عايز مستغنٍ

راشد فايد*

يُريدُ اللبناني أن يُصدِّق أن ما يسمى مبادرة الرئيس نبيه بري ستفتح درب خلاص الوطن من بئر الأزمات، برغم مؤشرات كثيرة تُعانِدُ هذا التفاؤل، أهمّها أن السياسيين لم يهجروا مُماحكاتهم اللفظية، وما تواجهوا في عمق الأمور، مُفَضّلين الزجل عن بعد، واستنفار الديموغرافيا، بدل استرضاء التاريخ بإنجازٍ يفرض سمعتهم على المستقبل. كيف لا وهم استقالوا من مسؤولياتهم السياسية، لا النيابية، منذ وقفوا مُتفرّجين على سلسلة المآسي الإجتماعية التي كشفتها إنتفاضة تشرين الأول (أكتوبر) 2019، وزادوا في عزلتهم عن شؤون الناس، بالتعامل معها كشأنٍ يخصّ شعباً آخر.

لم يبقَ دولة في العالم، أو مؤسسة مالية أو نقدية، ولا مقاول عالمي، إلّا وأبدوا إرادات حاسمة وقدموا مبادرات لإعادة بناء مرفأ بيروت ومحيطه، وحلّ أزمة الكهرباء، وتحديث شبكات النقل العام، وغيرها مما يُعيدُ للبلد دورته الإقتصادية، ويُسقط الفساد المُهيمن عليه، ويقفل مسارب نهب المال العام. مع ذلك يُعطي الموقف الرسمي اللبناني من هذه المبادرات، إنطباعاً يُظهر عروض الدعم الدولية حاجة لعارضيها وليس للبنان، كأن البلد “عايز مستغني”.

8 أشهر على جريمة المرفأ، ولم يبدر من أيِّ مسؤول ما يُنبئ بأنه عرف أن ما حدث ليس في بلد آخر، وأن كل لبناني، أيّاً كان موقعه الجغرافي، وطبيعة عمله، أصابه سهم من هذه الكارثة، التي أسهمت، في ما أسهمت، بتفاقم تهاوي العملة الوطنية، وتضخم التضخم النقدي، وتعميق إفقار اللبنانيين. ومن يتابع الوقائع اليومية للتراشق السياسي، من فوق إلى تحت، للاحظ مدى تدنّي مستوى النقاش إلى حد الإنطباع بطغيان “الوَلدَنة” والكيدية على الحياة العامة. فها هو رئيس الجمهورية، ميشال عون، يربط موعد تشكيل الحكومة  بعودة الرئيس المكلف، سعد الحريري، ليُوحي أن سفر الأخير هو العائق أمام “إنجاز” معجزة ولادة الحكومة، كأن لا نكد سياسياً إلى حد السعي إلى تهشيم الدستور، ولا تعديات على أصول التعامل السياسي، كما لا هواتف للتواصل، ولا وجود لطائرات تنقل الناس كما تنقل الأموال المُهَرَّبة، والفاسدين، الذين يُحدّثنا عنهم الرئيس، وعن التدقيق الجنائي، كلما اشتدت أصوات المُنتَفضين منذ 17 تشرين الأول 2019.

قد لا يكون مقبولاً أن يُسمّي رئيس الجمهورية بعض الفاسدين، حتى لا يبقون سرا كـ”الغول والعنقاء والخل الوفي”، مما قد يُعَدُّ تخطّياً للقضاء وللدستور، لكنه يستطيع أن “يستعير” كتلته النيابية التي طوّبها للصهر كي تتقدم بدعوى قضائية ضد “كم اسم” فيشغل بال أصحابها ونطمئن، بدل أن نظل مُستَنفَرين نترصّدهم فيما ينعمون بالنوم على ما نهبوا. أليسَ عجيباً أن أقاصيص النهب والفساد إنطلقت من يوم كان “الجنرال” يريد أن يحاسب سوريا لدى الإدارة الأميركية، وهو يستمر إلى اليوم، وأحياناً بصوت الصهر، لكن اللبنانيين لا يرون من ذلك إلّا الضجيج ولا يصلهم طحن، كأنما الغاية من إثارتها تكتيك سياسي على مقاس ضيعة، لا يتلمّس منطق بناء الدولة، وقواعد علم السياسة، بل نكايات الزواريب.

يفتقد لبنان رجالات دولة، لا رجال سياسة: الأوّلون نُدرة يصنعون تاريخ الأيام الآتية، والآخرون كُثُر يحصون الأيام…والمكاسب الذاتية.

  • راشد فايد هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @RachedFayed
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” توازياً مع صدوره في صحيفة “النهار” اللبنانية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى