حدودٌ “مائعة” بين سوريا وتركيا

تعمل تركيا على تغيير طبيعة المناطق الحدودية السورية، الأمر الذي جعل أهل الخبرة يُحذّرون بأن ذلك قد يُنذر بخطوات تركية بعيدة المدى.

رجب طيب أردوغان: مَيَّعَ الحدود مع سوريا للإنقضاض مستقبلاً على مناطقها؟

بقلم خضر خضّور ومَنهَل باريش*

شكّل الإنسحاب الأميركي من مناطق شرق الفرات في تشرين الأول (أكتوبر) 2019 نقطة تحوّلٍ في الصراع في شمال شرق سوريا. لقد سمح لتركيا بالتوسّع في المنطقة، ما أدّى إلى تحريك حدودها بشكل فعّال داخل سوريا لإنشاء منطقة عازلة مع قوات سوريا الديموقراطية (قسد). وهذه الأخيرة هي تحالفٌ غير مُتجانِس من الجماعات المُسلّحة مُتعدّدة الأعراق بقيادة وحدات حماية الشعب الكردية، والتي تعتبرها تركيا امتداداً لحزب العمال الكردستاني، الذي تتّهمه بالضلوع في أنشطة إرهابية.

أدّى هذا التوسّع إلى تغيير طبيعة المناطق الحدودية بين تركيا وسوريا بشكل أساسي، وربطها سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وأمنياً بالمقاطعات التركية الواقعة على الحدود مباشرة. وبينما لم يصل هذا التكامل إلى حدّ الضمّ الكامل، فقد أعاد تشكيل الإطار الإجتماعي والإقتصادي لهذه المناطق. كما أنه قد يَرسي الأساس لخطوات مستقبلية بعيدة المدى من جانب أنقرة في المنطقة.

أعقبت الإنسحاب الأميركي عملية عسكرية تركية عُرفت باسم “نبع السلام”، ما أدّى إلى سيطرة الجيش التركي على شريط من الأرض بين رأس العين وتل أبيض. أدّى ذلك إلى إنشاء منطقة حدودية جديدة، مثلما فعلت عمليات درع الفرات وغصن الزيتون التركية في أجزاء أخرى من شمال سوريا. ترتبط منطقة نبع السلام ارتباطاً وثيقاً بمقاطعة سانليورفا في تركيا من حيث الإدارة والخدمات والتجارة. ومع ذلك، فهي أيضاً معزولة عن المناطق المحيطة داخل سوريا. المنطقة لها أهمية استراتيجية بالنسبة إلى تركيا التي تدخلت فيها لمنع ظهور كيان يسيطر عليه بشكل فعال حزب العمال الكردستاني. وهذا هو السبب في أن الإمتداد بين رأس العين وتل أبيض مُدَجَّج برجال الأمن ومُؤمَّن بدرجة عالية ولا يمكن للسوريين العودة إليه بسهولة اليوم.

إن التدخّل التركي في المنطقة عميق جداً. كلُّ مجلس محلّي لديه مُنَسِّقٌ تابع لمقاطعة سانليورفا. يساعد هؤلاء المُنَسِّقون المجالس المحلية على تأمين الدعم اللوجستي والتمويل اللازم لتنفيذ المشاريع الخدماتية. كما أنهم يساعدون على تنسيق إيصال المساعدات التركية إلى الهيئات المحلية من خلال الحكومة المؤقتة للمعارضة السورية. وهذا يشمل أشياء مثل الرعاية الصحية والممتلكات وتسجيل الأحوال المدنية والتعليم.

ويتّضح عمقُ هذا التدخّل من حقيقة أنه عندما أعلنت الحكومة المؤقتة عن تشكيل مجلس محلي في تل أبيض في 28 تشرين الأول (أكتوبر) 2019، قام محافظ سانليورفا، عبد الله إيرين، بزيارة المدينة وأعرب عن دعمه للمجلس الجديد. وعندما تم تشكيل المجلس المحلي لرأس العين في 7 تشرين الثاني (نوفمبر) 2019، زار إيرين هذه المدينة أيضاً، مؤكداً أن تركيا ستستمر في إعادة بناء المنطقة وتشجيع عودة اللاجئين السوريين.

في قطاع التعليم، أعاد الأتراك فتح 146 مدرسة عاملة في منطقة رأس العين، والتحق بها أكثر من 15 ألف طالب. وقد وقّعت جامعة حرّان أيضاً مُذكّرة تفاهم لفتح فرع هناك قريباً. يتم تقديم منح دراسية لعدد من الطلاب الذين حققوا درجات عالية في امتحانات اللغة التركية “يوس”، وخصوصاً للجامعات الموجودة في حرّان وماردين وهاتاي.

وفي مثالٍ آخر على ما تفعله تركيا، سمحت في أيار (مايو) الفائت لـ 85 حصّاداً مُشتَركاً بالمرور عبر أراضيها من المناطق التي تمَّ الاستيلاء عليها في عملية درع الفرات إلى منطقة رأس العين وتل أبيض من أجل حصاد القمح والشعير. كان هذا ضرورياً لأنه لا يوجد اتصال مباشر بين المنطقتين الخاضعتين للسيطرة التركية. وبحسب مصادر على الأرض، منحت السلطات التركية أيضاً تصاريح دخول لـ1500 مزارع خلال موسم الحصاد حتى يتمكّنوا من التنقّل عبر تركيا لحصاد أراضيهم في سوريا. بعد انتهاء موسم الحصاد، سيتم تسهيل إجراءات العبور لنقل البذور إلى مناطق درع الفرات. وتُشارك في المنطقة أيضاً مجموعات الإغاثة التركية “آي إتش إتش” (IHH) وهيئة إدارة الكوارث والطوارئ، فضلاً عن الهلال الأحمر التركي، لسدّ الفجوة التي خلّفتها الولايات المتحدة ولم تَعُد وكالات المعونة الأوروبية نشطة هناك.

ترتبطُ منطقة رأس العين وتل أبيض ارتباطاً وثيقاً بتركيا لكنها أغلقت حدودها مع بقية سوريا. وقد شجع هذا الأمر التهريب. وفقاً لأشخاص موجودين على الأرض، فإن مواد البناء أرخص في مناطق نبع السلام، حيث يتم تخزينها. تبلغ تكلفة الصلب 500 دولار للطن في هذه المناطق، فيما يبلغ 650 دولاراً في الرقة التي تسيطر عليها قوات سوريا الديموقراطية “قسد”. ويبلغ سعر طن الإسمنت 42 دولاراً في مناطق نبع السلام و100 دولار في الرقة. والعكس صحيح بالنسبة إلى منتجات الوقود، لأن المناطق التي تسيطر عليها “قسد” تنتج النفط. يبلغ سعر برميل المازوت 37 دولاراً في مناطق نبع السلام ولكن 15 دولاراً فقط في الرقة، بينما يبلغ سعر برميل البنزين 84 دولاراً في مناطق نبع السلام و 40 دولاراً في الرقة.

يُشيرُ هذا إلى أنه بينما تقع المنطقة من الناحية التقنية في منطقة حدودية مع تركيا، فإنها تعمل أيضاً كحدود بين تركيا وبقية سوريا. إن حقيقة ارتباطها الوثيق بتركيا ومع ذلك تظل معزولة عن سوريا تجعل العودة الوشيكة للاجئين على نطاق واسع أمراً مُستبعَداً. ولدى سؤاله عن احتمال عودة اللاجئين، أكد قائد محلي على أوجه القصور في البنية التحتية المحلية والصعوبات في الحصول على الموارد الكافية. وقال: “الكهرباء والماء والطعام تكفينا فقط. لا نريد عودة أحد”.

إن الفكرة وراء إعادة تشكيل تركيا للمناطق الحدودية الشمالية لسوريا ليست الإستيلاء على هذه الأراضي لصالح أنقرة، ولكن إنشاء منطقة عازلة مع قوات سوريا الديموقراطية لامتصاص تأثير أي مواجهة مع التنظيم. من المرجح أن تظل هذه الأجزاء من سوريا سورية، لكن تحت تأثير أنقرة الشديد. ومع ذلك، يُمكن أن يخلق الوضع المزيد من الخيارات لتركيا في المستقبل. ولكن في الوقت الحالي، نظراً إلى أن إدارتها لهذه المناطق كانت ناجحة من نواح كثيرة، فقد يؤدي ذلك إلى تشجيع تركيا على تكرار مثل هذا النموذج شرق نهر الفرات.

  • خضر خضّور هو باحث غير مقيم في مركز كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت. تتركز أبحاثه حول العلاقات المدنية العسكرية والهويات المحلية في المشرق العربي، مع التركيز على سوريا.  يُمكن متابعته عبر تويتر على: @KhaddourKheder
  • منهل باريش هو كاتب وصحافي سوري. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @zyadalfares
  • تم تحقيق هذا المنشور بدعم من شبكة البحوث المحلية “X-Border، وهو برنامج مُمَوَّل من مساعدة المملكة المتحدة من الحكومة البريطانية. الآراء المُعبَّر عنها في هذا المقال لا تعكس بالضرورة السياسات الرسمية لحكومة المملكة المتحدة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى