صلاحية تشكيل الحكومة في النظام السياسي اللبناني

السفير الدكتور جان معكرون*

بعد أن تزايدَ الجَدَلُ القانوني والنقاشُ السياسي حول صلاحية تشكيل الحكومة في لبنان، رأينا من المُناسب أن نُعالجَ بشكلٍ موضوعي المادة 64 من الدستور اللبناني وهي التالية:

“المادة 64 – فقرة 2، يُجري (رئيس مجلس الوزراء) الإستشارات النيابية لتشكيلِ الحكومة ويُوَقِّع مع رئيس الجمهورية مرسوم تشكيلها…”.

ما هي الطريقة العلمية لتفسير هذه الفقرة؟

عندما يكون النصّ القانوني مشكوكاً فيه، أو مُلتَبِساً، أو يصعب فهمه، فلا بدّ من الاستعانة بما تضمّنته مدارس التفسير العلمي من وسائل تساعد على إدراك المعنى المقصود في هذا النص. ونذكر منها مدرسة الالتزام بالنص أو الشرح على المتون، ومدرسة النظرية التاريخية أو الاجتماعية، ثمّ مدرسة البحث العلمي الحرّ.

إعتمدت مدرسةُ الالتزام بالنصّ في حالِ غُموضِهِ أسلوبَ الكشفِ عن نيّة المُشرِّع عند وضع النصّ القانوني بالرجوع إلى الأعمال التحضيرية ومُناقشات النواب والأسباب المُوجِبة.

أما النظرية التاريخية أو الاجتماعية فإنها تُفسّر النص حسب الظروف الاجتماعية والاقتصادية وقت تفسير النص وليس ساعة إقرارِهِ.

في حين تستند مدرسة البحث العلمي الحرّ على تفسير النص بالرجوع الحصري إلى ألفاظه والتقيّد بها.

حيث أنه من الصعب التركيز على المدرسة الأولى لأنه من المستحيل الاطلاع على محاضر البرلمانيين اللبنانيين الذين اجتمعوا في الطائف في العام 1989 لتحليل مناقشاتهم ونواياهم، ولأنه من الواضح لدينا أنّ هذه المحاضر غير متوافرة وما زال الرئيس السابق لمجلس النواب اللبناني، حيسن الحسيني، مُحتَفِظاً بها وفقاً لأقوال نائب الرئيس السابق لمجلس النواب اميشال معلولي.

كما نجدُ من غير المُلائم اعتماد النظرية التاريخية لأنها أغفلت تفسير النص زمن إقراره.

لذلك، فضّلنا مدرسة البحث العلمي الحرّ التي تُشدِّد على نصّ القانون ومعاني ألفاظِهِ بعيداً من الاجتهاد أو التلاعب في المعاني.

إنّ الفقيه الفرنسي “هنري كابيتان” (Henri Capitant) من أنصار التفسير الحرفي للنصوص القانونية والاكتفاء بمضمون ألفاظها، كما أكّد أنّ المفهوم الإنكليزي في تفسير النصوص يدعم هذا التفسير الحرفي:

بالفرنسية:

( C’est en effet, un principe unanimement reconnu par eux (les juristes Anglais) que la loi, une fois votée, se suffit à elle-même ».

« C’est en elle-même (la loi) et en elle seule qu’il faut chercher l’esprit et la raison d’être de ses prescriptions, non dans les déclarations divergentes des hommes qui ont collaboré à sa confection).

(Capitant. H, L’interprétation des lois d’après les travaux préparatoires, Dalloz, 1935, chron. P. 77, 79).

وبالعربية:

“إنه بالفعل مبدأ أقرّوه بالإجماع (الفقهاء الإنكليز) أن القانون، بمجرّد التصويت عليه، يكون كافياً في حدّ ذاته”.

“إنه في حد ذاته (القانون) وفيه وحده يجب البحث عن روح وسبب كونه من وصفاته، وليس في التصريحات المتباينة للرجال الذين تعاونوا على صنعه”.

(هنري كابيتان، تفسير القوانين بعد الأعمال التحضيرية، دالوز، 1935 ، كرون. ص 77، 79).

وبالتالي، فلا يجوز التمييز أو التفضيل أو افتراض استثناءات في حال سكوت النصّ أو لم يتضمّنها:

بالفرنسية:

(“Il n’est pas permis de distinguer lorsque la loi ne distingue pas; les exceptions qui ne sont pas dans la loi ne doivent pas être supplées ».

Jèze. G, Notes de jurisprudence, R.D.P., 1921, P. 544).

بالعربية:

(“لا يجوز التمييز عندما لا يُفرّق القانون؛ لا ينبغي اختلاق الاستثناءات غير الواردة في القانون”.

غاستون جاز، Notes de jurisprudence، R.D.P.،1921، ص 544).

واستزادةً في التعليل حول وجوب التقيّد بالتفسير الحرفي للنصوص القانونية، نورد في ما يلي ما كتبه العلاّمة عبد الوهاب خلاف:

“يُقال في علم الأصول أنّ الحكم يدور مع سببه لا مع حكمته، وجوداً وعدماً، وعلى هذا يكون المبدأ الصحيح أنّ القاعدة القانونية تُطبّق بمجرّد سببها أي النصّ، بصرف النظر عن حكمتها، لأنّ السبب يستغرق الحكمة، فيتعيّن الوقوف عنده ويمتنع البحث عمّا وراءه من البواعث والغايات”.

(علم أصول الفقه، ص. 61).

ولا نُغالي إذا استندنا إلى مقالة جورج سيوفي عن تفسير القوانين والتي تُعزّز مدرسة البحث العلمي الحرّ:

“فالابتعاد عن النصّ الأكيد بغية التمسّك بروح القانون، الأمر الذي قد يكون مشكوكاً فيه ليس إلّا تفضيل ما قد يكون على ما هو كائن حقيقةً”.

(جورج سيوفي، تفسير القوانين، مجلّة الحق، السنة الثانية، ص. 5)

بناءً على ما تقدّم، وإذا أردنا تحليل المادة 64 من الدستور اللبناني، نسوق الملاحظات الآتية:

عندما تنصّ المادة 64 على أنّ رئيس مجلس الوزراء “يُجري الاستشارات النيابية لتشكيل الحكومة ويوقّع مع رئيس الجمهورية مرسوم تشكيلها”. فالواضح لدينا أنّ هذا النص لا يشوبه أي غموض أو إشكالات، فرئيس مجلس الوزراء يُجري بعد تكليفه من رئيس الجمهورية (المادة 53 فقرة 2) استشارات نيابيّة لتشكيل الحكومة. ولا شكّ أنّ هذه الاستشارات النيابية مع النواب غير مُلزِمة لرئيس مجلس الوزراء وإلّا لكان الدستور نصّ عليها صراحةً. والإستشارة تعني قانوناً وعُرفاً أخذ الرأي والاستئناس به وهو غير مُقيِّد لرئيس الحكومة. وقد تشمل استمزاج رأي النواب حول الشخص الصالح لتولّي حقيبة وزارية أو الاستماع إلى آرائهم بشأن خطّة اقتصادية أو سبل حلّ مشكلة معيّنة…

ثمّ أضافت المادة 64 أنّ رئيس مجلس الوزراء “يوقّع مع رئيس الجمهورية مرسوم تشكيلها…”، وهكذا يتجلّى لنا أنّ هذه المادة وردت خاليةً من أي إشارة إلى منح رئيس الجمهورية صلاحية اختيار الوزراء وإلّا لكانت نصّت على أن يُشارك رئيس الجمهورية مع رئيس الحكومة في اختيار الوزراء. حتى أنها لم تنصّ على إلزام رئيس مجلس الوزراء باستشارة رئيس الجمهورية حول أسماء الوزراء.

إضافةً إلى ما تقدّم أعلاه، تجب الإشارة إلى أنّ الدستور قد نصّ على أنّ “لبنان جمهورية ديمقراطية برلمانية…”.

ولقد عرّف الفقيه الدستوري والنائب أنور الخطيب النظام البرلماني بالاستناد إلى المعطيات التالية:

تعاون السلطات – لامسؤولية رئيس الجمهورية – مسؤولية الوزراء السياسية.

وهكذا، يتجلّى لنا أنّ الحكومة لا تحكم ما لم تكن حائزة على ثقة مجلس النواب لأنها مسؤولة سياسياً أمامه وهو يُراقب عملها خصوصاً لجهة تطبيقها القوانين.

وحيث أنّ الوزراء يتولّون إدارة مصالح الدولة ويُناط بهم تطبيق القوانين (المادة 66).

وحيث أنّ رئيس مجلس الوزراء مسؤول عن السياسة العامة التي يضعها مجلس الوزراء (مقدّمة المادة 64)،

وحيث أنّ رئيس مجلس الوزراء هو رئيس الحكومة يمثّلها ويتكلم باسمها ويُعتبَر مسؤولاً عن تنفيذ السياسة العامة التي يضعها مجلس الوزراء (مقدّمة المادة 64).

وحيث أنّ مسؤولية رئيس الحكومة عن تنفيذ السياسة العامة تكون أمام البرلمان والذي بإمكانه نزع الثقة من حكومته (المادة 69).

وحيث أنّ النظام اللبناني برلماني وليس رئاسياً، فهذا يفترض أن تكون مسؤولية الوزراء أمام البرلمان وليس أمام رئيس الدولة.

لذلك، فمن البديهي والمُسلَّم به أن يُسمّي رئيس مجلس الوزراء أعضاء حكومته ومن غير المألوف أن يكون مسؤولاً أمام البرلمان عن وزراء لم تتم ّتسميتهم من قبله.

ولا يُمكن الركون إلى الفقرة 4 من المادة 53 من الدستور التي نصّت على أن “يُصدر (رئيس الجمهورية) بالاتفاق مع رئيس مجلس الوزراء مرسوم تشكيل الحكومة…” للتذرّع بدور رئيس الجمهورية في المشاركة في تسمية الوزراء. لأنّ عبارة “بالاتفاق مع رئيس مجلس الوزراء” لا تعني بالضرورة مشاركة رئيس الجمهورية في اختيار أسماء الوزراء. ولأنّ مفهوم إصدار المرسوم له الطابع الإعلاني وليس الإنشائي أي أنه يعلن الحق ولا يتضمّن إنشاء هذا الحق. والإصدار هو عمل يُثبت وجود المرسوم وطلب التقيّد به بعد توقيعه.

وإذا دقّقنا في مضمون الفقرة 3 من المادة 53 ذاتها والتي نصّت على أن “يُصدر (رئيس الجمهورية) مرسوم تسمية رئيس مجلس الوزراء منفرداً” نستنتج أنّ ما ورد في الفقرة 4 جاء خلافاً لكلمة “منفرداً” إذ نصّت على أن يُصدر رئيس الجمهورية بالاتفاق مع رئيس مجلس الوزراء مرسوم تشكيل الحكومة، ما يعني صدور مرسوم تشكيل الحكومة بتوقيع الطرفَين وليس بمشاركة هذين الطرفين في تسمية الوزراء إلّا إذا ارتضى رئيس الحكومة مشاركة رئيس الجمهورية في التسمية.

واستطراداً نشير إلى أنّ الفقرة 12 من المادة 53 والتي نصّت على أن “يدعو (رئيس الجمهورية) مجلس الوزراء استثنائياً كلّما رأى ذلك ضرورياً بالاتفاق مع رئيس الحكومة”، جاءت لتؤكّد أنّ عبارة “بالاتفاق مع” لا تشترط موافقة رئيس الحكومة المُسبَقة لكي تتمّ هذه الدعوة بل تعني إعلامه بنيّة رئيس الجمهورية عقد جلسة لمجلس الوزراء.

وهكذا، يتحصّل لنا أنّ عبارة “بالاتفاق مع” لا تمنح في الفقرتَين 4 و12 المذكورتَين أعلاه حق الفيتو لكلٍّ من الرئيسين وإلّا تعذّر إصدار مرسوم تشكيل الحكومة وبالتالي تعذّر دعوة مجلس الوزراء إلى عقد جلسة استثنائية.

ونشير أخيراً إلى أننا نعيش في لبنان في ظلِّ نظامٍ برلماني معروف بالبرلمانيّة الأحاديّة (Le parlementarisme moniste)، وهذا يعني قانوناً أنّ الحكومة تحتاج فقط إلى ثقة البرلمان وليس إلى ثقة رئيس الدولة.

ففي النظام الرئاسي، يعود لرئيس الدولة حريّة اختيار رئيس الحكومة والوزراء أما في النظام البرلماني فإنّ اختيار رئيس الحكومة والوزراء ينبثق من اتفاق الكتل النيابية، وبالتالي ليس لرئيس الدولة سوى توقيع مرسومَي تعيين رئيس الحكومة والوزراء وفقاً لما ذكره الفقيه الدستوري كلود لوكليرك في “دستور القانون والمؤسسات السياسية” (Leclerq. Claude, Droit constitutionnel et institutions politiques, 5ème édition, p. 586)

  • السفير الدكتور جان معكرون هو باحث قانوني وديبلوماسي لبناني متقاعد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى