تَمَرُّدُ “فاغنر”: عَرضٌ مُسبَقٌ لما هو آتٍ بَعدَ بوتين؟

كابي طبراني*

بَعدَ أحداثِ العَقدِ ونُصفِ العَقدِ الماضيين، كانَ الاعتقادُ السائدُ أنَّ صانعي السياسة والمُحلّلين الأوروبيين قد اعتادوا على الصدمة التي يُمكِنُ أن تُوَلّدها الأزمات غير المسبوقة. مع ذلك، نجحت مسيرة يفغيني بريغوجين باتجاه موسكو في نهاية الأسبوع الفائت في إذهال حتى أكثر المراقبين خبرةً في السياسة الأوروبية. على الرُغمِ من أن التوتّرات بين بريغوجين ووزارة الدفاع الروسية كانت واضحة منذ شهور، إلّا أنَّ الاستيلاءَ المُفاجئ لشركته العسكرية التي يملكها، فاغنر”، في 24 حزيران/ يونيو على مدينة روستوف في جنوب روسيا أجبرَ العديدُ من المُحلّلين على إعادةِ تقييمِ افتراضاتهم حولَ استقرارِ الدولة الروسية.

ومن المفارقات، أن تسجيلات تهديدات بريغوجين لوزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو ظهرت في اليوم السابق، تمامًا في الوقت الذي كُنتُ أقوم بتجميع بعض الملاحظات حول الوضع في روسيا لهذا المقال. في تلك المسودّة الأوّلية، أوضحتُ الأسبابَ التي تجعلني أعتقد، على الرُغمِ من كل المخاطر طويلة المدى لانهيار الدولة في روسيا، أن التحدّي الداخلي ضد الرئيس فلاديمير بوتين غير مُرَجَّح أو مُتَوَقَّع. بمجرد أن أصبح واضحًا أن بريغوجين كان مستعدًا حقًا لإرسال آلافٍ من قوات “فاغنر” إلى موسكو، اضطررت –مثل العديد من الزملاء- إلى تعديلِ افتراضاتي فجأةً استجابةً لموقفٍ سريعِ التغيّر، والذي ظلت نتائجه النهائية غير واضحة بعد أيامٍ على توسّط الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو لهدنة بين بريغوجين وبوتين.

بينما بدا أن رسالةً صوتية موجزة من بريغوجين وخطابات عامة لبوتين تشيرُ إلى نهاية هذه المرحلة من الأزمة، لا يزال الكثيرُ غير واضح. أعلن بوتين ولوكاشينكو أنَّ بريغوجين اختار المنفى في مينسك، وعرض بوتين على قوات “فاغنر” الاختيار بين البقاء مع المجموعة أو الاندماج في الجيش الروسي. ولكن حتى الآن لم يكن هناك تأكيدٌ مرئي ملموس لأيِّ شيءٍ يتجاوز عودة قوات “فاغنر” إلى قواعدها. بينما أسقط المُدَّعون الروس تُهَمَ الخيانة الموجَّهة إلى بريغوجين وقادة “فاغنر” الآخرين كجُزءٍ من عمليةِ مُصالحَة مُفترَضة، فإنَّ فُرَصَ نجاحِ هذه العملية لا تزال غير واضحة.

أدّى التناقضُ بين التكهّناتِ المسعورة حول ما كان يحدث في 24 حزيران/ يونيو والفجأة التي تلاشت بها الأزمة بعد ذلك إلى رَدِّ فعلٍ مُتضارِبٍ بين بعض المراقبين الذين يجادلون بأنَّ الادعاءات القائلة أنَّ بوتين ضَعُفَ بسبب مواقف بريغوجين مُبالَغٌ فيها إلى حدٍّ كبير. وإلى حدٍّ ما، فإن قدرة بوتين على مَنعِ انشقاقاتِ الأجهزة الأمنية والوحدات العسكرية وشبكات الأعمال إلى معسكر بريغوجين تشير إلى أن الكثيرين من النخبة الروسية يفضّلون تجنّبَ المشاكل بدلًا من المخاطرة بمزيدٍ من زعزعةِ الاستقرار. في الوقت الحالي، على الأقل، بغضِّ النظر عن الانتقادات التي يتم التعبير عنها خلف الأبواب المُغلقة بشأن أخطاء بوتين العديدة في الحرب ضد أوكرانيا، لم يكن أحدٌ من بين النخب الروسية المُحبَطة جدًا على استعدادٍ لتحمّلِ المخاطرة بدعم تمرّد “فاغنر”.

إن إلقاءَ نظرةٍ فاحصة على تصريحات بريغوجين الخاصة خلال الأسابيع الماضية يشير إلى أنه حتى “فاغنر” نفسها كانت حريصةً على تجنّب تحدّي سلطة بوتين بشكلٍ مباشر. على الرُغم من أنَّ بريغوجين قدّمَ بعض الإشارات غير المباشرة التي يمكن تفسيرها على أنها انتقاداتٌ سريعة ضد عجز بوتين عن الاعتراف بالتحدّيات التي يواجهها الجنود الروس في أوكرانيا، فقد ألقى باللوم في الإخفاقات العسكرية على عدم كفاءة وزارة الدفاع. في حين أن دوامة التصعيد سرعان ما حوّلت مناورة “فاغنر” إلى تحدٍّ مباشر لسلطة بوتين على مدار اليوم، فقد أشار بريغوجين أثناء لقائه مع كبار الشخصيات في الجيش في روستوف إلى أنه لا يتحدّى شرعية نظام بوتين. وفي أحدث تسجيلاته الصوتية، واصل بريغوجين ترديد الروايات التاريخية القديمة التي تؤكد كيف أن “القياصرة” الجيدين –في هذه الحالة بوتين– يمكن أن يضلّهم مستشارون “أشرار” مثل شويغو أو رئيس هيئة الأركان العامة، الجنرال فاليري غيراسيموف.

بدا بريغوجين مدركًا بدرجة كافية للحقائق اللوجستية التي تواجه قوات الأمن الروسية ليعرف أنه بمجرد وصول قوته المكوَّنة من 10 آلاف رجل إلى موسكو، يمكن أن تسيطر على المدينة الشاسعة التي يبلغ عدد سكانها 12 مليون نسمة بمفردها. لكن جميع الأدلة تشير إلى أنه بدلًا من الاستيلاء على السلطة، كانت خطة بريغوجين الأولية هي الحصول على نفوذ كافٍ لمنع خطة شويغو المعلنة لاستيعاب فاغنر في وزارة الدفاع.

ومع ذلك، حتى مع هذه المحاذير، فإن التمرّدَ الذي كاد يصل إلى موسكو وأدّى إلى إسقاط طائرات تابعة لسلاح الجو الروسي وطائرات هليكوبتر مقاتلة لا يزال رمزًا صارخًا لنقاط الضعف الهيكلية المتزايدة في روسيا. إنَّ قدرةَ قوّةٍ شبه حكومية مثل “فاغنر” على اكتساب الاستقلالية والموارد للتخطيط لمسيرة إلى موسكو بدون جذب انتباه وكالة الاستخبارات المحلية التابعة لجهاز الأمن الفيدرالي أو غيرها من الأجهزة الأمنية، هو مؤشّرٌ إلى كيف أن نهجَ بوتين في الحفاظ على أمن النظام يؤجّج التوترات الخطيرة داخل النخبة الروسية. بموافقته على صفقةٍ توسّطت فيها جهة خارجية مثل لوكاشينكو بدلًا من إعدام بريغوجين على الفور، كشفَ بوتين أيضًا عن مدى استنفاد الحرب في أوكرانيا قدرة نظامه على سحق التهديدات المحلية بسرعة للوضع الاستبدادي الراهن.

بعبارةٍ أخرى، قد لا تُظهرُ الأزمةُ بالضرورة ضُعفَ قبضة بوتين على السلطة، لكنها تُظهرُ أنَّ قوّة الدولة الروسية التي يُسيطِرُ عليها قد ضَعُفَت.

لذا، في حين أنَّ مَصيرَ “فاغنر” وبريغوجين سيظلّ غير واضحٍ للأسابيع القليلة المقبلة، وربما مصير بوتين لفترةٍ أطول، لا يزال من المُمكنِ استخلاص استنتاجات حول المسار الطويل الأمد لروسيا من الفوضى التي انطلقت في نهاية الأسبوع الماضي لفترةٍ وجيزة. كان بوتين قادرًا على منع مقامرة بريغوجين من جلب المزيد من الانقسامات بين النخبة الروسية إلى السطح. ويشير ذلك إلى أنَّ المخاوفَ المُنتشرة بشأنِ التهديد الذي يمكن أن يُشكّله عدم الاستقرار هذا على تماسك الدولة ما زالت تُمَكّنه من تصوير نفسه على أنه زعيمُ روسيا الذي لا غنى عنه. ومع ذلك، يشير مدى شلِّ النظام الذي أنشأه بوتين في البداية عند مواجهةِ أزمةٍ مُتصاعدة إلى أنَّ مغامرة “فاغنر” هي أحد أعراض الاتجاهات الهيكلية طويلة الأجل التي ستستمر في الظهور.

في نظامٍ أصبحَ يعتمدُ على زعيمٍ فردي ليكون بمثابة الحَكَمِ بين الفصائل المتنافسة، فإن قدرةَ قوّةٍ مؤلّفة من بضعة آلاف من القوات على تهديد العاصمة تُوضّحُ الفوضى التي يمكن أن تتكشف بمجرد رحيل بوتين. إن عدم رغبة بوتين في اختيارِ خليفةٍ مُحتَمَل يمكن أن يصبح مركزًا بديلًا للسلطة يعني أن مخاطر الخلافات حول عملية الخلافة بمجرّد تركه للمنصب في نهاية المطاف -وحتمًا- متأصّلة في هيكل السلطة الذي وضعه. مع الضغط الشديد الذي فرضته الحرب الكارثية على أوكرانيا على المجتمع الروسي وانتشار الوحدات المسلحة شبه الحكومية –والتي تُعتَبَرُ وحدات “فاغنر” والزعيم الشيشاني رمضان قديروف مجرد مثلين بارزَين– زادت احتماليةُ حدوثِ نزاعٍ على الخلافة بشكلٍ كبير، يمكن أن يتصاعد إلى حربٍ أهلية إقطاعية جديدة تُقسِّم الدولة.

عندما يتعلق الأمر بكيفية حدوث أزمة الخلافة هذه، فإن العاملَ الأكثر صعوبة في القراءة هو الاستجابة المُحتَملة للشعب الروسي. إنَّ انتشارَ اللامبالاة في موسكو حتى مع اقترابِ قوات “فاغنر” من المدينة هو مؤشّرٌ مُحتَمَلٌ إلى أنَّ جهودَ نظام بوتين لتفتيت السكان وعدم تسييسهم ستضمن أن يبقى معظم الروس على الهامش ويتجنّبوا التورّط. إن المدى الذي أثبتت فيه المعارضة الليبرالية أنها غير ذات صلة خلال مسيرة بريغوجين إلى موسكو هو علامة على أن القمع والهجرة الجماعية قد حطمت قدرة حركات المعارضة المؤيدة للديموقراطية على التأثير في الأحداث في روسيا في أيِّ وقتٍ قريب.

ومع ذلك، فإن الحماس الذي أظهره بعض الناس في روستوف تجاه “فاغنر” يُلمّحُ إلى الكيفية التي قد تكونُ بها أجزاءٌ من المجتمع الروسي يائسة للغاية من أجل التغيير بحيث يمكن للفصيل الراغب في قلب الوضع الراهن أن يكتسب الدعم، بغض النظر عن أنَّ قيادته تخدم مصالحها الذاتية أو إيديولوجيتها الشريرة. سواء نجح بريغوجين في تسويق نفسه على أنه روبن هود القومي الروسي أم لا، إذا أصبح فصيلٌ مسلح قوّةً للتجديد خلال أزمة خلافة ما بعد بوتين، فإن سيناريو الحرب الأهلية يمكن أن يحشد أعدادًا أكبر بكثير مما يتوقّعه العديد من المحلّلين حاليًا.

إنَّ التحرّكات المتعثّرة لكَبحِ جماح “فاغنر” التي أدّت إلى زحفها إلى موسكو هي علامة على أن كبار الشخصيات داخل النظام قد أدركوا الضرر الذي يمكن أن يلحقه تصدّع التسلسل الهرمي للقيادة الذي يُغذّي صعود بريغوجين وقديروف في المجتمع الروسي. تشكلت هذه التحركات لإخضاع “فاغنر” بلا شك من خلال المصلحة الذاتية للقيادة العسكرية حول شويغو وغيراسيموف، اللذين انكشفت عدم كفاءتهما في ساحات القتال في أوكرانيا. ومع ذلك، فإن احتمالَ أن تنجحَ شخصياتٌ سياسية ماهرة –مثل حاكم “أوبلاست تولا” أليكسي ديومين وعمدة موسكو سيرغي سوبيانين– في حشد الموارد التي لا تزال مُتاحة للدولة الروسية للسيطرة على الكيانات المسلحة وتجنب سيناريوهات الصراع المدني المحتملة، ينبغي أخذه في الاعتبار.

ومع ذلك، فإن أي شخصية بارزة تبقى قائمة بعد رحيل بوتين ستواجه تحدي التغلب على إرثه الكارثي. أدى الفسادُ والركود تحت قيادته إلى كارثة ضد خصم خارجي في أوكرانيا، فضلًا عن فشلٍ شبه كارثي في سحق تمرّدٍ مُسَلَّح محلي. على الرُغم من أنه يبدو أن بوتين قد تخطى التحدّي الذي شكّلته “فاغنر” في الوقت الحالي، فإن الاضطرابات التي أعقبت مقامرة بريغوجين تُقدّم تلميحًا عن الكيفية التي تعمل بها الاتجاهات الهيكلية الأوسع على تأجيج التوترات في جميع أنحاء المجتمع الروسي. إذا لم تتمكن القيادة الروسية التي ستخلف بوتين في النهاية من إصلاح الضرر الذي ألحقه بروسيا بسرعة، فإن المذبحة المجتمعية التي من المرجح أن تظهر بعد رحيله يمكن أن تدمّر الدولة التي أراد استعادة مجدها.

  • كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر تويتر على: @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى