أوروبا ضاقت ذرعاً بخطاب أردوغان الإسلامي

في السادس من تشرين الأول (أكتوبر) أعلنت المفوضية الأوروبية أن “تركيا لم تُعالج بشكلٍ موثوق مخاوف الإتحاد الأوروبي بشأن استمرار التطورات السلبية، في سيادة القانون والحقوق الأساسية والسلطة القضائية”.وأضافت أنه: “في حالة تجدّد الإجراءات الأحادية، أو الاستفزازات التي تُمثّل خرقاً للقانون الدولي، فإن الإتحاد سوف يستخدم كل الأدوات والخيارات المتاحة”.

إيمانويل ماكرون: هجوم حاد على أردوغان وخطابه الإسلامي المتطرف.

بقلم فريدا غيتيس*

مع وقوع هجوم إرهابي قبل أسبوعين في فيينا، حيث قُتل أربعة أشخاص وأصيب 22 آخرون في هجوم إطلاق نار على حانات مُزدحمة، إنتشرت التكهّنات حول الجاني، بشكل غير مفاجئ، على وسائل التواصل الاجتماعي. سارع العديد من أولئك الذين قدموا النظريات إلى اتهام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بإذكاء غضب الإسلاميين المُتشددين. لا يوجد ما يشير إلى أن المُهاجِمَ – وهو شاب مُتطرّف أُدينَ سابقاً في النمسا لمحاولته الإنضمام إلى تنظيم “الدولة الإسلامية” – كان بدافع أو بسبب خطاب أردوغان الإسلامي، حيث أشارت السلطات النمساوية إلى تعاطفه مع “داعش”، الذي ادّعى لاحقاً مسؤوليته عن الهجوم. لكن الشكوك الفورية بأن زعيم تركيا كان مسؤولاً بشكل غير مباشر تَعكس الغضب المُتزايد في أوروبا من رد فعل أردوغان المثير للجدل على الهجمات الجهادية الأخيرة على القارة العجوز.

تماشياً مع نمطٍ قديم، جعل أردوغان نفسه عن عمد بمثابة مانعٍ للصواعق، مُحاولاً الإستفادة من التوترات داخل أوروبا بشأن الإسلام السياسي من خلال الإدعاء بأنه المُدافع عن جميع المسلمين. وبقيامه بذلك، فإنه يؤجج علاقات تركيا المشحونة أصلاً مع زملائها الأعضاء في حلف شمالي الأطلسي (الناتو)، ويزيد من عدم شعبيته بين العديد من الأوروبيين. ومن المفارقات أيضاً أن أفعال وتصاريح أردوغان تجعل موقف المهاجرين الأتراك الذين يعيشون في دول مثل النمسا وألمانيا وهولندا وأماكن أخرى في أوروبا أكثر صعوبة، حيث يُنظَر إليهم بشكل متزايد على أنهم أسلحة مُحتَمَلة لأردوغان في معركته السياسية ضد الغرب. لقد حاول الرئيس التركي فعلياً القيام بذلك في مكان آخر في أوروبا. وكما أشرتُ في مقالٍ في العام 2017، أدخل أردوغان نفسه في الإنتخابات البرلمانية في هولندا في ذلك العام، وأرسل وزير خارجيته لتنظيم حملة انتخابية ضد رغبات الحكومة الهولندية وسعى علانية إلى التأثير في الناخبين من أصل تركي.

لكن يبدو أن  بؤرة هذه التوترات تكمن في العلاقة بين أردوغان والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي ردّ بقوة – يقول البعض بقوة حادة للغاية – على الهجمات الإرهابية الأخيرة في فرنسا. العلاقات الثنائية بين تركيا وفرنسا، والتي كانت أصلاً مُتزعزعة من قبل، وصلت الآن إلى حافة الإنهيار.

في 16 تشرين الأول (أكتوبر) الفائت، قَتَلَ لاجئ مسلم من أصل شيشاني مُدَرِّساً يُدعى “صموئيل باتي” وقطع رأسه في إحدى ضواحي باريس. خلال فصلٍ دراسي حول حرية التعبير، عَرَضَ “باتي” لطلابه بعض الرسوم الكاريكاتورية المُثيرة للجدل لمجلة “شارلي إيبدو” الفرنسية الساخرة، والتي تُصوّر النبي محمد. تم الإستشهاد بالرسوم الكاريكاتورية، بالطبع، على أنها الدافع وراء أحد أكثر الأيام المؤلمة في فرنسا، في العام 2015، عندما ذبح الجهاديون الموظفين في مكتب تشارلي إيبدو في باريس وقتلوا آخرين، بمن فيهم مدراء في مطعم يهودي. أذهل قتل باتي الوحشي الفرنسيين وصدمهم بشدة ، لأنه مات من أجل دفاعه عن حرية التعبير، وهو مبدأ شبه مُقدَّس في فرنسا المُخلِصة للعلمانية أو العَلمنة.

أطلق ماكرون على الفور حملة قمعٍ، حيث أغلق المنظمات الإسلامية في جميع أنحاء فرنسا، وأعلن أن حكومته “ستُكثّف حربها ضد الإسلاميين المتطرفين”. وقد وصف النضال بعبارات صارخة بالقول إن السلطات ستتخذ إجراءات ضد الأفراد والجماعات التي تُروّج ل”مشروع إسلامي راديكالي – بعبارة أخرى، إيديولوجية تهدف إلى تدمير الجمهورية الفرنسية”.

وسرعان ما بدأ أردوغان الهجوم، وانتقد ماكرون بشدة. عندما قَتل مُهاجم آخر ثلاثة أشخاص في كنيسةٍ في نيس في 29 تشرين الأول (أكتوبر)، وذبح امرأة منهم، لم يُغيّر أردوغان موقفه وحافظ على نبرته العالية. أعلن الرئيس التركي في اجتماع لحزبه أن “ماكرون يحتاج إلى نوعٍ من العلاج النفسي. ماذا هناك للقول عن رئيس دولة لا يؤمن بحرية الدين؟”. ووصفت فرنسا من جهتها هذه التصريحات بأنها “غير مقبولة” واستدعت سفيرها من أنقرة.

عندها رفع أردوغان حدّة نبرته الخطابية. في خطاب متلفز إلى الأمة، بعد يومين، دعا إلى مقاطعة المُنتجات الفرنسية، وادّعى بشكل سخيف أن المسلمين الفرنسيين “يتعرّضون لحملةِ قتلٍ شبيهة بتلك التي استهدفت اليهود في أوروبا قبل الحرب العالمية الثانية”. وحثّ بقية العالم على الدفاع عن المسلمين في فرنسا. أعرب القادة الأوروبيون على الفور عن دعمهم لماكرون. لكن انتقادات أردوغان لرد ماكرون قوبلت بصدى إيجابي من قبل الزعماء المسلمين الشعبويين في باكستان وماليزيا والمتظاهرين في الشرق الأوسط وفي جميع أنحاء العالم الإسلامي.

بالنسبة إلى العديد من الأوروبيين، بدت كلمات أردوغان وكأنها تبرير مُقنع لعمليات القتل والتحريض على مزيد من العنف. من الناحية الفلسفية، هذا صدامٌ حول حدود حرية التعبير ورد الحكومة الفرنسية المناسب على الإرهاب. لكن الخلاف يتكشّف في سياق المنافسة الجيوسياسية، حيث يراهن أردوغان على جانب وماكرون على آخر.

يزعم بعض منتقدي ماكرون أنه يمارس سياسة داخلية، ويحمي خصومه اليمينيين من خلال تعهّده بقمعِ المتطرفين الإسلاميين والدفاع عن الحق في الإساءة. لكن ردّ ماكرون ردّد أيضاً المشاعر الشعبية في فرنسا. عندما اتهم بعض المراقبين الليبراليين في الولايات المتحدة ماكرون بمحاولة الحصول على ميزة سياسية بموقفه المتشدد، قال الكثيرون في فرنسا إن الأميركيين لا يفهمون ذلك. حتى صحيفة “لو موند” الليبرالية، اشتكت من “العمى الأميركي المُقلق تجاه الجهاد في فرنسا”.

مهما كانت دوافع ماكرون، فإن دوافع إردوغان واضحة. إنه يلعب لعبة مألوفة – اللعبة عينها التي لعبها لسنوات، في محاولة لتتويج نفسه زعيماً للعالم الإسلامي الحديث. لقد فعل ذلك في العام 2009، عندما انسحب احتجاجاً بطريقة مسرحية من إحدى اللجان في المنتدى الإقتصادي العالمي في دافوس، بعد مهاجمة الرئيس الإسرائيلي، شمعون بيريز، بشأن الوضع في غزة. وقد فعل ذلك في ذروة “الربيع العربي” قبل ما يقرب من سنينٍ عشر، عندما كانت الأحزاب المُرتبطة ب”الإخوان المسلمين” تفوز بالإنتخابات في تونس وتكتسب نفوذاً في مصر وليبيا. سافر أردوغان إلى الدول الثلاث في جولة انتصار واضحة، حيث أظهر نفسه على أنه زعيم ما بدت لفترة وجيزة وكأنها ديموقراطيات عربية ناشئة تُهيمن عليها أحزاب إسلامية.

إنهار هذا المشروع، لكن أردوغان لم يتخلَّ عن تطلّعاته لمدّ نفوذه خارج حدود تركيا، حتى مع تصاعد المشاكل الإقتصادية المحلية. بالإضافة إلى تحركات أردوغان العدوانية تجاه ماكرون، كان الإحتكاك يتصاعد بالفعل حول عدد من القضايا الأخرى، أبرزها مسعى الرئيس التركي إلى إرسال سفن تركية للبحث عن حقول النفط والغاز في المياه المُتنازَع عليها في شرق البحر المتوسط​​، وهو نزاع أثار مخاوف خلال هذا الصيف عندما بدا أنه قد يؤدي إلى صراعٍ عسكري. كما أن التدخل العسكري التركي في ليبيا يُعَدُّ مصدر خلاف آخر، وكذلك دعم أنقرة لأذربيجان في صراعها مع أرمينيا حول منطقة ناغورنو كاراباغ المُتنازَع عليها.

من المُحتَمل جداً أن هجوم فيينا كان سيحدث بدون أي كلمات من أردوغان أو ماكرون، ولكن مع وجود أوروبا في خضم ما يمكن أن يصبح موجة أخرى من الإرهاب، فقد نفد صبر القارة العجوز من خطاب أردوغان الإسلامي.

  • فريدا غيتيس هي كاتبة ومعلّقة في الشؤون الدولية. كانت سابقاً منتجة ومراسلة لشبكة “سي أن أن”. يمكن متابعتها عبر تويتر: @fridaghitis.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى