أميركا: لا يُمكنُ التوصّل إلى سلامٍ شاملٍ من دونِها، ولا يُمكِنُ بلوغ هذا السلامِ من خلالِها!

لا يوجد أي دولة تُذكَر قوّضت قرارات الأمم المتحدة بشأن السلام العربي-الإسرائيلي كما فعلت الولايات المتحدة، على الرُغم من ادّعائها عكس ذلك.

غولدا مائير وهنري كيسنجر: الأخير كان وسيطًا زائفًا كما الذين تبعوه في الإدارات الأميركية.

مايكل يونغ*

نشر الأستاذ في جامعة كولومبيا، رشيد الخالدي، في الأسبوع الفائت مقالًا في صحيفة “نيويورك تايمز” عَرَضَ فيه كيفَ تُخطّطُ الولايات المتحدة لبناء سفارة جديدة في القدس على أرضٍ استولت عليها إسرائيل من الفلسطينيين.

أدانَ الخالدي الخطة الأميركية لتعزيز “مطالبات إسرائيل بالسيطرة الحصرية على المدينة، التي توافق الولايات المتحدة والمجتمع الدولي على أن وضعها الدائم لم يُحَدَّد بعد”. وأضاف أنَّ ذلك مثالٌ إضافيٌّ يُظهِرُ كيف أن “المعارضة الأميركية للمشروع الاستيطاني الإسرائيلي ومصادرة إسرائيل للأراضي الفلسطينية ليست أكثر من مجرّد كلام. طوال عقود، اشتكت واشنطن من السلوك الإسرائيلي فيما ظلّت مُتواطِئة في الاستعمار الذي تمارسه إسرائيل، من خلال تزويدها بمساعدات عسكرية فاقت قيمتها 3 مليارات دولار سنويًا، ويُستخدَم جزءٌ كبيرٌ منها لقمع الفلسطينيين”.

لا شَكَّ في أن هذا الكلام يُثيرُ حفيظة منتقدي الخالدي الموالين لإسرائيل. لكن في الواقع، ما من دول ضاهت الولايات المتحدة في تقويضها لقرار الأمم المتحدة التأسيسي الذي أنهى الحرب العربية-الإسرائيلية التي اندلعت في حزيران/يونيو 1967، والتي احتلّت إسرائيل خلالها الضفة الغربية، والقدس الشرقية، وشبه جزيرة سيناء، ومرتفعات الجولان. إذا تضايق مناصرو إسرائيل من ذلك، فالسبب هو أنَّ لا شيءَ يجرح كما الحقيقة. أعاد قرار مجلس الأمن رقم 242 الذي فرض معادلة “الأرض مقابل السلام”، التأكيد في مقدّمته على “عدم جواز الاستيلاء على الأراضي بالحرب”، داعيًا إلى “انسحاب القوات المسلّحة الإسرائيلية من أراضٍ احتلّتها (بحسب النسخة الإنكليزية من القرار) في النزاع الأخير”. وهذا كان أحد الشروط الذي اعتبره القرار ضروريًا “لإقامة سلامٍ عادلٍ ودائمٍ في الشرق الأوسط”.

منذ العام 1967، تسبّب هذا البند المُتعَلِّق بالانسحاب بانقسامٍ بين إسرائيل والعالم العربي. في النسخة الإنكليزية من القرار، نجحت إسرائيل في إبقاء نطاق الأراضي التي “احتلّتها في النزاع الأخير” غير مُحَدَّد. فلو ورد في الصياغة على نحوٍ محدّد “الأراضي التي احتلّتها في النزاع الأخير”، كان ذلك ليعني الانسحاب من جميع الأراضي التي استولت عليها إسرائيل آنذاك، ولكن أُسقِطت كلمة “the”  من النسخة الإنكليزية  (“ألـ” التعريف من كلمة “أراضٍ”)، ما أتاح تفسير البند بأن إسرائيل ليس عليها الانسحاب من جميع الأراضي التي احتلّتها، بل فقط من أراضٍ غير مُحَدّدة. وقد اقتصرت هذه الفذلكة اللغوية على النسخة الإنكليزية للقرار. وأظهرت إسرائيل بُعدَ نظرٍ حين أدركت أن تفسير الجملة الإنكليزية هو الذي سيطغى، على الرغم من أن النسخ المُترجَمة للقرار باللغات الأخرى ناقضت هذا التفسير.

في حين أن هذا الجدلَ اللغوي مَعروفٌ جيدًا، فإن الأمرَ الذي لا يتذكّره كثرٌ هو أن الولايات المتحدة عزّزت، بين العامَين 1970 و1972، التفسيرَ الإسرائيلي، وكانت النتيجة إفراغ القرار 242 من جُزءٍ كبير من مضمونه. فواشنطن لم تكن متواطئة فحسب في المشروع الاستيطاني الإسرائيلي، بل ذهبت أبعد من ذلك وضربت عرض الحائط بالأساس الديبلوماسي الذي يُنكِرُ شرعية ذلك المشروع. وما زاد الطين بلّة أنها فعلت ذلك بحقِّ قرارٍ أُممي كان لها دور أساسي في إعداده.

لم تكن الخطوات الأميركية في هذا المسار مُتّسقة، فقد طرحت الإدارات المختلفة، وحتى الإدارة نفسها، وجهات نظر متفرّقة بشأن النزاع العربي-الإسرائيلي، ما ولّد مجموعة من الآراء المتنافرة. في كانون الأول/ديسمبر 1969، قدّمت إدارة ريتشارد نيكسون ما بات يُعرَف بـ”خطة روجرز”، تيمّنًا بوزير الخارجية آنذاك ويليام روجرز. أعادت الخطة التأكيد على القرار 242، لكنها أدرجت تنبيهًا بأنه قد يتعيّن إجراء تعديلات حدودية للأراضي العربية المحتلة التي ستُعيدها إسرائيل، نظرًا إلى أن الحدود التي كانت سائدة قبل حرب 1967 حُدِّدت بموجب اتفاقات الهدنة للعام 1949، لذا لم تكن بالضرورة حدودًا نهائية. ولكن الولايات المتحدة اعتبرت أن هذه التعديلات طفيفة، ما سلّط الضوء على أنها لم تدعم المساعي التوسّعية.

لكن روجرز لم يكن المحرّك الحقيقي للسياسة الخارجية في ذلك الوقت. فمَن حَرّكها فعليًا كان الرئيس ريتشارد نيكسون ومستشاره للأمن القومي هنري كيسنجر، وقد اتّخذا خطواتٍ لإسقاط خطة روجرز التي عارضها كلاهما بهدوء. وقطعت الإدارة الأميركية وعدًا إلى رئيسة الوزراء الإسرائيلية آنذاك، غولدا مائير، في رسالة موجّهة إليها في تموز/يوليو 1970، بأن الولايات المتحدة لن تصرّ على قبول إسرائيل بالتعريف العربي للقرار 242. عنَت هذه الجملة البسيطة أن الأميركيين لا يعتبرون أن القرار يَفرُضُ انسحابَ إسرائيل الكامل من الأراضي التي احتلّتها في العام 1967.

في شباط/فبراير 1972، ذهبت الإدارة الأميركية أبعد من ذلك، مؤكّدةً ألّا داعي لأن تلتزم إسرائيل بانسحابٍ كامل من الأراضي المُحتلة في إطار أي اتفاق مؤقّت مع العرب. وقد عنى ذلك أن بإمكان إسرائيل الدخول في مثل هذه المفاوضات من دون تحديد نتيجتها النهائية مسبقًا، ما منحها هامشًا واسعًا للمناورة الديبلوماسية.

والأهمُّ من ذلك أن الأميركيين والإسرائيليين وافقوا على عدم اتّخاذ واشنطن أيّ خطوات في ما يتعلق بالسلام في الشرق الأوسط من دون مناقشتها أوّلًا مع إسرائيل. بعبارة أخرى، حصلت إسرائيل على سلطة حقِّ نقضٍ (فيتو) فعلية في هذا الصدد.

أُبرِمت هذه التعهّدات على مستوى ثنائي، ولكن تسبّب أثرها بتعطيل قرارات الأمم المتحدة إلى ما لا نهاية. وحدث ذلك بصورة خاصة حين قرّرت إدارة دونالد ترامب، في كانون الأول/ديسمبر 2017، الاعتراف رسميًا بالقدس عاصمةً لإسرائيل، ثم في آذار/مارس 2019، عند اعترافها بضمِّ إسرائيل لمرتفعات الجولان السورية. ولم تُحَرِّك إدارة جو بايدن الحالية ساكنًا لإبطال أيٍّ من هذَين القرارَين، على الرغم من محاولتها التمايز في سياساتها عن سياسات دونالد ترامب. وتجاهلت من دون أن يرفّ لها جفن واقِعَ أن واشنطن عارضت، إلى جانب أعضاء آخرين في مجلس الأمن الدولي، ضمّ إسرائيل لمرتفعات الجولان في العام 1981، واصفةً الخطوة، في القرار رقم 497، بأنها “لاغية وباطلة”، قبل أن تطالب إسرائيل بـ”إبطال” قرارها.

في سياقٍ كهذا، وفيما يمكن تفهّم الإحباط الذي يشعر به الخالدي، فإن عزم الولايات المتحدة على بناء سفارة على أرضٍ عربية مُحتلّة لا يُشكّل فعليًا خروجًا عن سلوكها السابق. لقد صوّرت واشنطن نفسها، على مدى 56 عامًا، بأنها المتعهّد الكبير للسلام في الشرق الأوسط، فيما ناقضت مرارًا وتكرارًا مواقفها المُعلنة بشأن مقتضيات هذه التسوية. وساعدت أيضًا أحد الجانبَين، أي إسرائيل، على فرض تفضيلاته على العرب والفلسطينيين، وهو ما حدث أخيرًا من خلال إبرام اتفاقات سلام مع دول عربية على حدة. لذلك، وحتى لو لم يكن التوصّل إلى سلام شامل ممكنًا من دون أميركا، فلا يمكن فعليًا بلوغ السلام الشامل من خلالها.

  • مايكل يونغ هو رئيس تحرير “ديوان”، مُدوّنة برنامج كارنيغي الشرق الأوسط، بيروت، وكاتب رأي في صحيفة “ذا ناشيونال” الإماراتية. يُمكن متابعته عبر تويتر على:  @BeirutCalling

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى