هل تُسلِّم الدول العربية لبنان إلى سوريا لإبعادها عن إيران؟

يدور كلام كثير في أروقة بعض الحكام في الدول العربية يقول بأن إعادة النفوذ السوري إلى لبنان هو أفضل الحلول لإنقاذ سوريا ولبنان من الهيمنة الإيرانية.

الرئيس فلاديمير بوتين: يعمل على إعادة سوريا إلى الحضن العربي

مايكل يونغ*

هل هناك طريقة يُمكن من خلالها لدول الخليج الكبرى مثل السعودية والإمارات، وكذلك دول عربية أخرى، أن تستعيد بعض نفوذها في لبنان؟ قد يبدو السؤال غريباً في وقتٍ يبدو أن السعوديين قد استسلموا وتركوا البلاد لمصيرها، مُعتبرين أنها مُحتلّة من إيران من خلال وكيلها المحلي “حزب الله”.

إذا كان السعوديون والإماراتيون يسعون إلى الحدّ من نفوذ إيران في المنطقة، فإن مُجرّد التخلّي عن لبنان لا يُمثّل استراتيجية. كما أنه لا يعني الاستفادة من التغييرات الإقليمية لمحاولة احتواء نفوذ إيران. إن آليات سيطرة “حزب الله” تتآكل ببطء في لبنان. كان الحزب طوّر أجندته المحلية من خلال الدولة اللبنانية وطبقة سياسية ترى في أي مواجهة مع “حزب الله” دعوة إلى الصراع الأهلي، وبالتالي تهديد لوجودها. ومع ذلك، فإن الدولة تتفكك اليوم، ويبدو أن الانقسامات في القيادة السياسية للبلاد لا يمكن التوفيق بينها، ويستعد “حزب الله” بالفعل لحماية أتباعه من الكارثة الاقتصادية المقبلة، وهي علامة مهمة على أن لديه شكوكاً حول إعادة تشكيل واجهة الدولة لمصلحته.

إذا تشقّق لبنان وتفكّك أكثر، كما هو مرجح، ستكون هناك مساحاتٌ لا يسيطر عليها “حزب الله”. أينما تدخلت إيران في العالم العربي –سوريا واليمن والعراق ولبنان– كانت النتائج فوضى وتشويش. إن ما يسمى بـ “محور المقاومة” ليس أكثر من محورٍ فاشلٍ ومُفلس. قد يكون الإغراء بالنسبة إلى السعوديين والإماراتيين هو السماح للصرح الفاسد بالتفكك والتلاشي. ومع ذلك، فإن هذا لا يُوفّر اليقين بأنهم قادرون على تشكيل العواقب، وهي ليست الطريقة التي واجهوا بها في سوريا، الدولة التي سبقت لبنان بأميالٍ في انحدارها إلى العالم السُفلي.

ربما يكون ذلك لأن البلدين الخليجيين يُدركان أن الإيرانيين وحلفاءهم أفضل استعداداً للبقاء والعيش في الفوضى من أعدائهم. بالتأكيد، كان النهج الإماراتي في اليمن يقوم على ملء الفراغات الناشئة بأنظمة بديلة لحماية نفسها بشكل أفضل -سواء من خلال تسهيل إنشاء كيان مستقل في الجنوب، أو من طريق بناء قواعد عسكرية بالقرب منها، أو توطين القوات الموالية للإمارات في المناطق الساحلية الغربية لحراسة الوصول إلى مضيق باب المندب. المملكة العربية السعودية تحذو حذوها. بعد أن أدركت أنها لا تستطيع دحر الحوثيين، فإنها تُركّز الآن على إصلاح وحماية حدودها الجنوبية.

في الأشهر الأخيرة، كان هناك تحوّلٌ ملحوظ في مواقف السعودية والإمارات تجاه سوريا. أعاد الإماراتيون فتح سفارتهم في دمشق في العام 2018، وكانت هناك مؤشرات متعددة أخيراً إلى رغبة عربية في إعادة سوريا إلى جامعة الدول العربية. إتخذ السعوديون نهجاً أكثر حذراً من الإمارات أو العراق أو مصر، لكن المملكة ستوافق في النهاية على قرار توافقي لاستئناف الاتصالات مع نظام الرئيس بشار الأسد. لكن هذا يطرح سؤالاً مهما: ما الثمن الذي ستحاول الدول العربية وسوريا دفعه مقابل مثل هذا الاستئناف؟

إن شعور دول الخليج بأن سوريا مُعرَّضة للخطر بشكل استثنائي –حيث قُدِّرت تكاليف إعادة الإعمار في العام 2019 بما يتراوح بين 200 مليار دولار و400 مليار دولار— من المرجح أن يدفعها إلى الطلب من سوريا خفض مستوى علاقتها مع إيران. الأسد لا يرغب في ذلك، لكن خياراته محدودة. قلّة من الدول هي على استعدادٍ لتقديم الأموال لسوريا في ظلّ نظامٍ على رأسه الأسد، لذلك لا يمكنه الإختيار إذا كان يريد الشروع في عملية إعادة الإعمار. كما أن تقليص العلاقات السورية مع طهران لن يكون سهلاً، حيث أن القوة الإيرانية واسعة النطاق في البلاد، بحيث تصل إلى المؤسسات الأمنية والاستخباراتية الأساسية للنظام.

ومع ذلك، فإن لدى الأسد خيارات إذا قرر إعادة التوازن وخفض العلاقات مع إيران. يمكنه الاعتماد على دعم روسيا، التي وسّعت أيضاً نفوذها على القطاعات العسكرية والأمنية في سوريا. من جهتها تبدو موسكو حريصةً على استقرار سوريا ضمن إجماع عربي أكثر من إيران، وكان لها دورٌ فعّال في محاولة تغيير المواقف العربية تجاه دمشق. كما لدى الرئيس السوري انتخابات هذا العام. في حين أن قيمتها الديموقراطية ستكون معدومة، فإن فوزه المُصطَنَع سيمنح النظام السوري زخماً جديداً، فضلاً عن شرعية زائفة سيحاول البناء عليها. وهذا يطرح سؤالاً آخر: ما الذي سيطلبه الأسد في المقابل من الدول العربية لكي يلبّي على الأقل جزءاً من شروطها في ما يتعلق بإيران؟

هنا قد تكون الإجابة مقلقة للبنانيين. ما قد يطلبه الأسد هو تجديد نفوذه في لبنان. ستكون هياكل هذا النفوذ مختلفة مُقارنةً بفترة ما قبل 2005 عندما انتشر الجيش السوري في البلاد. من الصعب تخيّل عودة القوات المسلحة السورية، حتى لو كان المليون سوري الموجودين حالياً في لبنان يُمثّلون خطوة في هذا الاتجاه. إذا ضمن الأسد أنه يستطيع تسمية عدد مُعيَّن من النواب في البرلمان، وأجبرت الدول العربية المختلفة حلفاءها المحليين على إدراج سياسيين موالين لسوريا في قوائمهم الانتخابية، فقد يكون ذلك أمراً آخر. في الوقت عينه، إذا كان لسوريا، بدعم من الدول العربية، رأيٌ في مَن يصبح رئيساً للجمهورية ورئيساً للحكومة ورئيساً لمجلس النواب، فقد يؤدي ذلك إلى زيادة شهيّة الأسد.

يُمكن أن يسعى السوريون إلى ترسيخ هذا الأمر من خلال التعاون المُكثَّف مع الجيش اللبناني وأجهزة المخابرات. في حين أننا قد لا نرى جنوداً سوريين في شوارع لبنان، ما الذي يمنع ضباط المخابرات السورية من التواجد في البلاد إلى جانب نظرائهم اللبنانيين؟ يُمكن لمعاهدة الأخوّة والتعاون والتنسيق اللبنانية-السورية المُوقَّعة في أيار (مايو) 1991، ومعاهدة الدفاع والأمن اللبنانية-السورية المُوقَّعة في أيلول (سبتمبر) 1991، إضفاء الشرعية على مثل هذه الترتيبات، مع عواقب بعيدة المدى.

ماذا ستجني الدول العربية من مثل هذه الخطة؟ أولاً، قد تفكّر في سيطرة سورية أكبر على لبنان كوسيلة لتقليل البصمة الإيرانية في كل من سوريا ولبنان. وإذا كان ذلك لفتح المجال أمام المساعدة المالية العربية لبيروت، فقد تفترض الدول العربية، بأن بإمكانها إسكات المقاومة والمعارضة اللبنانية لأي مخطط من هذا القبيل. ثانياً، يمكن للدول العربية أن تعتبر عودة سوريا إلى لبنان وسيلة لتحقيق الاستقرار في بلد يُعاني من خلل مزمن، مثلما فعلت سوريا بعد انتهاء الحرب الأهلية في البلاد في العام 1990. وثالثاً، من خلال تعزيز النوايا العربية الحسنة لدى سوريا من طريق زيادة دور دمشق، يمكن للوضع الجديد أن يُسهّل تسوية نهائية مع إسرائيل، ويمنع عودة إيران، ويخفف التوترات في بلاد الشام ويفتح الباب أمام اتفاقات عربية-إسرائيلية أوسع.

إن هجر لبنان وتسليمه المُستهجَن لن يُشكّل بأي حال من الأحوال عقبة. أصبحت البلاد مصدر إزعاج للعالم العربي لدرجة أن وضعها تحت سيطرة دولة إقليمية لا يطرح أي مشاكل طالما أنها دولة عربية. سيساعد هذا على تفسير سبب إصرار “حزب الله” في رفضه الضغط على جبران باسيل في عملية تشكيل الحكومة. يعرف الحزب أن المُرشَّحين الرئيسيين للرئاسة في العام المقبل هما باسيل الموالي ل”حزب الله” وسليمان فرنجية، الحليف المُقرَّب من الأسد. قد يشعر “حزب الله” أن إضعاف باسيل لن يؤدي إلّا إلى تقوية يد فرنجية والسوريين في لبنان، على حساب الحزب في نهاية المطاف. لذا، في حين أن “حزب الله” وسوريا حليفان إقليمياً، إلّا أنهما متنافسان في لبنان وليس لدى الحزب أي نية للتخلّي عمّا كسبه بعد الانسحاب السوري في العام 2005.

ما يُقلق “حزب الله” وإيران هو أن الدول العربية وروسيا تبدوان على الموجة نفسها في سوريا ولبنان. إن إعادة تشكيل مظهر النظام العربي أمرٌ مرغوب فيه بالنسبة إليهما، لأن هذا من شأنه أن يُعيد بعض الاستقرار إلى سوريا وإلى منطقة عانت عقداً من التقلبات والعنف. قد يتفق العرب والروس على أن الدافع الرئيس وراء هذا الوضع هو إعادة النظر بالنسبة إلى دور إيران التي استغلت وفاقمت الانقسامات الطائفية والاجتماعية في المجتمعات العربية لدفع طموحاتها التوسعية. في هذه العملية، سرّعت طهران من خراب المنطقة.

وهذا ما يفسر ظهور خط الصدع بين سوريا وحلفاء إيران في لبنان. في هذا الصدد، وصف نائب سابق في البرلمان الخطاب الذي تعرض له باسيل في الأسبوع الفائت من قبل الحليف السوري البارز، نائب رئيس مجلس النواب إيلي الفرزلي، بأنه مؤشر إلى ما هو آتٍ. وبالمثل، تكشف المسارات المختلفة التي اعتمدها “حزب الله” الموالي لإيران وحركة “أمل” الموالية لسوريا في ما يتعلق بالرئيس ميشال عون وباسيل عن توترات مماثلة. تشعر إيران بعدم الأمان بشأن حصصها في المنطقة. “حزب الله” والإيرانيون يواجهان هجمات إسرائيلية متواصلة في سوريا من دون أي دعم روسي. تعمل موسكو على توحيد التفاهمات بشأن سوريا مع القوى الإقليمية على طرفي نقيض من المسألة السورية – السعودية والإمارات ومصر، وكذلك قطر وتركيا. وانهارت عملية أستانا، التي أدخلت إيران في صيغة تفاوضية ثلاثية مع روسيا وتركيا لمعالجة الوضع السوري، وصارت هامشية.

سبب عدم قدرة الأطراف على تشكيل حكومة في لبنان هو أنه بخلاف العداء الشخصي بين باسيل وسعد الحريري تكمن مشكلة أعمق، وهي أن طبيعة أي حكومة سيكون لها تأثيرٌ على التوازن الإقليمي. عون وباسيل هما الشريكان الوحيدان ل”حزب الله” في جهوده للرد على الدعم العربي لإحياء دور سوريا في لبنان. لذلك فإن الحزب لن يقف إلى جانب الحريري ضد الرئيس وصهره. قد يستمر هذا الجمود، ويبدو أن “حزب الله” يتطلع الآن نحو الاتفاق النووي مع إيران لتعزيز دوره في الداخل. ومن المفارقات أن هذا هو السبب في أنه لا يريد أن يتفتت لبنان.

إذا كان هذا هو التفكير بين الدول العربية الرائدة، فعليها أن تكون واقعية. يكاد يكون من المؤكد أن نظام الأسد سيهدف إلى الحصول على أي ميزة يمكنه تأمينها في لبنان، من دون التنازل عن الكثير بالنسبة إلى علاقاته مع إيران. يفضل السوريون وضع أنفسهم في منتصف الطريق بين الدول العربية وروسيا وإيران للعب مع كل الأطراف ضد بعضها البعض لمصلحتهم الخاصة. في الأشهر المقبلة، سينضج الوضع في لبنان أكثر حيث تبدأ رئاسة عون بالانحسار وسيصبح لدى الجميع إحساس أفضل إلى أين تتجه المفاوضات بشأن الاتفاق النووي. مع الانتخابات المقررة في سوريا وإيران ولبنان في العامين الجاري والمقبل، تستعد المنطقة لما يُمكن أن يكون فترة تحوّليّة.

  • مايكل يونغ هو رئيس تحرير “ديوان”، مُدوّنة برنامج كارنيغي الشرق الأوسط، بيروت، وكاتب رأي في صحيفة “ذا ناشيونال” الإماراتية. يُمكن متابعته عبر تويتر على:  @BeirutCalling
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى