الإنتعاشُ الاقتصادي الشّاق من “كوفيد-19” في دول مجلس التعاون الخليجي
فيما الإقتصادات العالمية تفتح اقتصاداتها تدريجاً بحثاً عن الإنتعاش، يجب على حكومات دول مجلس التعاون الخليجي أن تتفق في المجالات التي يُمكن أن يكون لها تأثيرٌ طويل الأجل في نمو الإنتاجية.
الدكتورة كارين يونغ*
يبدو مُستقبل النمو الاقتصادي في دول مجلس التعاون الخليجي أفضل مما توقّعه بعض المُحلّلين في خضم الانكماش الاقتصادي في العام 2020. حملت جائحة كوفيد-19 إلى الخليج أزمةً مُزدوجة، فقد أحدثت في الوقت نفسه صدمةً لأسعار النفط بسبب انخفاض الطلب أوّلاً من آسيا ثم على الصعيد العالمي، وضربت النشاط الاقتصادي المحلي من خلال عمليات الإغلاق وعودة العمال الأجانب إلى بلادهم. بالنسبة إلى مُصدّري النفط في منطقة الشرق الأوسط يُقدّر صندوق النقد الدولي أن العجز المالي قد اتسع إلى 10.1 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2020 (من 3.8 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2019)، ولكن من المتوقع أن يتحسّن بشكل كبير في المدى المتوسط، ما يعكس ارتفاعاً مُتَوَقَّعاً لعائدات النفط في العام 2021. وتشهد التوقّعات الآن انتعاشاً في العام 2021 بالنسبة إلى تعزيز نمو الناتج المحلي الإجمالي إلى حوالي 3 في المئة بعد الانكماش بنسبة 5 في المئة في العام 2020. وكان الانتعاش الأكثر إثارة للدهشة هو النمو الاقتصادي غير النفطي، الذي يبدو أنه يتعافى في المملكة العربية السعودية إلى 3.9 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2021، بحسب البنك المركزي السعودي.
ما قد يكون مُختلفاً في هذا الانتعاش مُقارنةً بالأزمات الاقتصادية السابقة هي المساحة المحدودة أكثر للسياسة المالية العامة. في الأزمة المالية العالمية في 2008-2009 إنتعشت أسعار النفط بسرعة وكانت لدى الحكومات أصولُ احتياطي مُريحة، فضلاً عن الفوائض المالية وقليل من الديون الخارجية. على مدار أكثر من عقد من الزمان منذ الأزمة المالية العالمية، تغيّر الكثير. واصلت الحكومات في الخليج مسارات الإنفاق، واستفادت من أسواق رأس المال للديون الدولية، ولم تبدأ إلّا أخيراً العملية الصعبة لكبح دعم الطاقة وخفض فاتورة أجور القطاع العام. إن الحواجز أو خزّانات الدعم التي كانت موجودة داخل الإحتياطات الوطنية، وحتى توافر الدعم الإقليمي من الجيران، لم يِعُدا كما كانا سابقاً.
مع وصول الوباء، كان منتجو النفط في الخليج يتعرّضون أصلاً لضغوطٍ من ضعف الطلب الخارجي وانخفاض أسعار النفط بسبب تأثير ثورة النفط الصخري في أواخر العام 2014. منذ كانون الأول (ديسمبر) 2016، كان تعاون “أوبك+” ساري المفعول، حيث حاولت روسيا وأعضاء أوبك بقيادة المملكة العربية السعودية تقييد الإنتاج لدعم أسعار النفط إلى نطاق أكثر راحة يبلغ حوالي 60 دولاراً للبرميل، لكن لا يزال هذا السعر أقل من أسعار العديد من الدول للتعادل في موازناتها. كاد تأثير جائحة كوفيد-19، جنباً إلى جنب مع المعركة من أجل الحصة السوقية في وقتٍ مبكر من الوباء في آذار (مارس) 2020، أن يُعرقل تعاون “أوبك +”. علاوة على ذلك، جاءت قدرة الحكومات على الاستجابة لأزمة كوفيد بعد خمس سنوات من أرصدة الحساب الجاري غير المُستقرّة، مع عجزٍ مالي عنيد تم تمويله من خلال ارتفاع مستويات الدين العام. وفقاً لصندوق النقد الدولي، إرتفع متوسط نسبة الدين العام لدول مجلس التعاون الخليجي إلى الناتج المحلي الإجمالي من 16.2٪ في العام 2006 إلى 41.4٪ في العام 2020. وفي حالات مثل سلطنة عُمان، يقترب الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي من 80٪ بل وأعلى في البحرين.
سيكون إغراء زيادة الإنفاق قوياً خلال العامين 2021 و2022، فيما تنتعش أسعار النفط حيث بلغت مستوى يقترب أو يتجاوز 70 دولاراً للبرميل في صيف العام 2021. وفي بعض الحالات، كما هو الحال في سلطنة عُمان، ستضغط الاحتجاجات العامة على قلّة فرص العمل على الحكومة لتقليص بعض تدابير التقشّف وإنشاء برامج لدعم التوظيف في القطاع العام. ببساطة، هناك توقّعٌ أكثر من الحكومات بالنسبة إلى تعافي كوفيد-19، لكن الموارد لتقديم وتوسيع الدعم محدودة أكثر، أو تتطلب خيارات صعبة تُعرّض الإنفاق في المستقبل للخطر. إن عبء الدين الخارجي في عُمان، على سبيل المثال، أصبح سمةً أكثر ثباتاً في تخطيط الموازنة.
إن ارتفاع أسعار النفط وتعافي الطلب أوّلاً من الولايات المتحدة وأوروبا ثم من آسيا سيكون الإشارة الرئيسة لصنع السياسات الاقتصادية الخليجية في أواخر 2021 و2022، مما يؤكد مرة أخرى الطبيعة المُسايِرة للدورات الاقتصادية للإقتصاد السياسي الإقليمي. ومع ذلك، هناك رياحٌ مُعاكسة لهذا الانتعاش. أوّلاً، كان الانتعاش في الهند وعبر آسيا أبطأ منه في الاقتصادات الغربية، وهو أمرٌ ضروري لأسواق التصدير الرئيسة في منطقة الخليج. ثانياً، لا يزال افتراض عودة إيران إلى أسواق النفط العالمية قرب نهاية العام 2021 وحتى العام 2022 يؤثر في خطط ضبط الإنتاج في دول الخليج العربية، والتي تتم معايرتها بعناية مع التعافي المُتَوَقع للطلب. عودة إيران إلى الأسواق مُتوَقَّعة، ولكن ليس بالضرورة مُرحَّباً بها، وهو ما يؤدي أيضاً إلى بعض إعادة التشكيل السياسي داخل المنطقة، فيما يسعى خصوم إيران إلى تقليص الاختلافات بين بعضهم البعض. وأخيراً، لن يفيد انتعاش الطلب جميع المُصدّرين بالتساوي. ولن يُغيّر ارتفاع الأسعار في المدى القصير المسار الطويل الأمد للطلب على النفط، والذي من المتوقع أن يستقر في العقدين المقبلين. إن الاستفادة من هذه الفترة المؤقتة للتحوّل العالمي في مجال الطاقة سيعني تسريع الإنفاق الحكومي في المجالات التي يمكن أن يكون لها تأثير طويل الأجل في نمو الإنتاجية وزيادة مشاركة القوى العاملة بين المواطنين في القطاع الخاص، وخصوصاً النساء. ستكون بعض الحكومات قادرة على تسريع الإنتاجية، بما في ذلك استخدام العمالة الأجنبية ذات المهارات العالية وأنظمة الإقامة طويلة الأجل المواتية، وستقوم حكومات أخرى ببساطة بالسير في المياه لتلبية المطالب الفورية لسكّانها.
خلال الوباء، كانت استجابة السياسة العامة في ما يتعلق بإجراءات التحفيز في جميع أنحاء الشرق الأوسط ضعيفة مُقارنةً بالمناطق الأخرى، وبخاصة اقتصادات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. وقد وجدت سلسلة من الدراسات التي أجرتها لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا “يونيسكوا/إيسكوا”، أن جائحة كوفيد أدّت إلى تفاقم نقاط الضعف الحالية في الإدماج الاقتصادي للشباب ومشاركة القوى العاملة، ونقص السياسة الضريبية الفعّالة، والدعم المباشر للعاملين في القطاع غير الرسمي، وكشف القطاعات غير النفطية مثل السياحة والخدمات اللوجستية لخسائر فادحة. تُعتبَر الروابط التي تربط اقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي بالمنطقة الأوسع أساسية، بما لها من آثار متتالية في التحويلات المالية وتدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر.
علاوة على ذلك، داخل دول مجلس التعاون الخليجي، كان دعم الأجور لعمال القطاع الخاص محدوداً، نظراً إلى أن مواطني الخليج عادة يعملون في القطاع العام وأن الأجانب يسيطرون على جزء كبير من القطاع الخاص. كان البرنامج السعودي “سَنَد”، وهو منحة تأمين ضد البطالة، استثناءً واحداً. ولكن، تم طرح “سَنَد” في الوقت عينه مع “برنامج حساب المواطن” الحالي، والذي يهدف إلى تقديم مساعدة شهرية للأُسَر ذات الدخل المُنخفض. وبدلاً من ذلك، مالت الحكومات إلى توجيه الدعم نحو دعم المرافق أو تخفيض الرسوم، مُتراجعةً عن بعض إصلاحات الدعم المُكتَسبة بشقّ الأنفس. ومالَ هذا الشكل من الإغاثة الاقتصادية للجائحة أيضاً إلى التوزيع على الكيانات المُرتبطة بالدولة مثل المؤسسات الصغيرة والمتوسطة الحجم، والتي ربما كانت تحتاج إلى المزيد من الدعم. وحدث توزيع الدعم عينه في قطاع البنوك، حيث خفّفت المصارف المركزية متطلبات الإقراض لقطاع البنوك الخاصة وشجّعت شروطاً مُيَسّرة لسداد الديون لصالح الكيانات الكبيرة والمرتبطة بالدولة. في جميع أنحاء الخليج، كانت عمليات الإغلاق التي فرضتها الحكومة صارمة، وبينما فتحت دبي جزئياً للاستحواذ على عائدات السياحة خلال عطلة رأس السنة الجديدة، ظلّت غالبية دول مجلس التعاون الخليجي خاضعة لقيود السفر حتى حزيران (يونيو) 2021، بما في ذلك القيود المفروضة على السياحة الدينية في المملكة العربية السعودية. كان أحد الآثار الإيجابية لعمليات الإغلاق هو إظهار كفاءة الحكومات في الحدّ من انتشار مرض كوفيد -19 وإطلاق برامج التلقيح بفعالية.
في بعض الحالات، سرّعت جائحة كوفيد الجهود المبذولة لتوليد مصادر جديدة للإيرادات من خلال الضرائب والرسوم. كان التأثير مُزعجاً بالنسبة إلى البعض، خصوصاً في المملكة العربية السعودية، حيث تم رفع ضريبة القيمة المضافة التي تم إدخالها حديثاً من 5٪ إلى 15٪ في تموز (يوليو) 2020. كما أن إدخال ضريبة القيمة المضافة في سلطنة عُمان (نيسان/أبريل 2021)، البحرين، الإمارات العربية المتحدة والسعودية ساهم في بعض الضغوط التضخّمية. في المملكة العربية السعودية، إرتفعت الأسعار في نيسان (أبريل) 2021 بنسبة 5.3٪ على أساس سنوي اعتباراً من العام 2020، مع ارتفاع أسعار المواد الغذائية والمشروبات بنسبة 8.4٪ على أساس سنوي، وفقاً لأبحاث جدوى للاستثمار.
من الآن فصاعداً، تُشير احتمالية انخفاض الطلب على النفط وأسعاره إلى أنه سيكون من الأصعب على دول مجلس التعاون الخليجي الاعتماد على عائدات صادرات النفط لتحقيق نموّها المُستقبلي. يُمثل التحوّل العالمي في مجال الطاقة فرصةً لشركات النفط الخليجية الوطنية لتُصبح عملاقة في مجال الطاقة المُتجدّدة، والتركيز على المنتجات النهائية لثرواتها من الموارد الطبيعية، بما في ذلك البتروكيماويات والمنتجات الجديدة مثل الهيدروجين الأزرق والأخضر. سيكون التحدّي الذي يواجه حكومات دول مجلس التعاون الخليجي هو تسريع نمو الإنتاجية بين القوى العاملة الوطنية. كان توليد النمو الاقتصادي على مدى العقود الثلاثة الماضية مُذهلاً من نواحٍ عديدة: فقد نما حجم اقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي من 0.15 تريليون دولار في الناتج المحلي الإجمالي الاسمي في العام 1986 إلى ما يقرب من 1.7 تريليون دولار في العام 2019. والذي دعم هذا التوسع الاقتصادي هو النمو في البنية التحتية، التعليم والخدمات الاجتماعية وفرص العمل في القطاع العام. كان انخفاض تكلفة العمالة المُستورَدة بمثابة دفعة للنمو، ولكن ليس بالضرورة مكاسب في الإنتاجية مع مرور الوقت. إن منحنى النمو هذا أصبح مُستَوِياً/أفقياً الآن.
سيكون مستقبل دول مجلس التعاون الخليجي أكثر تنافسية بين الاقتصادات الوطنية، حيث ستُحدد السياسة التنظيمية القدرة على جذب الاستثمار الأجنبي والمواهب عالية المهارات وتشجيع ريادة الأعمال. إن النمو السكاني والاتجاهات الديموغرافية يؤثّران بشكلٍ كبير في النمو المستقبلي.
مع بدء التضخم الشبابي الخليجي في بلوغ سن التقاعد، سنرى أعباء الإنفاق الاجتماعي والرعاية الصحية تزداد في دول مجلس التعاون الخليجي. سيكون الطريق إلى الأمام وَعِراً بالتأكيد، لكن جائحة كوفيد أظهرت أن دول مجلس التعاون الخليجي قادرة على إجراء إصلاحات سياسية صعبة، لا سيما في القدرة على تنفيذ الإصلاح الضريبي والتشبّث ببعض الدروس المُستفادة بعد انخفاض أسعار النفط في العام 2014. ستتنافس هذه الدول الآن بشكلٍ أكبر على الاستثمار الأجنبي، وستعمل بجدّية أكبر لتعزيز الإنتاجية ورأس المال البشري داخل أسواق العمل الوطنية. قد تكون فترة الراحة القصيرة الآن مع ارتفاع أسعار النفط فرصةً مهمة لوضع سياساتٍ للنمو للمدى الطويل.
- الدكتورة كارين يونغ هي زميلة كبيرة، ومديرة برنامج الاقتصاد والطاقة في معهد الشرق الأوسط بواشنطن. تُركّز أبحاثها على الاقتصاد السياسي لمنطقة الخليج/ الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. يُمكن متابعتها عبر تويتر على: @ProfessorKaren
- كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.