الفسادُ يَنخُرُ عظامَ الدولة والمُجتمع في الكويت ويتحوَّل إلى تهديدٍ وجودي

على الرغم من محاولات دولة الكويت، ظاهرياً، لمكافحة الفساد والقضاء عليه، يبدو أنها فشلت حيث بات يُمثّل راهناً تهديداً وجودياً لإمارة آل الصباح، إذ أنه لا يزال واسع الإنتشار ويتفاقم.

الفساد في الكويت: تهديدٌ وجودي

 

بقلم بدر السيف*

أصبح الفساد من ركائز الحكم وميزة من سمات الحياة اليومية في الكويت. وقد أدّى الكشف عن العديد من قضايا الفساد الكبرى في الأسابيع القليلة الماضية إلى زعزعة المجتمع لدرجة أن الذكرى الثلاثين لغزو العراق طغت عليها مناقشات الفساد الذي أصبح استعارة مُناسبة للوضع الحالي.

وصل الفسادُ إلى حدِّ غزوٍ داخلي، مُهدِّداً نسيج الدولة وقدرتها على العمل. لقد وصَلَ إلى أبعادٍ لا مثيل لها حيث شمل شبكة مُعقّدة من المُستخدَمين والعمليات. ومع ذلك، فإن الفساد في الكويت ينطوي على أكثر من مُجرّد اختلاسٍ وغسيل أموال. إنه نظامٌ خُماسيّ المستويات تتقاطع مُكوّناته وتُغذّي بعضها البعض، مما يجعل من الصعب اقتلاعه. إذا كانت الدولة والمجتمع صادقَين في معالجة الفساد، فعليهما أولاً معالجة الفساد بكامله، وإلّا فسوف يتفاقم.

إن حجر الزاوية للفساد هو الواسطة، واستخدام الصلات والنفوذ للحصول على مكاسب. وهذه تأتي بأشكالٍ مُختلفة: رشاوى، محسوبية، خدمات غير مُبرَّرة، تنازل عن رسوم، تقييمات مُضَخَّمة، والتفاف على القوانين. وهي تُنتج موقفاً مُعدياً يُرسّخ ويُديم الإهمال الكبير، وعدم الكفاءة، وأداء العمل دون المستوى الأمثل والمطلوب. غالباً ما يستلزم تنفيذ مهمة عادية في جهات مختلفة توزيع “هدايا”، سواء كانت نقدية أو سلعاً مادية.

إن الواسطة مُنتشرة في النظام لدرجةٍ أن تقرير صندوق النقد الدولي وجد أن الكويتيين بين سكان الخليج ذكروا ذلك في أغلب الأحيان كشرط مُسبَق للحصول على وظيفة. ولم يَنجُ قطاع النفط الحيوي في الكويت من المحسوبية، كما لم يفلت التوزيع غير القانوني لأراضي الدولة الزراعية. لقد كُتب الكثير عن الواسطة، لكن استيعاب الواسطة كروتين عادي سمح للممارسات المُنحَرفة الصغيرة نسبياً بالتحوّل إلى حالات فسادٍ أكبر.

الطبقة الثانية من الفساد تنطوي على استغلال النظام للضلوع في التزوير والإحتيال، وهو ما يكمل الواسطة. وخير مثال على ذلك فضيحة الشهادات العُليا المُزوَّرة التي حصل عليها مسؤولون وأكاديميون. كما أن بعض الشركات لم ينجُ من هذا المأزق، حيث قدم موازنات مُشَوَّهة ومُحرَّفة، في حين زيّف آلاف الكويتيين وضعهم الوظيفي في القطاع الخاص لتلقي أموال عامة لتشجيع الناس على ترك القطاع العام المُتضخّم.

مَرَضُ التزييف، بُعدٌ آخر للإحتيال، كان أيضاً جزءاً من دائرة الفساد هذه. أنفقت الدولة 3.5 مليارات دولار في الأشهر التسعة الأولى من العام 2018 وحده على العلاج في الخارج لمواطنيها، حيث تم اكتشاف حالات عدة لسائحين مُتنكّرين كمرضى. وانتهى الأمر بالعديد منهم في المستشفيات الأميركية حيث بقيت الرسوم التي بلغ مجموعها 677 مليون دولار غير مدفوعة. وأجبر ذلك وزارة الخارجية والكونغرس الأميركيين على إصدار بيانات تُطالب الكويت بتسوية الوضع ودفع الفواتير. كما تمّ استغلال مطالبات الإعاقة، حيث تظاهر أفرادٌ بأنهم مُعاقون للإستفادة من الحوافز المالية.

غالباً ما تكون أول طبقتيَن من الفساد غير مَرئيتَين، لكنهما شريان الحياة للفساد. إن ربط الفساد بالمكاسب المالية غير المشروعة وحده قد بثّ الحياة في ثقافةٍ مُتجذّرة في الواسطة والسلوك الاحتيالي. هذه الثقافة مُنتشرة على نطاق واسع لدرجة أن العديد من الأفراد المُلتزمين بالقانون يضطرون ويُجبَرون على المشاركة فيها وإلّا يتعرّضون للتأخير والتعقيد. إن تطبيع مثل هذه الممارسات أو التقليل من شأنها يتيح النمو المتسارع لسوء السلوك.

تزوير الجنسية والإتجار بالبشر هي الطبقة الثالثة في الفساد الكويتي. المعاملة السيئة للبدون، أو السكان عديمي الجنسية في الكويت، دفعتهم إلى اتباع أساليب غير قانونية لتلبية احتياجاتهم. تشمل الأمثلة إنتحال صفة أعضاء في مجتمع آخر لتغطية نفقاتهم أو الدفع للحصول على مستندات طال انتظارها. وقد استفاد من الإتجار غير المشروع بالعمالة، الذي ينطوي على مبالغ طائلة فُرضت على العمال الأجانب، أفرادٌ من الأسرة الحاكمة وشخصيات مؤثّرة وُصفت بتجار التأشيرات. وقد أدّى ذلك جزئياً إلى اختلال التوازن السكاني وزيادة كراهية الأجانب.

أصبحت الكويت أيضاً مركزاً دولياً لغسيل الأموال، وهي حقيقة التقطتها ونقلتها وسائل الإعلام الدولية. هذه الطبقة الرابعة من الفساد حفّزت وشجعت العديد من الكويتيين بسبب مكائدها والتورط المزعوم لعضو بارز في الأسرة الحاكمة، الذي هو قيد التحقيق حالياً بتهمة تسهيل غسل الأموال. القضية مرتبطة بصندوق الثروة السيادية الماليزي “1ماليزيان دُوفيلوبمن بيرهارد” (Malaysian Development Berhad1) وتدخل عملاء سوريين وإيرانيين الذي يتحدث عن تورّط كويتي دولي. يتم أيضاً التحقيق مع العديد من المؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي لتلقّي ملايين الدولارات من عمليات غسيل أموال مشتبه بها، عن علم أو عن غير قصد.

يجتذب الإختلاس أكبر قدر من الإهتمام بالنظر إلى الأشخاص والمبالغ المرتبطة به. لكن هذه الطبقة الخامسة هي قمة جبل الجليد. لقد تم تحطيم النزاهة المالية للكويت عبر عدد لا يُحصى من المؤسسات والمجالات. وهي تشمل التأمينات الإجتماعية، وصندوق الجيش، ومشتريات الدفاع، و”أموال الضيافة” لوزارة الداخلية، والخطوط الجوية الكويتية، والرياضة، وهيئة الموانئ، والبلديات، والبتروكيماويات، والنفط، والبرلمان، والقائمة تطول. ومما يزيد الطين بلة حقيقة أن القضايا القانونية لا يبدو أنها تُحدّد أو تكشف المذنب. ومع ذلك، لا يتعلق الأمر بغياب الرقابة. هناك إثنتا عشرة هيئة “تُحارب” الفساد، لكن الكثير منها إما بلا أسنان أو عاجز. الواقع إن مكافحة الفساد تُعيقها الهيئات المتداخلة، وعدم كفاية القوانين، والموقف الباهت والضعيف المدفوع بنظرةٍ ضيّقة للفساد.

يستمر ترتيب الكويت في مؤشرات الفساد في التراجع عاماً بعد عام. يجب على البلاد إعادة التفكير في مفهومها للفساد والأدوات المحدودة التي لديها لمكافحته. ينبغي استخدام التعليم والتربية لتعليم الأخلاق للشباب في سياق رؤية متكاملة للفساد. كما يجب على المجتمع والمنظمات غير الحكومية الكشف عن البنية التحتية المُعقّدة للفساد في الممارسات اليومية. إن السياسيين يحتاجون إلى إعادة توجيه حربهم ضد الفساد بحيث تشمل المستويات الخمسة.

أخيراً، يجب على الحكومة أن تُركّز جهودها تحت قيادة مسؤولين مُتمَكّنين ومُفَوَّضين ومُحتَرَمين لمكافحة الفساد. ومن المتوقع تشكيل حكومة جديدة في كانون الأول (ديسمبر). يجب أن تكون مكافحة الفساد هدفها الأساس، بناءً على فهم شامل مُجدَّد ومُتجَدِّد، وإلّا فقد يتلاشى المزاج الحالي لمكافحة الفساد.

إن الفساد في الكويت يُمثّل تهديداً وجودياً للبلاد. إن الفشل في مكافحته ومعالجته يُنذر بالسوء لسمعة الإمارة ورفاهيتها وبقائها.

  • بدر موسى السيف هو زميل غير مقيم في مركز كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت، حيث تتركز أبحاثه على الخليج وشبه الجزيرة العربية. يُمكن متابعته على تويتر على @bmalsaif

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى