السياسة الأميركية تجاه لبنان بين الثَوابِت والمُتَغَيِّرات

إتجهت الولايات المتحدة الأميركية خلال فترة دونالد ترامب إلى اتباع سياسة جديدة في التعامل مع لبنان، تتراوح بين تقديم الدعم تارة، خصوصاً إلى الجيش اللبناني، والتهديد بفرض عقوبات تارة أخرى. ولكن كيف ستكون في عهد جو بايدن؟

 

السفيرة دوروثي شيا تزور الرئيس ميشال عون: تحاول تثبيت الحضور الأميركي في لبنان.

السفير يوسف صدقة*

يمرّ لبنان بأزمةٍ كيانية، لم يسبق أن مرّ بها من قبل. فقد انهار الوضع الإقتصادي والمالي، وسقطت المقوّمات التي ارتكز عليها البلد في الماضي القريب، من نظامٍ مصرفي واعد إلى انهيار القطاع الصحي والاستشفائي. وأصبح أكثر من 50% من اللبنانيين في مستوى خط الفقر، وفق أرقام الأمم المتحدة. وممّا زاد الأزمة قتامةً، عدم تشكيل حكومة قادرة على مواجهة تداعيات الأزمة. وقد طلب بعض القادة من المجتمع الدولي مساعدة لبنان للعبور من الإنهيار الاقتصادي والسياسي. ويبقى التطلع إلى مساعدة واشنطن، من الآمال التي يُعلّق عليها اللبنانيون، وعلى إدارة جو بايدن.

ويبدو من متابعة سياسة الإدارة الأميركية الجديدة، أنّ الاهتمام في الداخل الأميركي هو الأولوية الرئيسة لبايدن ومنها مكافحة الكورونا، وإعادة إحياء نمو الاقتصاد الأميركي، بعد التداعيات الاقتصادية الكبيرة لأزمة كوفيد-19 على المجتمع الأميركي.

هذا، وقد أفادني عضو في مركز أبحاث أميركي أنّ لبنان، وحتى الشرق الأوسط لا يحظيان بالإهتمام المطلوب من قبل الرئيس الأميركي. فمكافحة الكوفيد-19، هي من الأولوية الرئيسة، وهو يعمل على متابعة تلقيح الأميركيين بشكلٍ يومي، للوصول إلى معدل 200 مليون في مئة يوم.

الموقف الأميركي التقليدي من لبنان

تعتمد الولايات المتحدة، سياسة واضحة تجاه لبنان وتكرر الثوابت، ومنها تعزيز استقلال لبنان، وسيادته الوطنية على أراضيه، ودعم الوحدة الوطنية والاستقرار. كما تؤيد تنفيذ القرارات الدولية ومنها القرارات 1559-1680 (الحدود مع سوريا) 1701. وهي تطالب بنشر الجيش اللبناني على كامل الأراضي اللبنانية، ونزع سلاح الميليشيات المسلحة، خصوصاً “حزب الله”. كما تعتبر واشنطن أنّ استقرار وسلامة لبنان، يؤمّن الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط.

وقد أعلنت وزارة الخارجية الأميركية أنّ الولايات المتحدة قدّمت 4 مليارات دولار، كمساعدة للبنان، منذ العام 2010، ومنها ملياري دولار للجيش اللبناني.

ورُغم التأكيدات الأميركية على دعم سيادة واستقلال لبنان، إلاّ أنّ بلد الأرز لا يحظى باهتمام ملحوظ، في الاستراتيجية الأميركية تجاه الشرق الأوسط.

الدليل الإرشادي للأمن القومي الأميركي

عرض مجلس الأمن القومي الأميركي الدليل الاستشاري لأمن الولايات المتحدة الوطني، وقد تضمّن الأولويات على الشكل التالي:

  • منطقة المحيط الهادئ والهندي.
  • القارة الأوروبية وروسيا.
  • القارة الأميركية.
  • الصين وجنوب شرقي آسيا.
  • دول جزر الباسيفيك.

وقد تضمّن الدليل الإرشادي، فقرة حول الشرق الأوسط لا تتعدى (11 سطراً): الإلتزام بأمن إسرائيل؛ إحتواء النفوذ الإيراني؛ محاربة تنظيمَي “القاعدة” و”داعش”؛ بذل الجهود الديبلوماسية لإنهاء النزاعات في المنطقة؛ تخفيف التوتر الإقليمي؛ تقديم المساعدات الإنسانية للبلدان المتضررة من النزاعات.

وعليه، يمكن الاستنتاج بأنّ أي اهتمام بلبنان هو مرتبط بأمن إسرائيل والحدود الجنوبية.

ويعود عدم الاهتمام الأميركي بالشرق الأوسط، لعدم حاجة الولايات المتحدة لنفط الخليج بعد اكتشاف النفط الصخري، بكميات هائلة في أميركا، وإلى رغبة الإدارة الأميركية في الانسحاب من النزاعات المعقدة في المنطقة.

مقاربة الرئيس بايدن والديموقراطيين لمنطقة الشرق الأوسط

يُركز الرئيس الأميركي جو بايدن على ترميم صورة أميركا على الصعيد الدولي، بعدما وقعت أميركا خلال عهد الرئيس ترامب في الحكم الفردي، وإطلاق المواقف العنصرية، وانتشار نظرية المؤامرة، حيث راح ترامب يُهدّد خصومه، ويتهم الأجهزة الأميركية بالعمل ضده. وقد غضّ النظر عن تنامي الميليشيات اليمينية. زاد هذا التوجه في تفكّك المجتمع الأميركي، على الصعيدين الديني والثقافي. ويبدو من متابعة السياسة الخارجية الأميركية، أنّ الإدارة الأميركية لم تبلور حتى الساعة، استراتيجية واضحة تجاه الشرق الأوسط. وقد كتب مستشار الأمن القومي الأميركي جايك سوليفان مقالاً قبل تعيينه رسمياً، أكّد فيه على ضرورة تقليص الوجود الأميركي في الشرق الأوسط، مع الحفاظ على قوة الردع، واستعمال الديبلوماسية لحلّ النزاعات.

تجدر الإشارة إلى أنّ الثوابت في السياسة الأميركية، قد استمرّت منذ فترة الرئيس ترامب، حيث أعلنت الإدارة الأميركية، أنّ إيران تمثل تهديداً للمصالح الأميركية وحلفائها للأمن الإقليمي. وإنّ العقوبات أدّت إلى تقليص إنتاجها لحوالي مليون برميل نفط يومياً. وقد أثّر في مداخيل إيران، والتي تدعم حلفاءها في العراق وسوريا ولبنان واليمن، وإنه يتوجّب على واشنطن الإبقاء على قوة ردع صاروخية في الخليج، لمواجهة خطر صواريخ إيران الباليستية.

ورُغم التهديدات الأميركية، فإنّ المفاوضات غير الرسمية بين واشنطن وطهران، ما زالت قائمة في عُمان، تمهيداً للمفاوضات الرسمية حول اتفاق نووي جديد، والتي من المتوقع أن تشمل، إضافةً إلى الملف النووي، الصواريخ الإيرانية الباليستية، ودور إيران في الشرق الأوسط.

لبنان وإدارة بايدن

ذكرنا آنفاً، أنّ لبنان لا يشكل أولوية في السياسة الخارجية الأميركية، إلّا أنّ موقعه الجيو-استراتيجي على حدود إسرائيل، وارتباط بعض الأطراف اللبنانية بإيران وسوريا، يجعله مهماً، وخصوصاً بالنسبة إلى أمن إسرائيل، على حدودها الشمالية. فالسياسة الأميركية تجاه لبنان لم تتبدل منذ عهد ترامب حتى اليوم. فقد أبلغت الإدارة الأميركية السلطة في بيروت بأنها لن تساعد لبنان إقتصادياً ومالياً، ما لم تعمد الحكومة اللبنانية إلى إجراء إصلاحات اقتصادية بنيوية، وما لم يقم البرلمان اللبناني بسنّ تشريعات مالية مناسبة. كما تدعو الإدارة الأميركية السلطة اللبنانية إلى تشكيل حكومة بالسرعة الممكنة لإنجاز الإصلاحات المالية والاقتصادية للخروج من الأزمة الخانقة التي يعاني منها لبنان.

على الصعيد الحكومي، ما يهمّ واشنطن هو عدم سيطرة “حزب الله” على الدولة، وعدم مشاركة وزراء من “حزب الله” في الحكومة. إلاّ أنّ الإدارة الأميركية لم تغيّر التزامها في دعم الجيش اللبناني. هذا وقد أفاد مصدر ديبلوماسي بأنّ البنتاغون سيقدّم مساعدات عاجلة للجيش اللبناني من مخزون الجيش الأميركي في ألمانيا، لمواجهة الأزمة المعيشية التي يمرّ بها في هذه الظروف الصعبة.

آفاق الدعم الأميركي للبنان

تستبعد المصادر الدبلوماسية، التدخل الأميركي المباشر في لبنان، وقد أبلغ الرئيس بايدن البابا فرنسيس بأنّ الولايات المتحدة منشغلة خلال الستة أشهر المقبلة بمعالجة الوضع الداخلي الأميركي، على الصعيدين الصحي والاقتصادي وإعادة ترميم العلاقات مع الحلفاء الأوروبيين وفي الحلف الأطلسي. وقد تجلّى ذلك في زيارة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن لبعض الدول الأوروبية، وخصوصاً فرنسا، لإعادة التواصل وبثّ الحرارة في العلاقات، بعد أن شابتها البرودة في عهد الرئيس ترامب. ويبدو أنّ واشنطن تتفق مع باريس على دعم مبادرتها في لبنان في ظلّ عدم رغبة أميركية في التدخل المباشر في لبنان. ورُغم جهود اللوبي اللبناني في واشنطن – والذي لا يرقى إلى قوة اللوبي اليهودي واللوبي اليوناني – والذي يتواصل مع إدارة بايدن، إلّا أنّ ذلك لم يحفّز الإدارة الأميركية على التدخل المباشر في لبنان، إلّا في مجال دعم الجيش اللبناني والدعم الإنساني. ومن الطبيعي، أن تبدي الإدارة الأميركية قلقاً حول التطورات التي تحدث في لبنان.

من جهتها، تُحاول السفيرة الأميركية لدى بيروت، دوروثي شيا، والتي تملك شخصية حديدية، تثبيت الحضور الأميركي في لبنان، عبر لقاءاتها وحضورها الإعلامي في إطار الثوابت الأميركية، مُتخطيةً في بعض الأحيان الدور التقليدي للديبلوماسي.

في المحصلة النهائية، فقد تكون لفرنسا فرصة لإعادة إحياء تشكيل الحكومة، لكنّ المصير اللبناني ما زال معلّقاً، على المحادثات الأميركية-الإيرانية حول الملف النووي، فهل يمكن للشعب اللبناني الانتظار حتى إنجاز اتفاق جديد، في ظلّ الانهيار الاقتصادي والاجتماعي الخطير الذي يُصادر مقومات الوطن.

إنّ مصير لبنان كدولة صغيرة يُذكّرنا بالكاتب دايفيد هيرست (David Hirst) عندما استشهد في كتاب “حذار من الدول الصغيرة” (Beware of small states)، بالفيلسوف الروسي “ميكايل باكونين” (Mikhail Bakunin)  في القرن التاسع عشر: “حذارِ من الدول الصغيرة فهي تكون ضحايا الدول العظمى، بل مصدر الخطر لها. فلبنان بلدٌ بحجم مقاطعة ويلز في بريطانيا، وهو مفترق طرق بين الشرق والغرب، قد أصبح ساحة قتال لنزاعات الدول العظمى في المنطقة”.

  • السفير يوسف صدقة هو ديبلوماسي لبناني متقاعد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى