أميركا هي آخر ضابط لسلطة محمد بن سلمان: عليها احتواؤه وليس عزله

على الرغم من التقرير الذي نشرته أخيراً إدارة جو بايدن والذي يتّهم الأمير محمد بن سلمان بأنه وقّع على أمر قتل الصحافي جمال خاشقجي، فإن على الإدارة الأميركية احتواء ولي العهد السعودي وليس العمل على عزله.

دونالد ترامب وجاريد كوشنر: دلّلا الأمير محمد بن سلمان فاعتقد أنه يستطيع فعل ما يريد من دون عقاب.

ف. غريغوري غوز الثالث*

إتّخذ الرئيس الأميركي جو بايدن موقفاً أكثر تشدداً تجاه المملكة العربية السعودية مما فعل سلفه. في حين دلّل الرئيس دونالد ترامب الحاكم الفعلي للبلاد، ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، فقد سمح بايدن بنشرِ تقريرٍ أعدّته المديرية العامة للإستخبارات الأميركية يحتوي على معلوماتٍ دامغة حول تورّط بن سلمان في مقتل الصحافي في “واشنطن بوست” جمال خاشقجي في العام 2018، وعاقب قائمة طويلة من المسؤولين السعوديين الذين يُعتَقَد أنهم مُتوَرِّطون في مؤامرة القتل وفي عمليات القمع والتضييق الأخرى ضد المعارضين، وخفّض المساعدات العسكرية للمملكة. لكن هذا التقويم أو التعديل الصارخ في العلاقات مع الرياض لم يكن كافياً للعديد من مُنتقدي بن سلمان.

إنتقَدَ المدافعون عن حقوق الإنسان والصحافيون وحتى بعض المسؤولين الأميركيين السابقين البارزين بايدن لعدم مُعاقبة بن سلمان مباشرة. تُصاغ مثل هذه الحجج إلى حدٍّ كبير على أساس الحاجة إلى مُعاقبة مُنتهكي حقوق الإنسان (مع غضب الصحافيين بشكل خاص لأن بايدن هادَن وسامح قاتل أحدهم). لكن بعض النقاد أشار إلى أن بايدن لديه القوة اللازمة لإجبار الملك سلمان وبقية العائلة المالكة السعودية على استبدال محمد بن سلمان بقائدٍ جديد. إنتقد نيكولاس كريستوف، كاتب عمود في صحيفة “نيويورك تايمز”، بايدن لعدم توضيحه أن “المملكة ستكون في وضع أفضل مع وليِّ عهدٍ جديد”. وقال بروس ريدل، الزميل الكبير في معهد بروكينغز، وهو مراقب سعودي مُخضرَم قضى عقوداً في مناصب حكومية أميركية تتعامل مع الشرق الأوسط، لصحيفة الغارديان أنه “إذا كان هدف الولايات المتحدة هو إقامة سعودية آمنة ومُعتَدلة ومستقرة داخلياً وليست مصدراً للإضطراب في المنطقة، عندها على السعودية أن لا يكون لديها مكانٌ لمحمد بن سلمان”.

ما يفتقده هؤلاء النقاد هو أن بن سلمان قد أصبح الآن ركيزةً راسخة وثابتة في هيكل صنع القرار السعودي. بدعمٍ من والده، الملك سلمان، عزّز ولي العهد سلطته بقساوة وفعالية وبلا رحمة، تاركاً الولايات المتحدة واحدة من الضوابط القليلة، إن لم تكن الوحيدة، الفعّالة على سلطته. إن محاولة عزل بن سلمان لن تؤدي إلى إطاحته من السلطة، بل ستقضي على قدرة واشنطن على كبح سلوكه في الخارج، وبدرجة أقل، في الداخل. سوف تحتاج الولايات المتحدة إلى تعاون المملكة العربية السعودية في الأمور الأمنية والسياسية المُلِحّة في كلٍّ من اليمن والمنطقة الأوسع، ولهذا، سيتعيّن عليها التعامل مع محمد بن سلمان.

من التوافق إلى الدمج والتوحيد

لعقودٍ، حُكِمَت المملكة العربية السعودية من قبل لجنة الأمر الواقع المؤلفة من الأمراء الذين شغلوا مناصب حكومية مُهمّة ومكانة رفيعة داخل الأسرة الحاكمة. كان يتم اتخاذ القرارات المهمة من خلال كبار الأمراء، الذين كان لدى العديد منهم حق النقض. نتيجةً لذلك، عكست السياسات السعودية، الخارجية والداخلية، مواقف إجماع. كان التغيير نادراً وتدريجاً. فشلت العائلة المالكة في حلّ العديد من المشاكل أو اغتنام العديد من الفرص، لكنها امتنعت أيضاً عن اتخاذ قرارات سيئة حقاً. خدمت هذه المحافظة البنيوية المملكة بشكلٍ جيد، حيث مكّنتها من التخلّص من القومية العربية الناصرية في الخمسينات والستينات الفائتة، والثورة الإيرانية في العام 1979، وغزو الديكتاتور العراقي صدام حسين للكويت في العام 1991، وأخيراً “الربيع العربي” في العام 2011.

عندما شاخ الأمراء الكبار وبدأوا الوفاة، بدا أن أبناءهم بدأوا إعادة تشكيل نظام اللجنة في ما بينهم. فقد خَلَفَ الأبناء الآباء في مناصب مهمة مثل وزير الخارجية ووزير الداخلية وقائد الحرس الوطني. كان الأبناء الآخرون، الذين عملوا نواب وزراء لآبائهم، على وشك أن يرثوا مناصب أخرى. الملك عبد الله، قُرب نهاية حكمه، إبتعد قليلاً من نظام الميراث، وعيّن الأمير سلمان وزيراً للدفاع بدلاً من نجل الوزير المتوفي حديثاً (وولياً للعهد). لكن بعد ذلك في العام 2015، تولّى الملك سلمان العرش وبدأ تفكيك نظام اللجنة.

بدلاً من حشد الإجماع، ركّز الملك سلمان السلطة في يد نجله محمد بن سلمان، مُهَمِّشاً الأمراء المُتبَقّين من جيله وأولئك في الجيل التالي الذين يُمكن أن ينافسوا إبنه المُفضَّل. بدأ بتعيين بن سلمان، الذي كان نائبه في وزارة الدفاع، وزيراً. عزل الملك أخيه غير الشقيق، الأمير مقرن، من منصب ولي العهد، ثم في العام 2017، إستبدل ولي العهد الأمير محمد بن نايف بالأمير محمد بن سلمان. كما عيّن الملك نجله محمد أيضاً رئيساً للمجلس المسؤول عن وضع السياسة الاقتصادية والاجتماعية والمجلس الذي يُشرف على أرامكو السعودية، شركة النفط الحكومية والمصدر الرئيس للثروة السعودية. وبذلك عزّز بن سلمان سيطرته على أهم المؤسسات الاقتصادية القسرية للدولة. إنه الآن من دون نظير محلياً، مُقيَّداً فقط بملكٍ مُسنٍّ وضعيف بشكل متزايد.

أدّت هذه التغييرات العميقة في هيكل السلطة داخل الأسرة الحاكمة السعودية إلى إزالة القيود التي جعلت صنع السياسة السعودية في السابق حَذِراً، ويُمكن التنبّؤ به، وبعيداً من المخاطرة. محمد بن سلمان هو أي شخص ولكن ليس كذلك. لقد سمح للمرأة بقيادة السيارة، وقيّد سلطة هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفرض ضريبة واسعة على المُستهلكين السعوديين. وكان السعوديون ذوو العقلية الإصلاحية يحثّون على هذه السياسات منذ عقود، لكن المحافظة الفطرية في عملية صنع القرار السعودية أحبطت التغيير. فقط محمد بن سلمان كانت لديه الإرادة والقوة لإجراء هذه الإصلاحات.

لكن الجمع بين القوّة والإرادة الزئبقية لولي العهد أدّى أيضاً إلى قرارات مُتهَوّرة وذات نتائج عكسية. في العام 2017، إعتقل محمد بن سلمان أكثر من 300 من كبار مسؤولي الأعمال والأمراء في البلاد، وحوّل فندق ريتز كارلتون في الرياض إلى أكثر السجون فخامة في العالم وزعزع ثقة المستثمرين الأجانب والمحليين على حدٍ سواء. في ذلك العام أيضاً، إختطف بن سلمان رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري، الذي كان يزور الرياض، وأجبره على الاستقالة من منصبه. كان بن سلمان يأمل في حلّ أزمة سياسية في بيروت من شأنها أن تُلحق الضرر ب”حزب الله”، حليف إيران، لكن انتهى به الأمر إلى تعزيز الموقف السياسي للجماعة الشيعية شبه العسكرية بدلاً من ذلك. وفي العام نفسه، إنضم ولي العهد الشاب إلى البحرين ومصر والإمارات العربية المتحدة في مقاطعة قطر وتهديدها –موطن أكبر قاعدة جوية أميركية في الشرق الأوسط– بسبب دعمها للجماعات الإسلامية ورعايتها لقناة الجزيرة وعلاقاتها مع إيران. وانتهت تلك المقاطعة في كانون الأول (ديسمبر) 2020، بعد انقسام حلفاء أميركا الخليجيين حول الأمر. كما واصل بن سلمان حرباً غير مُجدية ومُدمِّرة في اليمن، واتخذ إجراءات صارمة ضد المعارضين، وأبرزها الأمر بقتل خاشقجي في العام 2018.

على الرغم من هذه الأهداف الخاصة، لا يوجد ما يُشير إلى أن أعضاءً آخرين من الأسرة الحاكمة مُتحالفون ضد محمد بن سلمان. يُقال إن الكثيرين من الأمراء الأكبر سناً غير راضين عن ابن عمهم الأصغرالعنيف والقاسي. لكن ليس من الواضح ما إذا كانت لديهم الوسائل أو الجرأة لمواجهةٍ مباشرة مع الرجل الذي يسيطر على كل الأسلحة والمال في المملكة. لقد أدّت الصراعات السابقة على السلطة داخل الأسرة الحاكمة إلى انشقاقٍ مفتوح –تشكيلات عسكرية يقودها أمراء متنافسون يواجهون بعضهم البعض، أمراء بارزون ينسحبون من واجباتهم الحكومية الرسمية مع الاحتفاظ بألقابهم الرسمية ونفوذهم. لا يُمكن رؤية مثل هذه المكائد الآن. علاوة على ذلك، عمل بن سلمان على تنمية ولاء الأفراد الأصغر سناً في العائلة، حيث قام بترقية الأمراء من الجيل الذي يليه إلى مناصب في إدارة المحافظات ووكالات الدولة. إذا تحرّك أبناء عمومة محمد بن سلمان الأكبر سناً ضده، فليس هناك ما يضمن أن بقية أفراد الأسرة ستسير معهم.

آخر ضابط ومراقب للسلطة

بعد أن عزز سيطرته شبه الكاملة على الدولة السعودية وأبقى المعارضة العائلية في مأزق، يواجه محمد بن سلمان ضابطاً عملياً واحداً فقط لحريته في العمل: الولايات المتحدة. تعتمد خطط ولي العهد الطموحة للتغيير الاقتصادي على الإستثمار الدولي، حيث يلعب المستثمرون الأميركيون دوراً رائداً. لا يُمكن أن يكون لاعباً في النظام المالي العالمي إذا وقفت واشنطن ضده. لا تزال أميركا أهم شريكٍ دولي للمملكة العربية السعودية وضمانة أمنية نهائية لها. لا يوجد حاكم سعودي يُريد تعريض تلك العلاقة للخطر.

فضّلت إدارة ترامب ولي العهد وحَمَته، باديةً أنها تتدخّل في سياسة الأسرة الحاكمة السعودية. كان لبن سلمان علاقة مباشرة مع صهر الرئيس، جاريد كوشنر، ما سمح له بتجاوز القنوات الديبلوماسية العادية والوصول إلى البيت الأبيض. من جهتها مَنَحت الإدارة بن سلمان لقاءً علنياً للغاية مع الرئيس ترامب قبل الأمير محمد بن نايف، الذي كان ولي العهد السعودي في ذلك الوقت. ثم اتّخذ ترامب قراراً غير مُعتاد بجعل الرياض وجهة أول رحلة خارجية له في منصبه. أصبح بن سلمان ولياً للعهد بعد بضعة أشهر فقط من تلك الزيارة، ولم يكن البيت الأبيض مُتحفّظاً في الإشارة إلى موافقته على التغيير. مثل هذه المُعاملة المميزة من واشنطن ضلّلت محمد بن سلمان ودفعته إلى الإعتقاد بأنه يستطيع التصرّف من دون عقاب على المسرح العالمي، ولا شكّ أنها ساهمت في بعض أخطائه الفادحة.

من المفهوم أن إدارة بايدن جاءت إلى السلطة بنيّةِ إعادة ضبط العلاقات مع المملكة العربية السعودية وإقامة بعض الحواجز لتقييد سلوك محمد بن سلمان. لقد حدّد اتصال بايدن الأول مع الرياض نغمة إعادة التعيين والتعديل هذه: تحدّث الرئيس الأميركي مع الملك سلمان، وليس مع ولي العهد، الذي تلقّى، بصفته وزير الدفاع السعودي، مكالمة من وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن. لم تكن نائبة الرئيس كامالا هاريس، البروتوكول المُكافئ لمحمد بن سلمان، في تلك المكالمة. كما أنهى بايدن التعاون مع الحملة العسكرية السعودية في اليمن، وعلّق شحنات الأسلحة إلى البلاد، وحظّر عدداً من السعوديين الذين يُعتَقد أنهم هدّدوا المعارضين السعوديين من السفر إلى الولايات المتحدة.

لكن إدارة بايدن لم تصل إلى حد معاقبة بن سلمان شخصياً لدوره في مقتل خاشقجي. لقد قررت بشكل صحيح أنه إذا كان لها أي تأثير في صنع القرار السعودي، فلن تتمكن من جعل ولي العهد شخصاً غير مرغوب فيه – ناهيك عن إجبار العائلة المالكة السعودية على استبداله.

إن أيّ جهد لإخراجِ محمد بن سلمان من موقعه المركزي في النظام السعودي الحالي سيكون بمثابة شيء قريب جداً من تغيير النظام، والذي لم يكن جيداً في السابق بالنسبة إلى الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. آخر شيء يجب أن تفعله إدارة بايدن هو التورّط في هذا النوع من العمل. إن الفكرة بأن لديها القدرة على إزاحة بن سلمان ليست مُجرَّد أمنيات بل مجرد تفكير خطير، وهو تكرارٌ للغطرسة التي أدّت بالولايات المتحدة إلى الضلال في العراق وليبيا وأماكن أخرى.

إختارت إدارة بايدن المسار الأكثر حكمة، مهما كان مَقيتاً. ويتمثّل التحدّي الآن في إيصال ما يريد وما لن يتسامح فيه مع محمد بن سلمان بوضوح. كقناة اتصال لولي العهد، يجب على بايدن تعيين سفير للثقافة والأقدمية يمكنه نقل ما تتوقعه الولايات المتحدة من المملكة العربية السعودية: التعاون على إنهاء الحرب في اليمن؛ وضع حدٍّ للاعتداءات والمضايقات ضد المعارضين السعوديين في الخارج؛ المساعدة على تقوية الحكومة العراقية (لمنح بغداد خيارات غير إيران للحصول على دعم دولي)؛ والتشاور الكامل مع واشنطن لتلافي تكرار المغامرات المزعزعة للاستقرار مثل مقاطعة قطر واختطاف رئيس الوزراء اللبناني. وكإغراءٍ، يُمكن للولايات المتحدة أن تعرض مساعدتها على فطام المملكة العربية السعودية من اعتمادها على عائدات النفط، ولكن فقط إذا وافق ولي العهد الشاب على احترام سيادة القانون في الداخل.

قد يُوفّر الضغط لعزل محمد بن سلمان بعض الرضا العاطفي قصير المدى، ولكن بالنسبة إلى إدارةٍ تتطلّع إلى احتواء أزمات الشرق الأوسط وتجنّب صراعات جديدة، فإن التعامل مع المملكة العربية السعودية أمرٌ ضروري. وهذا يعني التعامل مع محمد بن سلمان.

  • ف. غريغوري غوز الثالث هو أستاذ الشؤون الدولية في كلية بوش للإدارة الحكومية والخدمة العامة بجامعة تكساس “إي آند إم”.
  • يصدر هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازياً مع صدوره بالإنكليزية في مجلة “فورِن أفّيرز” الأميركية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى