حَربُ إيرانِ الدَّاخِلِيَّة: القصّة الكاملة

في الخامس من آب (أغسطس) الجاري صار ابراهيم رئيسي رئيساً للجمهورية الإسلامية بعدما أقسم اليمين الدستورية. إلى أين ستتجه إيران في عهده؟ وكيف وصل إلى هنا؟

آية الله علي خامنئي: نجح في مخططه حتى الآن

محمد آية الله طبار*

جُمهورِيةُ إيران الإسلامية دولةٌ مُنقَسِمةٌ على نفسها. منذ إنشائها في العام 1979، تمَّ تحديدُها من خلالِ التوتّر بين رئيس الجمهورية، الذي يرأس حكومتها المُنتَخَبة، والمُرشِدِ الأعلى، الذي يقودُ مؤسّسات الدولة المُوازِية التي تُجسّد المُثُلَ الإسلامية الثورية لإيران الحديثة. شغل المُرشِدُ الأعلى الحالي، آية اللله علي خامنئي، منصبَ رئيس الجمهورية من العام 1981 إلى العام 1989. وخلال فترة رئاسته، اشتبك مع المُرشِدِ الأعلى في ذلك الوقت، آية الله روح الله الخميني، رجل الدين ذو الشخصية الكاريزمية الذي قاد الثورة الإيرانية، حول مسائل تتعلّق بالسياسة والموظفين والإيديولوجية. بعد وفاة الخميني، في العام 1989، عُيِّنَ خامنئي مُرشِداً أعلى حيث استمر في معاركه مع سلسلة طويلة من رؤساء الجمهورية الأكثر اعتدالًا منه.

لم يكن الرؤساء الإيرانيون الجُدُد يُعتَبَرون مُتَطَرِّفين بمعايير المؤسسة السياسية في البلاد. لكن على الرغم من اختلاف وجهات نظرهم العالمية وقواعدهم الاجتماعية، فقد اتّبعوا جميعاً سياساتٍ داخلية وخارجية وصفتها الدولة المُوازية بأنها علمانية وليبرالية ومُضادة للثورة ومُدَمِّرة. في كل حالة، تحرّك خامنئي وفيلق الحرس الثوري الإسلامي، الذي يخضع مباشرة للمُرشِد الأعلى، بقوة وفي بعض الأحيان بوحشية لاحتواء الحكومة المُنتَخَبة والسيطرة عليها. أدّت المعارك إلى استنزاف البيروقراطية الحكومية وشلّها.

بانتخابِ الرئيس الإيراني الجديد، ربّما يكون هذا الصراع قد حُسِمَ أخيراً لصالح الدولة المُوازية. إبراهيم رئيسي، الذي تولّى الرئاسة بعد انتخاباتٍ تمّت هندستها بدقّة في حزيران (يونيو) الفائت، هو مُوظّفٌ مُخلِصٌ للنظامِ الثيوقراطي الإيراني. لعقودٍ، كان قاضياً والمدّعي العام للجمهورية، كما قضى عامَين كرئيسٍ للسلطة القضائية الإيرانية. خلال مسيرته المهنية، صار رئيسي سيّىء السمعة لدوره المزعوم في إجراءات الإعدام المُوجَزة لآلاف السجناء السياسيين وأعضاء الجماعات المُسلّحة اليسارية في أواخر الثمانينات الفائتة. من الواضح أن حرصه للقضاء على أيِّ تهديدٍ مُحتَمَل للدولة المُوازية جعله محبوباً لدى خامنئي، وليس هناك شكّ في أنه كرئيسٍ للجمهورية، ستكون إحدى أولوياته إحكام سيطرة المرشد الأعلى على الوكالات الإدارية للحكومة المُنتَخَبة.

سيتطلّب السياق الذي تولّى فيه رئيسي الرئاسة أيضاً الابتعاد من الماضي. عانت إيران من الفقر بسبب العقوبات الأميركية ووباء كوفيد-19. إن التطلعات الديموقراطية للطبقة الوسطى المنكوبة آخذة في التضاؤل​​، والشعور الجماعي بالعزلة والضحيّة آخذٌ في الظهور مكانها. لا تزال المنطقة المُحيطة مُهَدِّدة، وتقوّي وتُعزّز أولئك الذين يُمثّلون حرّاس الأمن القومي. وسط كل هذه الاضطرابات، ستحتاج إيران قريباً إلى مرشدٍ أعلى جديد – مرحلةٌ انتقالية من المُرجّح أن يلعب فيها الرئيس الجديد دوراً حاسماً، والتي من المحتمل أن تؤدي إلى صعوده إلى رأس الجمهورية الإسلامية.

هذه التغييرات تَعِدُ بإطلاقِ حقبةٍ جديدةٍ في تاريخ الجمهورية الإسلامية. يُمكن للاضطراب الناجم عن نظامٍ مُنقَسِمٍ أن يفسحَ المجال لإيرانٍ أكثر تماسكاً وأكثر حزماً في محاولتها تشكيل المنطقة على صورتها. مع تلاشي العديد من الحركات والقادة الذين حدّدوا السياسة الإيرانية على مدى العقود الثلاثة الماضية، أصبح لدى فصيلٍ من القادة اليمينيين الفرصة لإعادة تشكيل السياسة والمجتمع في إيران بطُرُقٍ من شأنها توسيع سيطرة الحرس الثوري الإيراني على اقتصاد البلاد، ما يؤدّي إلى مزيد من تضاؤل الحريات السياسية، وبالتالي إظهار تسامح أقل ومحدود بالنسبة إلى القضايا الدينية والاجتماعية. سيُدافع هذا الفصيل عن القومية الإيرانية لتوسيع قاعدته الشعبية محلّياً، مع الاعتماد على الإيديولوجيات الشيعية والمُعادية للولايات المتحدة لإظهار القوّة والنفوذ إقليمياً.

يُمكن لهذه التغييرات أيضاً أن تُعيدَ تشكيل علاقة إيران بالعالم، وبخاصة مع الولايات المتحدة. بدعمٍ من الحرس الثوري الإيراني الواثق من نفسه وعدم الخوف من التخريب المحلي، لن تتردّد الحكومة الجديدة في مواجهة التهديدات الوجودية المُتَصَوَّرة من أميركا. على الرغم من أنها قد تتنازل عن القضية النووية للتخفيف من الأزمات الاقتصادية والبيئية المُتصاعِدة في الداخل، فإن فريقها المُقبل في السياسة الخارجية سوف يتجاهل تطلعات الرؤساء السابقين بالنسبة إلى التقارب مع الغرب، وبدلاً من ذلك سيسعى إلى إقامة تحالفات استراتيجية مع الصين وروسيا. سيكون تركيز الحكومة الجديدة الأساسي على الشرق الأوسط ، حيث ستسعى إلى اتفاقات أمنية وتجارية ثنائية مع جيرانها وتُضاعف جهودها في تقوية “محور المقاومة”، وهي شبكة مترامية الأطراف من الوكلاء في العراق ولبنان وسوريا واليمن وغيرها في المنطقة.

العلاقات الأميركية-الإيرانية ستكون “تعاملية” وستدور حول مخاوف أمنية فورية. الوعد الجذّاب بتقاربٍ أوسع لن يجد بعد الآن أرضاً خصبة في طهران. من المُحتَمَل أن تكون نافذة الفرصة “لعقدِ صفقةٍ كبرى” بين البلدين قد أُغلقت.

وُلِدَ في صراع

ظَهَرَ النظام السياسي، الذي بشّر به الخميني إلى الوجود في العام 1979، في صراع. جرت إزالة الشاه، الديكتاتور الذي حكم إيران منذ العام 1941، بطريقةٍ سلمية نسبياً، لكن الصراع بين الإسلاميين وخصومهم كان دامياً وطويل الأمد. حارب أتباع الخميني رجال الدين التقليديين والقوميين والماركسيين من أجل السلطة. عزّز استيلاء الطلاب المُوالين للخميني على السفارة الأميركية في 1979 قبضة الإسلاميين على السلطة، كما فعلت الحرب التي خاضتها إيران ضد جارتها العراق من 1980 إلى 1988، والتي ساعدت على توسيع قوّتها شبه العسكرية، الحرس الثوري الإيراني، كقوّة مُوازِنة للجيش الإيراني الذي درّبته الولايات المتحدة.

أنشأت القوى الإسلامية المُنتَصِرة مؤسّسات مُوازية أطلقوا عليها بشكل جماعي إسم “النظام”، والذي تم تصميمه لتحييد أيّ تهديدات من الدولة العلمانية. سرعان ما وجدت إيران نفسها مُمَزَّقة بسبب خطوط الصدع: بين المُرشد الأعلى ورئيس الجمهورية، وبين قادة الحرس الثوري الإيراني والجيش، وبين الفُقهاء الدينيين في مجلس صيانة الدستور (الهيئة التي تتمتّع بحق النقض على التشريع) وأعضاء البرلمان. تعمّقت الانقسامات بعد وفاة الخميني، عندما تولى الجناح اليميني للإسلاميين الحكم وأطاح إخوانه اليساريين من السلطة. وسرعان ما انقسم الفصيل الحاكم بين الدولة المُوازية برئاسة المُرشد الأعلى الجديد والحكومة التي يرأسها رئيس الجمهورية.

المُرشد الأعلى هو من الناحية الدستورية صانع القرار النهائي في إيران، لكن يُمكن لرئيس الجمهورية والبيروقراطية الحكومية أحياناً استغلال المشاعر الشعبية للتغلّب عليه. لقد سلّطت الانتخابات الضوء على قضايا الاستقطاب مثل الحقوق المدنية وقواعد اللباس الإلزامية والفساد والعلاقات مع الولايات المتحدة، ما حفّز الحركات الاجتماعية والاحتجاجات التي لا تستطيع الدولة المُوازية تجاهلها. وأدّت الانتخابات الرئاسية في العام 1997 إلى ولادةِ حركةٍ إصلاحية هائلة استطاعت تطلّعاتها “الديموقراطية الدينية” تغيير حتى مُعجَم المرشد الأعلى.

لكن بالنسبة إلى رؤساء إيران الجدد، فإن الجهود المبذولة لاستغلال المشاعر الشعبية للضغط من أجل الإصلاح كانت تنتهي عادةً بالإحباط والفشل. كمُرَشَّحين، وعد جميع الرجال الذين عملوا كرؤساءٍ لإيران خلال العقود الثلاثة الماضية – أكبر هاشمي رفسنجاني ومحمد خاتمي ومحمود أحمدي نجاد وحسن روحاني – برسمِ مسارٍ مُستقل وفتح البلاد على العالم. ومع ذلك، بمجرّد تولّيهم المنصب، فإن تحقيق وعدهم كان مصيره الفشل بسبب معارضة المرشد الأعلى النشطة. علماً أن كل هؤلاء الرجال بدأوا حياتهم المهنية كموالين مُتحمّسين للدولة المُوازية، وقد ساعدوا فعلياً على بناء أُسُس الجمهورية الإسلامية.

قام رفسنجاني بالمحاولة الأولى لإضعاف الدولة المُوازية، رُغم أنه كان هو نفسه أحد مؤسسي المؤسسة الثيوقراطية، فضلاً عن كونه داعماً فعّالاً لتعيين خامنئي كمرشدٍ أعلى. ولكن كرئيس جمهورية لإيران من 1989 إلى 1997، حاول رفسنجاني إخراج البلاد من مرحلتها الثورية وإعادة بناء اقتصادها المُتصدِّع من خلال تعزيز العلاقات مع الولايات المتحدة وأوروبا. وسرعان ما دخل في صراعٍ على السلطة مع خامنئي، حيث سعى إلى ضمّ الحرس الثوري الإيراني إلى الجيش أو على الأقل تحويله إلى فرقة نخبة صغيرة. كان هدفه هو جعل عملية صنع القرار مركزية داخل الحكومة ومنع مصالح الدولة المُوازية من تحديد الأمن القومي.

أحبط خامنئي تلك الخطة وألغى تعديلاً دستورياً مُقتَرَحاً كان سيسمح لرفسنجاني بالترشّح لولاية ثالثة على التوالي. لكن عندما ترك رفسنجاني منصبه في العام 1997، لم يخرج من المشهد السياسي، وبدلاً من ذلك ، أدخلت المنافسة بينه وبين خامنئي عنصراً من التقلبات في السياسة الانتخابية الإيرانية التي استمرّت ربع قرن.

يُدينُ خاتمي بفوزه الساحق في انتخابات العام 1997 جزئياً إلى رفسنجاني، الذي استخدم سيطرته على الآلة السياسية لدعم المرشح الإصلاحي غير المُتَوَقَّع. ناشد برنامج خاتمي التقدّمي الشباب والنساء والطبقة الوسطى الساخطين التي تضخّمت بسبب إصلاحات رفسنجاني الاقتصادية. كرئيسٍ للجمهورية، أشرف خاتمي على فترة وجيزة من التحرير: ظهرت مئات من وسائل الإعلام الجديدة، وطرح المثقفون أفكاراً حول التعدّدية الدينية التي هدّدت احتكار المرشد الأعلى للحقيقة الإلهية. تحرّك خامنئي والحرس الثوري الإيراني بقوة لإحباط أجندة خاتمي الإصلاحية ودرء أي تقارب مع الولايات المتحدة، واعتُقِلَ مئات الصحافيين والمُثقّفين والطلاب.

في أعقاب هذه الحملة، بدت الدولة المُوازية على وشك الفوز في صراعها على السلطة مع الحكومة. أدار أحمدي نجاد حملة شعبوية في انتخابات 2005 وهزم رفسنجاني الذي وصفه بأنه رمز النظام الفاسد. طوال فترة رئاسة أحمدي نجاد، اخترق الحرس الثوري الإيراني مؤسسات الدولة، وسرّع البرنامج النووي للبلاد، واستغلّ عزلة إيران الدولية تحت العقوبات لتعزيز أنشطتها الاقتصادية. عندما احتج ملايين الإيرانيين على إعادة انتخاب أحمدي نجاد المُتنازَع عليها في العام 2009، قام الحرس الثوري الإيراني بسحق المظاهرات بعنف. قامت الدولة المُوازية بسجن العديد من القادة الإصلاحيين ووضع آخرين رهن الإقامة الجبرية. وكان من بين القتلى والمعتقلين أطفالٌ وأقاربٌ لكبار المسؤولين المُحافظين. للحظة، حتى الدولة المُوازية تصدّعت: اضطر قادة الحرس الثوري الإيراني إلى السفر في جميع أنحاء البلاد لإطلاع الأعضاء العاديين وغيرهم من الشخصيات المُحافظة على تبرير استخدامهم المُفرِط للعنف ضد المتظاهرين.

لكن حتى أحمدي نجاد اشتبك في النهاية مع خامنئي والحرس الثوري الإيراني. في ولايته الثانية، تخلّى عن موقفه المُناهض لأميركا لصالح المبادرات تجاه واشنطن واستبدل خطابه الإسلامي السابق بمناشدات القومية الفارسية. واتّهم الحرس الثوري الإيراني ووكالات المخابرات بتهريب سلع فاخرة مثل السجائر ومنتجات التجميل النسائية (وغيرها من السلع) بالخفاء على أنها عناصر حسّاسة من وإلى إيران. وفي محاولة لتجاوز المؤسسة الدينية ذاتها التي أوصلته إلى السلطة، ألمح إلى أنه يتمتّع بعلاقة من نوع ما ب”الإمام الغائب”، وهو شخصية مسيانية يحترمها الشيعة.

بعد ثماني سنوات كرئيسِ جمهورية مُتهوّر، بدأ الإيرانيون دعم الإصلاحيين الذين وعدوا بالعودة إلى الحياة الطبيعية. تم استبعاد رفسنجاني من الترشح في انتخابات 2013 من قبل مجلس صيانة الدستور، المُكَلَّف بتقييم ما إذا كان المرشحون يُدينون بالولاء للمرشد الأعلى، لذلك حشد الدعم لأحد أصدقائه حسن روحاني، مستشار الأمن القومي السابق والمفاوض النووي لرفسنجاني وخاتمي. شنّ روحاني حملته على أساس منصّة طموحة، وتعهّد بالدفاع عن المواطنين ضد عسكرة الحرس الثوري الإيراني والتطرّف الديني الذي قيّد الحياة اليومية للمواطنين، وتأمين إطلاق سراح القادة الإصلاحيين من الإقامة الجبرية، وتحسين الاقتصاد من خلال حلّ المأزق النووي. وربط النمو الاقتصادي بالمفاوضات النووية بإعلانه، “من الجيّد أن تكون لدينا أجهزة طردٍ مركزي تعمل، لكن حياة الناس يجب أن تسير؛ يجب على مصانعنا أن تعمل أيضاً”.

مع وجود رفسنجاني والإصلاحيين خلفه، تم انتخاب روحاني رئيساً في العام 2013 وأُعيد انتخابه في العام 2017. وعاد التكنوقراطيون إلى مناصب عليا واستأنفوا المفاوضات النووية التي بدأوها قبل عقد من الزمن في عهد خاتمي، لكن هذه المرة، تحدثوا ليس فقط مع القوى الأوروبية ولكن أيضاً مباشرة مع الولايات المتحدة. بدأت المحادثات النووية الأولية بين إيران والولايات المتحدة سرّاً في سلطنة عُمان، بمباركة خامنئي، قبل بضعة أشهر من انتخاب روحاني. لكن الفريق الجديد استخدم تفويضه الشعبي للضغط على المرشد الأعلى لإظهار المزيد من المرونة في المفاوضات أكثر مما كان يود. بعد عامين، أبرم مفاوضو روحاني اتفاقية مع ست قوى عالمية، خطة العمل الشاملة المشتركة، والتي عرضت على إيران بعض التخفيف من العقوبات مقابل الموافقة على السماح بالتفتيش على منشآتها النووية والحدّ من تخصيب اليورانيوم، على الأقل لبعض الوقت.

أسرارٌ مُسَرَّبة

ردّت الدولة المُوازية بقوّة لتهدئة النشوة التي استقبلت الاتفاق النووي في العام 2015. وبذلك، قدّمت دليلاً بيانياً على الصراعات الداخلية داخل الدولة الإيرانية. في نيسان (أبريل) من هذا العام، تم تسريبُ فيديو لملفٍّ صوتي مدّته ثلاث ساعات، كان جزءاً من تاريخ شفوي سري بتكليفٍ من مكتب رئيس الجمهورية، بشكلٍ مجهول إلى وسائل الإعلام. فيه، يمكن سماع وزير الخارجية محمد جواد ظريف يقول بصراحة إن سياسة إيران الخارجية كانت دائماً في خدمة الحرس الثوري الإيراني.

يؤكّد هذا التسريب أن إدارة روحاني اعتبرت البرنامج النووي الإيراني مشروعاً للحرس الثوري الإيراني لا يصبّ بالكامل في مصلحة الدولة. في المحادثة المُسَجَّلة، قال ظريف إنه أخبر خاتمي وروحاني أن “مجموعة [يُفترض أن تكون الحرس الثوري الإيراني] ألقت بالبلاد في بئر، وهذه البئر هي بئرٌ نووية”.

حتى أن ظريف اتهم الحرس الثوري الإيراني بالتعاون مع روسيا لتخريب جهوده الديبلوماسية بشأن القضية النووية. خشي الروس من أن اتفاقية حظر انتشار الأسلحة النووية يُمكن أن تُقرّب إيران من الولايات المتحدة. وبحسب ظريف، فور إعلان خطة العمل الشاملة المشتركة، التقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع قاسم سليماني، قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، لمُناقشة الصراع السوري. ثم بدأت الصواريخ والطائرات الروسية عمداً في التحليق في مسارٍ أطول عبر الأجواء الإيرانية لمهاجمة القوات التي تُقاتل نظام بشار الأسد في سوريا. يُشير ظريف إلى أن بوتين كان ينوي دفع إيران إلى التعاون مع روسيا في معركة إقليمية كوسيلة لإبقاء طهران في صراعٍ مع واشنطن.

في التسجيل الصوتي المُسَرَّب، يصرخ ظريف أن الدولة المُوازية قضت ستة أشهر قبل دخول الاتفاق النووي حيّز التنفيذ في محاولة لتخريبه. إن قيام الحرس الثوري الإيراني “بإطلاق صاروخ مكتوب عليه ’يجب محو إسرائيل من الوجود’”، وتلك الشؤون مع روسيا والأحداث الإقليمية التالية، ومداهمة السفارة السعودية [في طهران]، ومهاجمة السفن الأميركية – كل ذلك تمّ لمنع خطة العمل الشاملة المشتركة من التنفيذ”، كما يقول على الشريط.

في السنوات التي أعقبت تبنّي خطة العمل الشاملة المشتركة، وجد ظريف نفسه يسعى باستمرار إلى إصلاح الضرر الذي ألحقه الحرس الثوري الإيراني بديبلوماسيته الحذرة. أخبر سليماني الوزير ظريف القليل عن خططه. على سبيل المثال، في كانون الثاني (يناير) 2016، تم تخفيف العقوبات الأميركية على شركة الطيران الإيرانية الرئيسة، “إيران للطيران” (Iran Air)، كجُزءٍ من الاتفاق النووي. لكن بعد خمسة أشهر، علم ظريف من وزير الخارجية الأميركي جون كيري أن الخطوط الجوية الإيرانية لم تستأنف فقط استخدام الرحلات المدنية المُفترَضة لنقل الأسلحة إلى “حزب الله” في سوريا، وهو الإجراء الذي بسببه في المقام الأول فُرضت عليها عقوبات، فقد زاد عدد تلك الرحلات ستة أضعاف بناءً على أوامر سليماني المباشرة.

عرّضت الرحلات الجوية أسطول طيران إيران المُتقادم للخطر وفرضت عليه عقوبات جديدة. ويلخّص ظريف بشدة وجهة نظر الحرس الثوري الإيراني بشأن المسألة – أنه إذا كان استخدام شركة الطيران الإيرانية لهذا الغرض يمنح ميزة 2٪ على البدائل، “حتى لو كلف ذلك ديبلوماسية الدولة 200٪، فإن الأمر كان يستحق العناء لاستخدامه!”. (قد يكون قبول سليماني للمخاطر واستعداده لاستفزاز الولايات المتحدة قد ساهم في إزالته؛ في أوائل العام 2020، استُهدِفَ وقُتِلَ بواسطة طائرة أميركية مُسَيَّرة قرب مطار بغداد).

يتحسّر ظريف على حقيقة أن شعبيته بين الإيرانيين انخفضت من 88 في المئة إلى 60 في المئة في السنوات التي أعقبت وضع اللمسات الأخيرة على خطة العمل الشاملة المشتركة. في غضون ذلك، قفزت نسبة تأييد سليماني إلى 90٪ بفضل تصويره البطولي في وسائل الإعلام المدعومة من الحرس الثوري الإيراني.

طوال فترة تولّيه منصبه، وجد روحاني نفسه في حالة حرب مع الدولة المُوازية، تماماً مثل أسلافه. بالعودة إلى الثمانينات الفائتة، ساعد روحاني على توسيع الحرس الثوري الإيراني من منظمة تطوّعية صغيرة إلى جيش كامل، بقوات برية وبحرية وجوية. وبعد ثلاثة عقود، اتّهمَ علناً الحرس الثوري الإيراني بالتدخّل المُترامي الأطراف. في مؤتمر العام 2014 لمُكافحة الفساد مع رؤساء القضاء والبرلمان، أظهر إحباطه من الأنشطة غير العسكرية للحرس الثوري الإيراني. وقال بدون تسمية الحرس الثوري الإيراني صراحة ، “إذا تجمّعت الأسلحة والمال والصحف والدعاية في مكان واحد، يُمكن للمرء أن يكون واثقاً من أن الفساد هناك”.

تأثير انتخاب دونالد ترامب

كان من الممكن أن ينتهي هذا الصراع المألوف بين الحكومة الإيرانية المُنتَخبة، في عهد روحاني، ومؤسّسات الدولة المُوازية في عهد خامنئي، بشكل غير حاسم مثل الاشتباكات السابقة. لكن الزخم الخارجي – أي انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة في العام 2016 – أدّى إلى قلب التوازن بشكلٍ حاسمٍ نحو الدولة المُوازية. كانت حكومة روحاني طمأنت الإيرانيين بأنه سيكون من المستحيل على الولايات المتحدة أن تلغي الاتفاق النووي من جانب واحد، لأنه كان اتفاقاً دولياً تمّ التفاوض عليه بين القوى العالمية الست وصادق عليه مجلس الأمن الدولي. لكن الحرس الثوري الإيراني قدّم رهاناً مُختلفاً، لأنه لا يثق بوعود الولايات المتحدة ولا بالاتفاقات الدولية. ما إن فاز ترامب بالرئاسة الأميركية حتى اصطفت الشركات الأمامية للحرس الثوري الإيراني في البنك المركزي الإيراني ووزارة البترول والوكالات الحكومية الأخرى لتقديم عطاءات للحصول على عقودٍ للتحايل على العقوبات المالية وعقوبات الطاقة الأميركية المُحتملة.

عندما انسحب ترامب رسمياً من الاتفاقية في أيار (مايو) 2018، كان هؤلاء “المُستفيدون من العقوبات” على أهبّة الاستعداد للسيطرة على القطاع المالي الإيراني. بسبب إعادة فرض العقوبات الأميركية، كان على إيران الآن الاعتماد على شبكة الحرس الثوري الإيراني للتحايل على الشبكات المصرفية الدولية لبيع نفطها وإعادة العائدات إلى البلاد. ووفقاً للرئيس السابق للبنك المركزي الإيراني، عبد الناصر همّتي، فإن استيلاء الحرس الثوري الإيراني على هذه المعاملات المالية نتج عنه عمولة تُعادل 20 في المئة على كلِّ تحويلٍ تقوم به الحكومة. لقد مكّنت سياسات الولايات المتحدة بشكلٍ فعّال الحرس الثوري الإيراني من تعميق نفوذه الاقتصادي.

نفت إدارة ترامب وجود انقساماتٍ سياسية ذات مغزى داخل الجمهورية الإسلامية، وتبنّت على هذا الأساس سياسة “الضغط الأقصى” المُصَمّمة لخفض صادرات النفط الإيرانية إلى الصفر وخنق اقتصادها. داخل البيت الأبيض، لم يكن هناك اتفاقٌ على نهاية اللعبة. بينما كان هدف ترامب هو إجبار إيران على التفاوض على اتفاقيةٍ جديدة، ضغط وزير خارجيته آنذاك، مايك بومبيو، ومستشاره للأمن القومي في ذلك الوقت، جون بولتون، من أجل تغييرِ النظام. وبغض النظر عن هدفه النهائي، فإن النهج الجديد لم يُجنّب حتى المسؤولين الإيرانيين الذين عارضوا الحرس الثوري الإيراني من الداخل: عاقبت إدارة ترامب الوزير ظريف في تموز (يوليو) 2019.

أصبح إصرارُ إدارة ترامب على أن النخبة الإيرانية مُتجانِسة شيئاً مثل نبوءة تُحقّق ذاتها: دفعت تصرّفات ترامب السياسة الإيرانية في اتجاهٍ أكثر تطرّفاً. في ظل التهديد الوجودي لسياسة عقوبات أميركية شديدة القسوة، خفّت حدّة الانقسامات الداخلية. ساعدت سياسات البيت الأبيض على صياغة اتفاقٍ واسعٍ بين النُخَبِ الإيرانية على أن الطريقة الوحيدة لحماية المصالح الوطنية للبلاد هي تأمين النظام، الأمر الذي سمح للحرس الثوري الإيراني بتقديم نفسه، لأول مرة منذ وجوده، على أنه بطل القومية الإيرانية.

لطالما ادعى الحرس الثوري الإيراني أن صواريخه الباليستية المُتطوّرة وشبكة الوكلاء في جميع أنحاء الشرق الأوسط تحمي وحدة أراضي إيران. في العام 2019، بعدما أصبح واضحاً أن سياسة “الصبر الاستراتيجي” الإيرانية في التمسّك بخطة العمل الشاملة المُشتَركة لم تؤتِ ثمارها، شرع الحرس الثوري الإيراني في اتخاذِ إجراءاتٍ لإرساءِ الردع ضد المزيد من الضغوط من الولايات المتحدة. بدأ في شنّ هجمات مواجهة وقحة، وقام بغارات مُروّعة ودقيقة بطائرات مُسَيَّرة على منشأة لمعالجة النفط في المملكة العربية السعودية وأسقط طائرة أميركية بدون طيار فوق الخليج العربي. في كانون الثاني (يناير) 2020، أطلق الحرس الثوري الإيراني صواريخ باليستية على القوات الأميركية في العراق رداً على اغتيال سليماني. كما عملت هذه العمليات على إسكات مُعارضي الحرس الثوري الإيراني داخل الدولة والمجتمع.

على مدى عقود، كانت الدولة المُوازية تخشى أن يتّحد المجتمع الإيراني مع الحكومة المُنتَخبة للتغلب عليها، لذا فقد تصرّفت بحكمة وعنف في كثير من الأحيان لإحباط هذا الاحتمال. الآن يُمكن أن تتصوّر مُستقبلاً جديداً، حيث يتّحد فيه كلٌّ من المجتمع الإيراني والحكومة خلف الدولة الموازية، ما يجعل المرشد الأعلى والحرس الثوري الإيراني الأدوات الأساسية لتطلعاتهما.

التعاون في الميدان

بحلولِ انتخابات هذا العام، تغيّر المشهد السياسي والاجتماعي في إيران. رفسنجاني، الذي كان على مدى عقودٍ قوّة مُهمّة في السياسة النخبوية، توفي فجأة إثر نوبة قلبية في العام 2017. ولا يزال خاتمي قيد الإقامة الجبرية الفعلية، وتمنع الحكومة وسائل الإعلام الإيرانية من ذكره أو نشر صورته. لا يزال أحمدي نجاد ناقداً صريحاً: فقد وصف مستشارون سابقون في وسائل الإعلام الإيرانية كيف يتصوّر نفسه كبوريس يلتسين الإيراني، مصيره ركوب الاحتجاجات الجماهيرية إلى السلطة لإنقاذ الأمة. لكن فصيل أحمدي نجاد تم تطهيره من كل مؤسسة مهمة.

كانت الكتلة الإصلاحية الخاسر الأكبر في انتخابات 2021، التي فشلت خلالها قيادتها المُسِنَّة في تقديمِ جبهةٍ مُوَحَّدة أو خطة عمل مُتماسكة. لقد استطاعت الحركة ذات مرة من حشد ما يكفي من الدعم الشعبي لدفع خاتمي إلى الرئاسة، وشكّلت لاحقاً جُزءاً مُهمّاً من التحالف وراء روحاني. الآن، ومع ذلك، تبدو أنها بعيدة من الواقع وما يحصل. إرتفع معدل التضخم في إيران إلى 40 في المئة بعد انسحاب ترامب من خطة العمل الشاملة المشتركة، وتغرق البلاد في الفقر. وفقاً لمنظمة الضمان الاجتماعي الإيرانية، تضاعف معدل الفقر المُدقع في غضون عامين فقط، من 15 في المئة في العام 2017 إلى 30 في المئة في العام 2019. وتراجعت جهود المجموعات الطلابية والمنظمات النسائية لتنظيم الاحتجاجات ضد القمع السياسي وانتهاكات حقوق الإنسان، حيث استُبدِلَت بأعمال شغب عنيفة مُرتَجلة بسبب المظالم الاقتصادية ونقص المياه وانقطاع التيار الكهربائي. شعارُ المشاغبين الغاضب – “الإصلاحيون، المحافظون، حان وقتكم” – يوحي بأنهم ينظرون إلى الإصلاحيين على أنهم شركاء في بؤسهم.

في الماضي، نجح الإصلاحيون في الانتخابات من خلال استقطابِ المشهد السياسي. خاض خاتمي حملته على منصّة وأجندة لتعزيز المجتمع المدني والديموقراطية، ووعد روحاني بحل القضية النووية وتحسين العلاقات مع الولايات المتحدة. وتُعتَبر هذه القضايا بمثابة إسفين حافز في إيران، وقد أدى استحضارها إلى تحويل حملات هؤلاء المرشحين إلى حركات اجتماعية، ما أدى إلى زيادة إقبال الناخبين، لا سيما بين النساء والشباب. واستطاعت هذه الاستراتيجية القضاء على أول محاولة لرئيسي للرئاسة، في العام 2017 ، عندما خسر بشكلٍ كبير أمام روحاني.

لكن في انتخابات هذا العام، لم يجد خامنئي والحرس الثوري الإيراني مُقاومةً تُذكَر في طريقهما لتصميم “الرقصات” لفوز رئيسي. استبعد مجلس صيانة الدستور جميع المرشحين الذين كان بإمكانهم تنشيط الناخبين، ولم يقتصر الأمر على منع كل الإصلاحيين وأحمدي نجاد ولكن أيضاً علي لاريجاني، رئيس البرلمان السابق المُعتدل نسبياً وكبير المفاوضين النوويين سابقاً. وكان المرشح المعتدل الوحيد الذي بقي في اللعبة هو محافظ البنك المركزي، عبد الناصر همّتي.

في النهاية انقسم أنصار الإصلاحيين إلى ثلاثة معسكرات: الذين قاطعوا الانتخابات، والذين أدلوا بأصواتهم البيضاء، وأولئك الذين صوّتوا لصالح همّتي. وجاءت نسبة المشاركة بنسبة 49 في المئة، وهي أدنى نسبة لانتخابات رئاسية في تاريخ الجمهورية الإسلامية. في معقل الإصلاحيين بطهران، شارك 26 في المئة فقط من الناخبين المؤهّلين. وبحسب الأرقام الرسمية، حصل رئيسي على 62 في المئة من الأصوات، وهمّتي على ثمانية في المئة فقط.

نجحت الحملة المُتشدّدة ليس فقط بسبب القمع ولكن أيضاً من خلال سرقة صفحةٍ من كتاب قواعد اللعبة لخصومها. تعود خلفية رئيسي بالكامل تقريباً إلى القضاء الديني، ولكن كمرشحٍ رئاسي، شدّد على الأمن والازدهار بدلاً من الدين والإيديولوجية. خاض على أجندة مُكرَّسة لبناء “إيران قوية”، واعداً بمعالجة الفساد الحكومي وتحييد تأثير العقوبات من خلال تكرار اعتماد الحرس الثوري الإيراني على نفسه في صناعة الدفاع في الساحات غير العسكرية أيضاً. عندما أجرى حملة في المصانع وسوق الأوراق المالية في طهران، أظهرت وسائل الإعلام التابعة للحرس الثوري الإيراني أنه يتحدث إلى العمال والتكنوقراط حول إعادة فتح الشركات المُفلِسة وإنعاش الاقتصاد.

لم يتظاهر رئيسي بأنه تكنوقراط وسطي فحسب، بل استحوَذ على الخطاب العلماني للإصلاحيين أيضاً. ووعد بمحاربة العنف المنزلي وتعهّد بمنع شرطة الأخلاق المكروهة بشدة من مضايقة الناس العاديين وتشجيعها بدلاً من ذلك على ملاحقة الفساد الاقتصادي والبيروقراطي. أشارت الصور التي نشرتها حملته إلى أن من بين مؤيديه نساء لم يلتزمن بالزي الرسمي الصارم.

ولجأ مُتشدّدون آخرون إلى النبرة عينها. في مناظرة بين الإصلاحيين والمُتشدّدين في تطبيق الدردشة “كلوب هاوس” (Clubhouse) خلال الحملة، سخر مسعود دهناماكي، وهو رجل أمن وقائد ميليشيا سيئ السمعة هاجم جسدياً منذ التسعينات الفائتة المثقفين والطلاب والأشخاص العاديين لسلوكهم “غير الإسلامي”، من الإصلاحيين لتركيزهم على القيود الاجتماعية. في لحظة معبرة، قال إن الحجاب الإجباري لم يعد مصدر قلق كبير للنظام.

قال رئيسي أيضاً مراراً وتكراراً إنه يدعو إلى التعامل مع العالم. يُمثّل هذا تحوّلاً كبيراً عن نهج المواجهة الذي اتبعه المُتشدّدون تقليدياً. كما أوضح أنه لا يعترض على الصفقة النووية في حدّ ذاتها، بل فقط على الجوانب المُحَدِّدة للاتفاقية التي سمحت للولايات المتحدة بانتهاكها مع الإفلات من العقاب. وحدث التحوّل الأكثر دراماتيكية بين مؤيدي رئيسي المُتشدّدين، الذين عارضوا بشدة خطة العمل الشاملة المشتركة حتى أسابيع قليلة قبل بدء حملته، لكنهم تحوّلوا منذ ذلك الحين، وتعهدوا بالامتثال للاتفاقية. مُجتبى زنور، عضو بارز في البرلمان، قاد ذات مرة مجموعة من المحافظين إلى المنصة وأضرم النار في نسخة من خطة العمل الشاملة المشتركة بعد انسحاب ترامب من الاتفاقية. بعد انتقاد خطة العمل الشاملة المشتركة لسنوات، فإنه يدعم الآن التزام رئيسي بها، طالما أن الولايات المتحدة تحترم التزاماتها.

الدولة الموازية كدولة مُوحّدة

هذه المرة، قد يُصاب بخيبة أمل أولئك الذين يتوقّعون تكرار الصراع المألوف بين رئيس الجمهورية والمرشد الأعلى. سوف تلوح الخلافة والانتقال الوشيك إلى المرشد الأعلى التالي في الأفق على رئاسة رئيسي. هناك معلومات محدودة عن صحة خامنئي البالغ من العمر 82 عاماً، باستثناء جراحة البروستاتا التي تم الإعلان عنها كثيراً في العام 2014. ولكن من المتوقع على نطاق واسع أن يكون قرار استبدال خامنئي خلال فترة رئاسة الرئيس الجديد.

تعمل القوى التي هندست انتصار رئيسي على تطهير أعلى المراتب في الجمهورية الإسلامية لتسهيل عملية الخلافة هذه. إذا لم يتم تسميته خليفة خامنئي، فسوف يلعب رئيسي دوراً رئيساً في تحديد مَن هو. ومن ثم فمن غير المرجح أن يقضي فترة رئاسته في تحدّي الشاغل الحالي لأعلى منصب في البلاد.

رئيسي هو ببساطة جُزءٌ من مشروعٍ سياسي أكبر يسعى إليه خامنئي في سنواته الأخيرة. قد يقوم الرئيس الجديد بتعديل مواقفه من الناحية التكتيكية، لكن أيّ تحوّلٍ حقيقي في السياسة سيحدث بالتنسيق الوثيق مع المرشد الأعلى. تعمل الدولة المُوازية على توسيع قاعدتها الاجتماعية إلى ما وراء الإسلاميين لتشمل القوميين غير المُتديّنين، في محاولة لاستيعاب التأثير المتزايد لأولئك الذين يحتقرون الفرض الرسمي والانتقائي للشريعة الإسلامية. إنضمت نساءٌ مُحجّبات كثيرات إلى الحملة المناهضة للحجاب، لأنهنّ يرون أن الزيّ مثيرٌ للانقسام، ويُولّد الاستياء تجاههن في الشارع. إن استيلاء رئيسي الانتقائي والقابل للعكس على أجندات السياسة الخارجية والاجتماعية للإصلاحيين تمّ تصميمه لتقويض قدرتهم على العودة إلى المشهد السياسي في هذه اللحظة الحاسمة من التاريخ الإيراني.

على الرغم من بدايتها السلسة، إلّا أن هذه المناورة عالية المخاطر يمكن أن تنهار بسرعة. سيحتاج رئيسي وفريقه من التكنوقراطيين اليمينيين الشباب إلى استخدام رعاية الدولة لاستمالة النُخب المُستاءة، لا سيما فئة المحافظين المُهمّشين. يجب عليهما أيضاً تلبية احتياجات السكان الفقراء، الذين دعم جُزءٌ منهم رئيسي بسبب وعوده الاقتصادية.

في ما يتعلق بالسياسة الخارجية، سيُحاول رئيسي قلب التطلعات العالمية الفاشلة لأسلافه رأساً على عقب. الرؤساء السابقون توصّلوا إلى الاعتقاد بأن أفضل طريقة لتشكيل إيران آمنة ومأمونة هي جعل البلاد جُزءاً مُزدهراً من الاقتصاد العالمي. يعتقد رئيسي، على العكس من ذلك، أن إيران القوية ذات النفوذ الإقليمي بلا منازع هي وحدها القادرة على ردع القوى الخارجية وتحقيق الازدهار الاقتصادي. لذلك، من المتوقع أن يُعزّز القدرات العسكرية للحرس الثوري الإيراني لمواجهة الضغط الأميركي. وهذا يعني تعزيز شبكة الوكلاء التابعة للفيلق في العراق ولبنان واليمن وخارجها، وكل ذلك في خدمة حماية الدولة المُوازية الأصلية في إيران.

كما ستعمل الإدارة الجديدة على تعميق العلاقات الأمنية والاقتصادية لإيران مع كلٍّ من الصين وروسيا. وجّه بوتين واحدة من أولى وأقوى التهاني للرئيس الجديد، مُعرباً عن ثقته في أن انتخاب رئيسي سيؤدي إلى “مزيد من تطوير التعاون الثنائي البنّاء بين بلدينا”. كما وقّعت طهران أخيراً شراكة تجارية وعسكرية مدتها 25 عاماً مع بكين، والتي تم تأجيلها في البداية في العام 2016 لأن إيران كانت تأمل في تحسين العلاقات مع الولايات المتحدة وأوروبا.

من المفارقات أن القضاء على أيّ تقاربٍ مُحتَمل مع الولايات المتحدة أدّى إلى تماسك السياسة الخارجية الإيرانية. هناك الآن إجماع عام عبر الطيف السياسي الإيراني على أن العلاقة العدائية بين بلادهم والولايات المتحدة ستستمر إلى أجل غير مسمى. وبالتالي، لم تعد الفصائل المُتنافسة في إيران مهووسة بالتداعيات المحلية لتحسين العلاقات مع واشنطن. وهذا يعني أنه لا نجاح خطة العمل الشاملة المشتركة ولا فشلها يمكن أن يخلّا بشكلٍ كبير بتوازن القوى الداخلي. قلّلت هذه الديناميكية الجديدة من احتمالية حدوث تخريبٍ محلي في حالة تحقيق اختراق ديبلوماسي – لكنها أيضاً عزّزت موقف إيران التفاوضي في المفاوضات الجارية.

رئيسي بحاجة إلى نجاحٍ ديبلوماسي على الجبهة النووية للتعامل مع بحرٍ من المشاكل الداخلية. لكن على عكس روحاني، فهو لا يراهن على ثروته السياسية. يرى فريق السياسة الخارجية المُتشدّد التابع له أن الولايات المتحدة مُلتَزِمة إيديولوجياً بتدمير الجمهورية الإسلامية، ويَفتَرِض أن واشنطن ستحاول التراجع عن أي اتفاق إما بشكل صريح، كما فعل ترامب، أو بمهارة، كما فعلت إدارة أوباما، من خلال عدم إزالة العقوبات المالية على إيران بشكل صحيح. لذلك، تُحضّر القوى السياسية التي دفعت رئيسي إلى الرئاسة، لإجراءاتٍ انتقامية خطوة بخطوة في حال تعثّر إحياء خطة العمل الشاملة المشتركة. كما أنها مُلتزمة بالحفاظ على البنية التحتية النووية الإيرانية، للحفاظ على خيار تسليح البرنامج بسرعة إذا انهار الاتفاق. في الوقت نفسه، قد يؤدي توقيع اتفاق نووي جديد عن غير قصد إلى إنشاء منطقة أكثر قابلية للاشتعال: تخشى طهران من أن يمنَح ذلك الولايات المتحدة حرية مطلقة لملاحقة نفوذها الإقليمي، فيما يخشى أعداء طهران من أن الإتفاق سيزوّد إيران المزيد من الموارد لتعزيز وكلائها وبرنامجها الصاروخي.

يبدو أن المعضلة الأمنية الناتجة مُهَيَّأة لتصعيد التوترات بين إيران والولايات المتحدة. البلدان متورّطان أصلاً في صراعٍ منخفض المستوى ولكنه مستمرٌ في العراق، حيث تصطدم القوات الأميركية والميليشيات الموالية لإيران بشكل متقطع. على الرغم من أن رئيسي أصرّ على احتمال إجراء محادثات مع القوى الإقليمية لتقليل التوترات، فإن القيادة الموحدة الناشئة في إيران ترى نفسها في وضع ربح-ربح. إنها واثقة من جيشها وقد عرفت منذ فترة طويلة كيف تزدهر في النزاعات وتوسيع حلفائها من غير الدول (ميليشيات وأحزاب). بفضل التحوّل السياسي المحلي الجديد، يُمكنها أيضاً تقديم تنازلات تكتيكية مع خصومها من دون المخاطرة بتفاقم الانقسامات الداخلية. مع بدء عهد جديد للجمهورية الإسلامية، تسير إيران والولايات المتحدة على مسارٍ تصادمي.

  • محمد آية الله طبار هو أستاذ مشارك للشؤون الدولية في كلية بوش للإدارة الحكومية والخدمات العامة في جامعة تكساس وزميل في معهد بيكر للسياسة العامة في جامعة رايس. وهو مؤلف كتاب “فن الحكم الديني: سياسة الإسلام في إيران”.
  • يَصدر هذا التقرير بالعربية في “أسواق العرب” توازياً مع صدوره بالإنكليزية في عدد أيلول (سبتمبر) – تشرين الأول (أكتوبر) لمجلة “فورين أفّيرز” (Foreign Affairs) الأميركية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى