تحوّلٌ نوعي، ولكن …

كابي طبراني*

في الأسبوع الفائت، إتّهمت “هيومن رايتس ووتش” (Human Rights Watch)، للمرة الأولى في تاريخ المنظمات الحقوقية، إسرائيل بارتكاب جرائم الفصل العنصري والاضطهاد ضد 7 ملايين فلسطيني يعيشون في إسرائيل والأراضي المحتلة. كان هذا الإعلان تحوّلاً متأخّراً بالنسبة إلى الفلسطينيين الذين يعيشون تحت الحكم والسيطرة الإسرائيلية لما يقرب من ثلاثة أرباع القرن.

في تقريرٍ من 213 صفحة (حصلت عليه “أسواق العرب”)، قالت المنظمة: “تستند النتائج إلى سياسةٍ حكومية إسرائيلية شاملة تعملُ للحفاظ على هيمنة اليهود الإسرائيليين على الفلسطينيين”. ويشمل ذلك ارتكاب انتهاكات جسيمة ضد الفلسطينيين الذين يعيشون في الأراضي المحتلة، بما فيها القدس الشرقية، وكذلك ضد المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل.

وقد وصف التقرير “الواقع الحالي لسلطةٍ واحدة، الحكومة الإسرائيلية، التي تحكم بشكلٍ أساس المنطقة الواقعة بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط​​، وتسكنها مجموعتان متساويتان في الحجم تقريباً” حيث تمنح امتيازات لـ”الإسرائيليين اليهود بينما تقوم بقمع الفلسطينيين، وبصورة أشدّ في الأراضي المحتلة”.

في الأصل فرضت جنوب إفريقيا “الفصل العنصري” لفصل البيض عن السود، ثم تمّ تبنّيه كجريمةٍ ضد الإنسانية بموجب اتفاقية العام 1973 ونظام روما الأساسي لعام 1998 للمحكمة الجنائية الدولية.

كتبت هيومن رايتس ووتش: “في جميع أنحاء إسرائيل والأراضي المحتلة، سعت السلطات الإسرائيلية إلى تعظيم الأراضي المُتاحة للمجتمعات اليهودية وتركيز معظم الفلسطينيين في مراكز سكانية كثيفة”.

وكما كتبتُ في كتابي “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني” (IsraeliPalestinian Conflict)، فقد أنجز الإسرائيليون هذا العمل من خلال الاستيلاء على المزارع والبساتين الفلسطينية، ما جعل من المستحيل على الفلسطينيين الاستمرار في العيش في القرى الريفية. بيت لحم خيرُ مثال على ذلك، فبعد تدفّق اللاجئين في أعقاب حرب العام 1967 والعائلات من القرى المجاورة منذ ذلك الحين، أصبح المسلمون الغالبية في بيت لحم، التي كانت في السابق مدينة ذات غالبية مسيحية. علاوة على ذلك، دفعت القيود الإسرائيلية المفروضة على الحجاج الأجانب، مصدر الدخل الرئيس لبيت لحم، وسياسات الاحتلال الأخرى، العديد من المسيحيين، الذين سهّل لهم أقاربهم الذين يعيشون في الخارج أمور السفر، إلى الهجرة.

مُستشهدةً ب”التهديد الديموغرافي” من الأعداد المتزايدة من الفلسطينيين في القدس الشرقية المحتلة، قالت “هيومن رايتس ووتش” أن إسرائيل تسعى إلى “الحفاظ على غالبية يهودية صلبة في المدينة”. وهي تقوم بذلك من خلال استمرار الضغط على الفلسطينيين المقدسيين من خلال الاستيلاء على منازلهم وممتلكاتهم الأخرى، وهدم المنازل التي تم بناؤها بدون تصاريح والتي لا تُمنح أبداً للفلسطينيين، وفرض ضرائب عالية على الأعمال التجارية المُتعثّرة وإهمال البنية التحتية للقطاع الشرقي من المدينة.

يواجه المواطنون الفلسطينيون في إسرائيل تمييزاً مؤسّسياً، حسبما أفادت “هيومن رايتس ووتش”، من خلال تبنّي قوانين تسمح للبلدات اليهودية استبعاد الفلسطينيين و”الموازنات التي تُخصّص جزءاً بسيطاً من الموارد للمدارس الفلسطينية مُقارنةً بتلك التي تخدم الأطفال اليهود الإسرائيليين”.

في الأراضي المحتلة، تفرض إسرائيل “حكماً عسكرياً شديد القسوة على الفلسطينيين بينما تمنح اليهود الإسرائيليين الذين يعيشون بطريقة مُنفصلة في المنطقة عينها حقوقهم الكاملة بموجب القانون المدني الإسرائيلي الذي يحترم الحقوق”. وجادلت “هيومن رايتس ووتش” بأن هذا “يرقى إلى مستوى القمع المنهجي”، وعرّفت السياسة على أنها فصلٌ عنصري (apartheid).

كدليلٍ على الفصل العنصري، سردت “هيومن رايتس ووتش” إغلاق غزة ومُصادرة أكثر من ثلث أراضي الضفة الغربية، وفرض “ظروفٍ قاسية في أجزاءٍ من الضفة الغربية” أدّت إلى الترحيل القسري لآلاف الفلسطينيين من البلدات والقرى، والحرمان من تصاريح الإقامة، و”تعليق الحقوق المدنية الأساسية”.

ويستند التقرير إلى وثائق حقوق الإنسان، والقوانين الإسرائيلية التمييزية، والموازنات الإسرائيلية، والتخطيط لاستخدام الأراضي، فضلاً عن البيانات الرسمية.

على الرغم من أن إسرائيل رفضت اتهامات “هيومن رايتس ووتش” ووصفتها بأنها “سخيفة وغير معقولة”، إلّا أن رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود أولمرت حذّر مراراً على مدى سنواتٍ عدة من أن إسرائيل ستصبح دولة فصل عنصري إذا استمرت في مثل هذه السياسات. يبدو أن “هيومن رايتس ووتش” ومنظمات أخرى لم تأخذ أولمرت على محمل الجد حتى هذا العام.

من جهتهم رحّب الفلسطينيون وحلفاؤهم بموقف “هيومن رايتس ووتش”، حيث لم تتهم المنظمة من قبل إسرائيل والإسرائيليين بارتكاب جرائم ضد الإنسانية على الرغم من اعتراف المنظمة في هذا التقرير بأن إسرائيل متورّطة في انتهاكات حقوق الإنسان الفلسطينية منذ تأسيسها، وأشارت إلى أن بعض المسؤولين الإسرائيليين يعتزم الحفاظ على السيطرة إلى الأبد على كل الأراضي الفلسطينية ودعم ذلك بالاستعمار فيما هم يتحدثون لعقودٍ عن السلام.

واتهمت إسرائيل منظمة “هيومان رايتس ووتش” بشنّ حملة منذ أمد طويل ضد الدولة العبرية، ووصفت التقرير بأنه “كُتيّب دعائي” لا يعكس “الواقع على الأرض” الذي يعمل بشكل جيد للغاية.

الواقع أن “هيومن رايتس ووتش” لم تقم بتقييم الفصل العنصري إلّا بعد أن أعلنت منظمة حقوق الإنسان الإسرائيلية “بتسيلم” (B’Tselem) أن إسرائيل ليست ديموقراطية ولكنها “نظام فصل عنصري”. علاوة على ذلك، حاولت “هيومن رايتس ووتش” تخفيف التهمة بالقول إن إسرائيل قد تجاوزت أخيراً “العتبة” المؤدّية إلى الفصل العنصري. هذا كلامٌ غير صحيح. لقد تم إنشاء إسرائيل في العام 1948 كدولة فصل عنصري في العام نفسه الذي تبنّت جنوب إفريقيا الفصل العنصري كسياسة دولة، واضطهدت المواطنين السود والأعراق المختلطة، وعزلتهم في مجتمعاتهم، ودفعتهم إلى الهامش.

خلال حرب التأسيس، طردت إسرائيل 750 ألف فلسطيني من منازلهم ووضعت 150 ألفاً تجرّأوا على البقاء تحت الأحكام العرفية حيث عاشوا حياة مُنفصلة وعانوا من التمييز المُستمر. لقد تحمّلوا المعاملة التي وصفتها “هيومن رايتس ووتش” بالتفصيل في تقريرها، والتي امتدت إلى الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس الشرقية وغزة بعد أن احتلتها إسرائيل في العام 1967.

وقد دعت “هيومن رايتس ووتش”، متأخّرة، المحكمة الجنائية الدولية إلى “التحقيق مع المتورطين بشكل موثوق” في الاضطهاد والتمييز ومقاضاتهم وفرض عقوبات على المسؤولين المتورّطين. “يجب على الدول أن تفعل ذلك أيضاً وفقاً لقوانينها الوطنية ولمبدأ الولاية القضائية العالمية”. وقالت “هيومن رايتس ووتش” أن على الأمم المتحدة إنشاء لجنةٍ للتحقيق في الفصل العنصري في إسرائيل/ فلسطين وتمكين مبعوثٍ عالمي عن “جرائم الاضطهاد والفصل العنصري مع تفويضٍ لتعبئة العمل الدولي لإنهاء الاضطهاد والفصل العنصري في جميع أنحاء العالم”.

لسوء الحظ، تُشكّل هذه التوصيات بادرة جوفاء لن تتبنّاها القوى العالمية الكبرى التي سمحت لإسرائيل بفرض سياسة الفصل العنصري الرسمية على الأرض الواقعة بين البحر الأبيض المتوسط ونهر الأردن.

  • كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب”. ألّف ستة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر تويتر على: @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى