا، ما دفعها لتخصيص ما يقارب 810 مليارات دولار لتطوير قطاع السياحة في السنوات المقبلة، الأمر الذي سيوفر نحو ثلاثة ملايين فرصة عمل يذهب ثلثاها لغير السعوديين من الأجانب.
والواقع أن المملكة تسعى إلى زيادة عدد المقيمين على أراضيها من 30 في المئة إلى 50 في المئة من مجموع السكان في المستقبل القريب. ولذلك فقد تبنّت حزمةً من الإجراءات الجديدة التي تسمح للمقيمين بالحصول على كثير من الميزات مثل الإقامة الدائمة، والحق في إنشاء المشاريع التجارية، وتملّك العقارات والاستثمار فيها. واللافت أن هذه التغييرات الجديدة قد دفعت أعضاء مجلس الشورى، وهو هيئة استشارية يعينها الملك، إلى صياغة اقتراح يطالب بمنح أطفال النساء السعوديات المتزوجات من غير السعوديين الحقوق عينها.
في حين أن المملكة العربية السعودية قد نجحت في السماح للمرأة بقيادة السيارة في العام 2018، وهو قرارٌ كان محلّ نزاعٍ اجتماعياً لسنوات، إلّا أن هناك تغييرات أخرى ما زالت تُواجه مُقاوَمة ومُعارَضة. على سبيل المثال، تلقّت المملكة ردودَ فعلٍ عنيفةً على مواقع التواصل الإجتماعي عندما قرّرت وزارة الشؤون الإسلامية تقييد استخدام مُكبّرات الصوت في المساجد. وبرّرت الوزارة القرار بأنه وسيلة لحماية الأطفال وكبار السن وتنظيم استخدام مكبّرات الصوت. ومن المثير للاهتمام، أن الخطوة الأخيرة للسماح للمحلات التجارية بالبقاء مفتوحة أثناء أوقات الصلاة قد تم الترويج لها بشكل أساسي من قبل إتحادِ الغُرَفِ السعودية، وهو هيئة تُمثّل مجتمع الأعمال السعودي، كإجراء وقائي لكوفيد-19. ويُظهِرُ هذا الترويج غير الرسمي، والافتقار الواضح للبيانات الرسمية، كيف تسعى الدولة إلى تجنّب النقاش العام حول مسألة التقليل من دور الدين في الأماكن العامة. هذه الأمثلة هي بمثابةِ تذكيرٍ بأن الهوية الدينية لا تزال قوية على الرغم من تركيز المملكة المُتزايد على الشباب وسعيها إلى “الإسلام المُعتَدِل”.
من ناحية أخرى، أضافت إجراءات التقشّف، خصوصاً زيادة ضريبة القيمة المُضافة ثلاث مرات إلى 15٪ في 2020، بُعداً آخر للواقع المُتَغَيِّر للسعوديين اليوم. في محاولةٍ لتخفيفِ عجز الموازنة العامة، دفعت المملكة نحو خصخصة 16 قطاعاً رئيساً، بما في ذلك الرعاية الصحية والتعليم، مما سيساعد على جمع 55 مليار دولار على مدى السنوات الأربع المقبلة. وقد قلّل المسؤولون السعوديون من أهمية الآثار المُحتَمَلة للخصخصة على المواطنين السعوديين. ومع ذلك، فإن ندرة المعلومات حول هذا التغيير جعلت السعوديين يقلقون على الأمن الوظيفي الذي تمتّعوا به منذ فترة طويلة إذ أنهم في الغالب موظفون في القطاع العام. هذه التطورات هي مؤشرات واضحة على عقدٍ اجتماعيٍّ تحت الضغط في المملكة.
حالة الإمارات
بين دول الخليج العربية، لعبت دولة الإمارات دوراً مُبكراً ومؤثّراً في تعزيز المُواطَنة والهوية الوطنية في الخليج. بدأ هذا المشروع بخطواتٍ مُتواضعة في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، تمثلت في تبنّي رمز وطني، كالمؤسس الشيخ زايد بن سلطان، أو هدف وطني، كالهوية الوطنية أو التسامح، وهندسة برنامج اجتماعي متكامل حولها، كما حدث في 2016 عندما أعلنت الإمارات عن تطبيق الخدمة العسكرية الإلزامية لمواطنيها الذكور لأول مرة.
لكن هذه الدعوة الحاشدة لتشكيل “هوية وطنية” والتي حفّزها الخلل الديموغرافي المتزايد الذي كشف عنه إحصاء العام 2005، تتصادم باستمرار مع المخططات المُتغيّرة للدولة. وقد أجبر وباء كوفيد 19، والنهاية الوشيكة لعصور النفط، الإمارات العربية المتحدة على تبنّي سياسات جديدة لم تكن مُلحّة في الماضي.
ولعل أكثر هذه السياسات جُرأةً كان إعلان الدولة في آب (أغسطس) 2020، تطبيع علاقاتها مع إسرائيل. والحقيقة أن ما تلى هذا الإعلان من احتفاءٍ مُنظَّم كان صادماً للمنطقة على الرغم من مسارعة الإماراتيين للاحتشاد وراء حكومتهم –وليس التطبيع– وإبداء مظاهر الولاء والطاعة. ولكن هذه الصورة البرّاقة للوحدة والتوافق ما لبثت ان اهتزت إثر الأحداث المُتلاحقة التي أدّت إلى نشأة بوادر قلق وارتباك.
في إصلاحٍ قانوني غير مسبوق، كان يهدف إلى ضمان استمرار جاذبية الدولة للمغتربين الوافدين، ألغت الإمارات تجريم استهلاك الكحول والمُعاشَرة. بعد فترة وجيزة، أعلنت أنها ستمنح الجنسية للمستثمرين وغيرهم من المغتربين والوافدين المهنيين. وعلى الرغم من الصمت المتحفظ الذي قابل هذه القرارات إلّا أن الإماراتيين المُتمرّسين في فن التلميح لم يترددوا في إطلاق العنان لألسنتهم بالرثاء للغة العربية والهوية الوطنية معاً.
في تغريدةٍ محذوفةٍ الآن، أشار مواطن تحت اسمٍ مُستعار إلى أن المدعوين للتجنّس سيكونون قادرين على الاحتفاظ بجنسيتهم الحالية، في حين أن الشيء نفسه لا يُمنح للمواطنين الإماراتيين. كما تناول المنشور ثقافة المشاركة السياسية التي اعتاد عليها المُجنَّسون الجدد وكيف يمكن أن يؤثر ذلك في الإمارات.
ثم جاءت الهجمات الإسرائيلية الأخيرة على فلسطين لتكشف شقوقاً جديدةً في جبهة الرأي العام، وتؤدي إلى مزيد من الإدانات والاحتجاجات ضد الحليف الجديد للدولة. ورُغم التحفّظ المُمارَس على منصات التواصل الإجتماعي، إلّا أن إدانة الاماراتيين لإسرائيل كانت قوية ومسموعة، ولم يتردّدوا في توبيخ بعض مواطنيهم من المُتراخين الذين تبنّوا حديث “السلام والتسامح” في وقتٍ يستوجب الغضب والشدة .
من الطبيعي أن نتوقع أن الإماراتيين، الذين شجّعتهم الموجة الأخيرة التي خلقت فسحةً للتعبير، قد يستمرون في ممارسة إبداء آرائهم العامة، خصوصاً إذا استمر تقويض العقد الاجتماعي بسبب التغييرات الجديدة في تكوين المجتمع. التغيير المُتَوَقَّع في أسبوع العمل سيجعل يومي السبت والأحد عطلة نهاية الأسبوع الرسمية، بينما سيُخصَّص نصف يوم من أيام الجمعة للسماح للمُتدينين بحضور صلاة الجمعة – وهو قرار قد يتم تنفيذه على الرغم من كونه غير مواتٍ للمواطنين المحافظين إلى حدٍّ كبير. واستناداً إلى تلميحات المسؤولين الحكوميين البارزين في شكل محادثات تخمينية، قد لا يكون من المُستبعد أنه سيتم قريباً إدخال ضريبة الشركات، وربما تتبعها ضريبة الدخل.
على الرغم من أن انحسار عصر النفط لا يُشكّل بالضرورة أي تهديد لكيان الدولة الإماراتية وتلاحمها، إلّا أن تبعات هذا الانحسار قد تقوّض الامتيازات التي يرتكز عليها العقد الاجتماعي، وتؤدي إلى واقعٍ غير مُريح للمواطن الإماراتي بينما تتهيأ البلاد لمزيد من التحوّلات.
لقد أدّى الاستقطاب المُتزايد داخل المجتمع الخليجي في أعقاب الانتفاضات العربية وما نتج عنها من إشكالات ومن محاولات دؤوبة لإعادة هندسة المجتمع إلى تأليب الشريحة الاجتماعية المحافظة على شقيقتها الليبرالية، وأصبحت قدرة دول الخليج العربي على الحفاظ على عقودها الاجتماعية مع مواطنيها مُتوَقِّفة على مهارتها في تجنّب خلق توتّراتٍ جديدة بينما تسعى إلى حلِّ المسائل القائمة.
- ميرا الحسين هي مرشّحة دكتوراه في جامعة كامبريدج، المملكة المتحدة. تُركّز أبحاثها على علم اجتماع التعليم العالي في الإمارات العربية المتحدة. يمكن متابعتها عبر تويتر على: @miraalhussein
- إيمان الحسين هي زميلة غير مقيمة في معهد دول الخليج العربية في واشنطن، تُركّز أبحاثها على شؤون الخليج. يمكن متابعتها عبر تويتر على: @EmanMAlhussein
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.