لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (34): تَدويلُ القَضاء

تتناول هذه السلسلة من المقالات موضوعًا شائكًا يتعلَّق بالأسبابِ والظُروفِ التي جَعَلَت من لبنان بؤرةً لحروبٍ أهلِيَّةٍ مُتَواصِلة مُنذُ أواسط القرن التاسع عشر الى اليوم. ويجري فيها تقديمُ الحرب الأهلية اللبنانية الأخيرة (1975 – 1990) على نحوٍ مُقارن مع الحرب الأهلية الإسبانية (1936 – 1939)، ونماذج أخرى من التاريخ القديم، من أجلِ استكشافِ الأسبابِ التي جعلت لبنان مسرحًا لحروبٍ أهلية مُستدامة، وبأشكالٍ مُختلفة، منها، بالسلاح والعنف، ومنها بالعنصرية والتباعُد والتنابُذ، ومنها بالسياسة وبالصراعات الإقليمية والدولية، ورُبّما بطُرُقٍ أُخرى مختلفة. كما تطرحُ إشكالياتِ التدويل الناشئة من تلك الحالة، نظرًا لارتباطِ بعض المكوّنات اللبنانية بقوى خارجية، فما العمل؟

سليمان الفرزلي*

تَزامَنَت مَساعي التدويل السياسي للأزمة اللبنانية مع التدويلِ القضائي للتحقيق في مداخلِ ومخارجِ الأزمةِ المالية وتهريب الأموال عبر المصارف إلى خارجِ لبنان.

لم تَكُن دعوةُ البطريرك الماروني الكاردينال بشارة بطرس الراعي إلى مُؤتَمرٍ دولي للمساعدةِ على انفراجِ الوَضعِ اللبناني، وليدةَ الأزمةِ التي تفاقمت منذ العام 2019، إنَّما نشأت مُنذُ المؤتمر الدولي المُعَرَّب الذي انعقدَ في الطائف في 30 أيلول (سبتمبر) 1989. ولم يتوانَ البطريرك من حَملِ دَعوَته تلك إلى حاضرة الفاتيكان، ثمَّ إلى المراجعِ السياسية في بريطانيا خلال زيارته الرسمية والرعوية إلى لندن بحماسٍ ظاهرٍ من قبل السفير البريطاني في بيروت.

أمّا على الصَعيدِ القضائي، فقد جرت محاولاتٌ لإيقاظِ القضاء اللبناني من سباته الطويل، بعدَ غيابهِ عن الوعي طوالَ الأزمة المالية التي كانت المصارفُ محورَها، وعلى رأسها البنك المركزي (مصرف لبنان)، وتتابُعِ وصولِ وفودٍ قضائية أوروبية إلى بيروت، للاستماع الى إفاداتِ مصرفيين ومسؤولين حول مخالفاتٍ لم يُكشَف عنها بالتفصيل.

وتَحَسَّسَ بعضُ اللبنانيين من أن تُشَكِّلَ مساعي التدويل السياسية والمالية انتقاصًا من السيادة اللبنانية، وهو قولٌ بدأَ مُنخَفِضَ النبرة، لأنَّ هناك ما يدحضه بحججٍ واقعية وقانونية، تختلفُ عمّا كانت عليه السجالات التي سبقت تشكيل المحكمة الدولية الخاصة بلبنان للنظر في جريمة اغتيال رفيق الحريري في منتصف شهر شباط (فبراير) من العام 2005.

فالمُعتَرِضون، بحجّةِ خَرقِ السيادة الوطنية، لا يستطيعون أخذَ هذه الحجة إلى مداها الأقصى لأنّهم وافقوا على اتفاقٍ لرسمِ الحدودِ البحرية مع كيان العدو الإسرائيلي، برعايةِ راعي التدويل الأوّل والعدو في آنٍ معًا، وهناكَ دولٌ كثيرة وكبيرة في عالم اليوم منقوصة السيادة تحت رعاية الراعي ذاته للأعداء والأصدقاء.

يُضافُ إلى أنَّ التدويلَ اللبناني حالةٌ مُزمِنة، بل هي سياقٌ تاريخي من الأزل الى الأبد، بما في ذلك الاستقلال وميثاقه الوطني، ومؤتمر الطائف ووثيقة الوفاق الوطني الصادرة عنه، والتي أنتجت التركيبة الميليشياوية والمافيوزية الراهنة التي نهبت الدولة والشعب والمصارف إلى آخر ليرة لتُراكِم الثروات في حساباتها المصرفية الخارجية.

لكنَّ القضاءَ الأوروبي لا تعنيه اعتباراتُ السيادة الوطنية، لأنه يسير بموجب معاهدة مع الدولة اللبنانية ويعمل في إطارها. فلا غُبارَ على ما أقدمَ وقد يُقدِمُ عليه. لكن هناك أسئلة وعلامات استفهام حول ما إذا كان قد قام بواجبه التدقيقي في البلدان الأوروبية التي استقبلت مصارفها الأموال المُهَرَّبة من لبنان، وهل لديه ما يُثبتُ أنَّ أصلَ تلك الأموال شرعيٌّ أو غير شرعي، منهوبٌ أو غير منهوب، مبيَّضٌ أو ملوَّثٌ، مع العلم أنَّ مصارف كبرى في العالم تقوم بعمليات تبييض الأموال على أعلى المستويات، وبرعاية أجهزةٍ رسميَّة بعضها يتعاطى تسهيل تجارة المخدرات التي يُعتَبَرُ الكبتاغون اللبناني أهونَها شرَّا. فالسعوديون، الذين أدرجوا هذه المسألة في رأس تحفّظاتهم على لبنان، بحجة تصدير هذه الممنوعات إلى بلدهم، لم يَسمعْ أحدٌ أنهم تحفّظوا عن المتلقي السعودي المحلي لتلك الممنوعات، وما إذا كانت له حمايةٌ من أجهزةٍ رسميةٍ كما هو الحال في بعض الدول الكبرى.

إنَّ التدويلَ القضائي لا يختلفُ بشيءٍ عن التدويلِ السياسي، وبهذا المعنى فهو قضاءٌ مُسيَّسٌ بدرجةٍ من الدرجات، وانتقائي أيضًا، والمحكمة الدولية خير مثال، فقد سمحت لنفسها، ولم تعترض الجهات الواقفة وراءَها، ولا الدولة اللبنانية مانعت، من أن تضعَ تلك المحكمة يدها على معلوماتٍ تتعلّقُ بجميع اللبنانيين من دون استثناء، فضلًا عن أنها أُقرّت من الجانب اللبناني، ولاعتباراتٍ سياسية لبنانية داخلية، خلافًا للأصول الدستورية، التي تقضي بأن يكون رئيس الجمهورية، هو الجهة الوحيدة التي يحقّ لها التفاوض بشأن المعاهدات الدولية.

حكومة فؤاد السنيورة في ذلك الوقت خَرَقَت الأصول الدستورية، بحمايةِ وتشجيعِ ودَعمِ جهاتٍ عربية ودولية لها غاية في توجيه عمل تلك المحكمة في اتجاهٍ يخدمُ مصالحها. فضلًا عن أنَّ رئيس الحكومة استطاعَ أنْ يستميلَ وزير العدل شارل رزق إلى جانبه في هذه المخالفة.

في مسألةِ رسمِ الحدود البحرية مع الكيان الصهيوني، لم يقع المكوِّن الشيعي في هذا المَطَبّ الدستوري. فقد ظلَّ رئيس مجلس النواب نبيه بري يُفاوِضُ الأميركيين سرَّاً طوال عشر سنوات، وهذه أيضًا مخالفة دستورية تَمَّت تغطيتها، عندما استوت طبختها، بتسليم ملف التفاوض العلني إلى رئيس الجمهورية، فكانت تلك خطوة دستورية سليمة، حتى ولو كانت خطوة شكلية، على افتراض أنَّ المفاوضات الفعليَّة تمَّت في السر بمعزلٍ عن رئاسة الجمهورية. ويبدو أن المكوِّن السنِّي، مُمَثَّلًا في زمانه بفؤاد السنيورة، لم يُعِر انتباهًا للقاعدة الشرعية القائلة: “إذا بُليتُم بالمعاصي فاستتروا”، كما فعل نبيه بري!

ومن عجبٍ أنَّ أحَدًا في لبنان لم يُطالِب بقضاءٍ دولي للنظر في جريمةِ تفجير مرفَإِ بيروت، مع أنها ترقى إلى جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، إزاءَ الحماس الهستيري والتزوير المُتمادي لتشكيل محكمة دولية خاصة من قبل مجلس الأمن كلَّفت الشعب اللبناني مجتمعًا ما لا يقل عن 500 مليون يورو طوال عشر سنوات، لتقول للبنانيين إنَّ المسؤولَ عن اغتيال رفيق الحريري هو شخص يُدعى سليم عياش مجهول الإقامة. وقد تخلَّلَ أعمالُ تلك المحكمة، خصوصًا في مرحلة التحقيق الدولي، كمٌّ هائلٌ من التزوير، وادَّعت عندما ووجهت بهذه القضية، أنها ليست لها صلاحية ملاحقة شهود الزور!

كنتُ في بيروت عام 2018، فالتقيتُ ديبلوماسيًا ألمانيًا مُتقاعدًا، خدمَ لفترةٍ في العاصمة اللبنانية، ويَمُتُّ لنا بصلةِ قُربى، فقلتُ له: “اشتهرَت الديبلوماسية الألمانية العلنية والسرِّية بكفاءتها العالية، خصوصاً لجهة التفاوض من أجل تبادل الأسرى والمُعتقلين بين لبنان وإسرائيل، فكيف شَذَّ المُحقق الدولي ديتليف ميليس عن هذه القاعدة، وتصرَّف، وكذلك بعض مساعديه، على النحو الذي شاهدناه؟”.

أجابني: “لم يكن ميليس في مهمته تلك في لبنان يُمثّلُ الدولة الألمانية، ولا القضاء الألماني، ولم تكن الجهة التي رشّحته ألمانية”.

  • سليمان الفرزلي هو كاتب، صحافي ومُحَلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكِن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: sferzli.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى