رُغم نجاحها الأوّلي في التصدّي ل”كوفيد-19″، ما زالت تونس في عين العاصفة

بفضل هيكليات صحّية قائمة وقوية ومستويات عالية من الرضا والوعي والثقة الشعبية، إستجابت تونس بسرعة وفعالية لتفشّي فيروس كورونا المستجدّ. ويكمن التحدّي الآن في مواجهة التداعيات الإجتماعية والإقتصادية الواسعة النطاق التي ترتّبها الجائحة.

 

الرئيس قيس سعيد: قاد المواجهة ضد كوفيد-19 بنجاح حتى الآن.

 

بقلم ياسمينة أبو الزهور*

كانت تونس من الدول الأولى في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي نجحت في احتواء تفشّي فيروس كورونا المستجدّ، إذ لم تُسجّلْ البلاد أيّ إصابة جديدة لخمسة أيّام مُتتالية بدءاً من 11 أيار (مايو)، وأكملت خطّة الفتح التدريجي بين 4 أيار (مايو) و14 حزيران (يونيو)، وفتحت حدودها لاستقبال السيّاح ابتداء من 27 حزيران (يونيو) كما استأنفت نشاطها الإقتصادي الطبيعي.

وحتّى 17 حزيران (يونيو)، كانت تونس أجرت أكثر من 81,300 فحصٍ، وقد سجّلت 1,327 حالة عدوى و1,093 حالة تعافي و50 حالة وفاة بالإجمال. ومقارنة بباقي الدول في المنطقة، حظيت تونس بمعدّلَي وفيات وتعافي جيّدَين في ما يخصّ فيروس كورونا المستجدّ (3,8 في المئة و82,4 في المئة على التوالي).

يُمكن عزو نجاح تونس في التعامل مع الجائحة إلى مزيجٍ من العوامل، بما فيها نظام رعاية صحّية جيد نسبيّاً واستجابة حكومية سريعة وفعّالة، وثقة المواطنين بأداء الحكومة، والإدراك الشعبي لمخاطر هذا الفيروس. لكن على الرغم من إدارة الحكومة الفعّالة لأزمة الصحّة العامة هذه، تواجه البلاد تحديات كبيرة قد تؤدّي إلى خلافات في المستقبل. وتترسّخ أبرز هذه التحديات في مكامن الضعف الإقتصادية التي فاقمها أثر الجائحة الإقتصادي، إلى جانب أوجه تفاوت شديدة في قدرة الوصول إلى رعاية صحّية عالية الجودة وبكلفة معقولة.

إجراءات الإستجابة الحكومية

مباشرةً بعد تسجيل حالات الإصابة الأولى في تونس في 2 آذار (مارس)، إستجابت الحكومة بسرعة عبر مجموعة متكاملة من الإجراءات التي تهدف إلى إبطاء انتشار الفيروس. فأوقفت الحكومة حركة الطيران، وفرضت العمل من المنزل للعمّال غير الضروريين، وأغلقت المساجد، وفرضت العزل الإلزامي وحظر التجوّل الليلي، وأغلقت المدارس والشركات ومنعت التجمّعات الشعبية. وأنيطت الشرطة والجيش بالحرص على أنّ تُطبّق هذه التوجيهات.

وأدّت شفافية عملية اتخاذ القرارات ووضوحها إلى استجابة حكومية فعّالة ومنظّمة. وكان أبرز صانعي القرارات في خلال الأزمة الرئيس قيس سعيد ورئيس الوزراء آنذاك إلياس الفخفاخ. فقد منح البرلمان رئيس الوزراء سلطات أوسع للتعامل مع الأزمة عبر تفعيل المادّة 70 من الدستور في 14 نيسان (إبريل). وكان من بين الفاعلين الآخرين الذين ساهموا في الإستجابة الحكومية الفعّالة وزيرُ الصحّة، عبد اللطيف المكي، ووزيرُ الداخلية، هيشام المشيشي. وتلقّى صانعو القرارات الدعم من مسؤولين كبار مُدرَّبين طبّياً، ولا سيّما المدير العام للصحة العسكرية، مصطفى الفرجاني، والمديرة العامة للمرصد الوطني للأمراض الجديدة والمستجدة، نصاف بن علية، والمدير العام للمركز الوطني للنهوض بزرع الأعضاء، الطاهر قرقاح.

علاوة على ذلك، كانت استراتيجية التواصل الحكومية في خلال الأزمة شفّافة وشاملة، وقد ترأّستها مديرة المرصد الوطني للأمراض الجديدة والمستجدّة. وشملت الاستراتيجية مؤتمرات صحافية يومية عُرضت على المحطّات التلفزيونية والإذاعية الوطنية والمحلّية، وموقعاً إلكترونياً بتحديث مُنتظَم أنشأته الحكومة، وصفحتَي فيسبوك مخصّصتَين لتشارك المعلومات حول الفيروس.

نظام رعاية صحّية متين

تتحلّى تونس بنظام رعاية صحّية يُعتبر من بين الأكثر تقدّماً وفعالية ومن بين الأفضل من حيث الموارد في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، مع إنفاق صحّي مرتفع نسبياً للفرد الواحد وللسعة السريريّة، وبنية تحتية متينة للصحّة العامة، وهيكليات صحّية قائمة منظّمة جيداً. وقد أنفقت تونس على قطاع الصحّة أكثر من دول عدة مجاورة لها، إذ تضمّ البلاد 2,085 مركز عناية أوّلية و135 مستشفى.

والمهمّ أنّ البلاد تتحلّى بهيكليات ومؤسّسات صحّية قوية كانت مُتحضّرة لمواجهة الجائحة، ممّا ساعد الحكومة في استجابتَيها الأمنية والصحّية للأزمة على حدّ سواء. وتشمل هذه المؤسّسات المرصد الوطني للأمراض الجديدة والمستجدّة، ومنظمة الإستجابة والإغاثة، واللجنة الجهوية لتفادي الكوارث. وتمكّنت هذه المؤسّسات من التعاون بفضل الهيئة الوطنية لمجابهة الكورونا التي أنشأتها تونس حديثاً من أجل حصر الإستجابات للجائحة ومتابعة تطوّرها الوبائي والسيطرة على تفشّيها. وعلى المستوى المحلّي، نسّقت المجالس البلدية، بمؤازرة منظّمات المجتمع المدني والأحزاب السياسية، مع المؤسّسات الوطنية لتطبيق إجراءات إضافية أكثر توجّهاً.

دور الشعب

علاوة على الأداء الحكومي والبنية التحتية القوية نسبياً لقطاع الصحّة العامة، إستفادت تونس من وعي الشعب واستعداده للإنصياع لإرشادات الحكومة في خلال الأزمة. في الواقع، أفاد 64,7 في المئة من المستطلَعين أنّهم التزموا بالكامل بالقيود وأفاد 99,2 في المئة منهم أنّهم سيحجرون نفسهم طوعاً لمدّة 14 يوماً إذا شكّوا في أنّهم مصابون. وعلى الرغم من التطلّعات الإقتصادية الصعبة، أجاب 42 في المئة من المستطلعين أنّهم قادرون على تحمّل فترة إغلاق أطول من شهر واحد، وأيّدت نسبة 57 في المئة الإبقاء على الإغلاق العام.

ولعلّ استعداد التونسيين للإنصياع إلى توجيهات الحكومة مُرتبطٌ بإدراكهم مخاطرَ فيروس كورونا المُستجدّ وبثقتهم بالحكومة وبالتواصل الكثيف الذي قامت به الحكومة مع الشعب في خلال الأزمة. وكان 81 في المئة من التونسيين المستطلَعين على علم بمخاطر الفيروس و91,3 في المئة مُقتنعين أنّ الفيروس يُمكن أن يتفشّى بسرعة. زد على ذلك أنّ أكثرية التونسيين على ثقة بأنّ حكومتهم ستسيطر على التفشّي (71,2 في المئة) وستتواصل بفعالية مع الشعب في خلال الأزمة (84,5 في المئة). وقد ترتبط الثقة الشعبية بالحكومة بالتغيير الذي جرى أخيراً في القيادة (فقبل ذلك قال 20 في المئة فقط من المستطلعين إنّهم يثقون بالحكومة) وبالرضا الشعبي عن استجابة الحكومة الصحّية (88 في المئة) والإجراءات الأمنية (82 في المئة).

التحدّيات العتيدة

بيد أنّ الجائحة سلّطت الضوء على عيوبٍ مُهمّة ضمن نظام الرعاية الصحية في تونس: فهو هشّ ومُثقل من ناحية السعة السريريّة، وهو يُعاني تفاوتاً جغرافياً. ولا تضمّ البلاد بأسرها سوى 500 سرير في وحدات العناية الفائقة (القطاعَان الخاص والعام معاً) ويستأثر قطاع الصحّة العام بنسبة 87 في المئة من السعة السريرية للمستشفيات السريرية. وهذا يعني أنّ تونس تفتقر إلى الموارد اللازمة لتأمين الرعاية لدفق كبير من المرضى. علاوة على ذلك، لا يحظى كلّ التونسيين بقدرة الوصول ذاتها إلى الموارد الصحّية، إذ تستفيد المناطق الساحلية من عدد أكبر من الأطباء المُتخصّصين وأجهزة التنفّس وخدمات الفحص ووحدات العناية الفائقة وإمكانية البقاء في المستشفى. وقد يحثّ هذا التفاوت على بروز نزاعات في المستقبل عندما يُعيد المواطنون والفاعلون المعارضون التركيزَ على المسائل المُتعلّقة بالرعاية الصحّية والتفاوت. ومن أجل تعزيز قطاع الرعاية الصحّية العامة ومنح المناطق كافة قدرةَ وصولٍ مُتساوية، ينبغي على الحكومة أن تزيد الإنفاق على الصحّة العامة وأن تُركّز على توزيعٍ أكثر تساوياً لموظّفي الرعاية الصحّية وأجهزتها، ولا سيّما في المناطق الداخلية المُهمّشة.

وتواجه تونس أيضاً مشاكل إقتصادية، إذ تعاني البلاد أصلاً قبل الجائحة بسبب التحديات الهيكلية المُترسّخة، بما في ذلك مستويات غير مُستدامة من الإنفاق العام (30 في المئة)، ومستويات عالية من التفاوت ودين عام ضخم (71,4 في المئة من الناتج المحلّي الإجمالي)، ومُعدّلات مُرتفعة من بطالة الشباب. وسيتفاقم هذا الأمر بفعل التداعيات الواسعة النطاق للجائحة العالمية على القطاعات والأسواق الأساسية. وسوف تضرّ القيود المفروضة على السفر بالقطاع السياحي، الذي استأثر بنسبة 14,2 في المئة من الناتج المحلّي الإجمالي و11 في المئة من اليد العاملة في العام 2019. وقد يشهد هذا القطاع خسارة 400 ألف وظيفة في قطاع السفر وإيرادات قدرها 1,4 مليار دولار. وستتأثّر أيضاً أعمال الفنادق المُرتبطة مع احتمال إقفال 60 في المئة من الفنادق في خلال فصل الصيف. وأضرّ العزل الإلزامي بشدّة بالقطاع غير الرسمي، الذي يُمثّل بين 38 و53 في المئة من الناتج المحلّي الإجمالي ويستخدم قرابة 60 في المئة من اليد العاملة. صحيح أنّ الحكومة قد أخذت إجراءات لمساعدة هؤلاء العمّال وغيرهم من المواطنين الضعفاء (مثلاً تحويلات نقدية لمرّة واحدة ورزم دعم وهبات)، غير أنّ هذه الإجراءات ليست كافية للتخفيف من المصاعب الاقتصادية.

نتيجة لذلك، قد ينكمش اقتصاد تونس بنحو 4 في المئة، بحسب صندوق النقد الدولي. ويقدّر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ووزارة التنمية والإستثمار والتعاون الدولي أنّ تونس ستشهد خسارة 274,500 وظيفة ويتوقّعان أن يرتفع معدّل الفقر بنسبة 4 في المئة. وعلى الأرجح أن ينخفض معدّل الإستثمار بقرابة 5 في المئة.

لقد نجحت الحكومة التونسية في احتواء فيروس كورونا المستجدّ، بفضل استجابة مؤسّساتية قوية وثقة ووعي شعبيَّين. بيد أنّ هذه الديموقراطية الناشئة قد تصبح عرضة للخطر بفعل التداعيات الإجتماعية والإقتصادية التي ترتّبها الجائحة. ولا بدّ من أن ينكمش الإقتصاد مع تعطّل القطاعات الأساسية والحركة التجارية وازدياد الإنفاق العام. وقد تؤدّي الظروف الإقتصادية الصعبة إلى توتّرٍ اجتماعي متأجّج وحافزٍ أقوى للإصلاح الإجتماعي-الإقتصادي، وذلك بفعل تركيزٍ ولّدته الجائحةُ على التفاوت الإجتماعي والتباين الجغرافي في توزيع موارد الرعاية الصحّية.

  • ياسمينة أبو الزهور هي زميلة زائرة في مركز بروكنجز الدوحة، وهي أيضاً باحثة مشاركة وزميلة في المعهد المغربي لتحليل السياسات. تركّز بحوثها على استمراريّة الأنظمة السلطويّة وتحوّلاتها، والسلوك الاستراتيجي الذي تعتمده الأنظمة، وتفاعلات الأنظمة مع التيارات المعارضة. يمكن متابعتها عبر تويتر على: @YAbouzzohour

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى