لماذا لن يتم إحياء الصفقة النووية الإيرانية

في الذكرى العاشرة لاكتشاف فيروس الكمبيوتر  “ستكسنِت” (Stuxnet)، الذي صمّمته الولايات المتحدة وإسرائيل لاستهداف البرنامج النووي الإيراني، تُواجه الجمهورية الإسلامية موجةً جديدة من أعمال التخريب التي لم يتبنّها أحد. وفي حين تعرّضت المنشآت العسكرية والنووية في بارشين ونطنز للهجوم، فإن هذه الموجة الأخيرة لم تقتصر فقط على المنشآت عالية القيمة والحساسة، فقد شملت حريقاً كبيراً في ميناء بوشهر، وانفجارات في عيادة في طهران وعدد من المواقع الصناعية في جميع أنحاء البلاد، الأمر الذي ترك الشعب الإيراني في حيرة وتساؤل عما يحدث.

 

الشراكة الصينية الإيرانية، إذا حصلت، ستغير الأوضاع في المنطقة

 

بقلم جودا غرونستين*

هزّت سلسلةٌ من الإنفجارات الغامضة إيران على مدى الأسابيع القليلة الماضية، بما في ذلك في مَوقِعَين مَعروفَين أنهما من المواقع العسكرية والنووية. على الرغم من أنه لا يزال من غير الواضح السبب – أو مَن – الذي تسبب في الإنفجارات، فقد أصبح من المنطقي بشكل متزايد الإفتراض بأنها ليست مجرد مصادفات. في غضون ذلك، كشفت وثيقة مُسرَّبة في الأسبوع الفائت، على ما يبدو، الخطوط العريضة لاتفاقية الشراكة الاستراتيجية لمدة 25 عاماً التي يتم التفاوض عليها بين إيران والصين، والتي من خلالها ستُزوّد بكين طهران باستثمارات تشتد الحاجة إليها ورعاية من القوة العظمى مقابل نفطٍ مُخفّضٍ للغاية.

يُسلّط كلا التطورين الضوء على حكمة الإتفاق النووي الإيراني الذي يترنّح الآن، والمعروف رسمياً ب”خطة العمل الشاملة المشتركة”، كما أيضاً على حدوده والعقبات التي تعترض أي جهود مُستقبلية لإحيائه.

الإنفجارات، التي حدث آخرها يوم الإثنين في مصنع للغاز في شرق إيران، وقعت في العديد من منشآت الكهرباء والطاقة وكذلك في مواقع صناعية أخرى. لكن إثنين منها على وجه الخصوص لفتا الإنتباه الدولي، أحدهما في منشأة تُستخدَم لإنتاج الوقود السائل في برنامج الصواريخ البالستية الإيراني، والآخر ألحق أضراراً بالغة بمبنى في منشأة “نطنز” النووية المُستخدَمة لتجميع أجهزة الطرد المركزي من الجيل التالي لبرنامج تخصيب اليورانيوم الإيراني.

من المنطقي أن نفترض أنه إذا كانت الإنفجارات من صنع قوةٍ مُعادية أجنبية، فمن المرجح أن تكون هذه القوة المُعادية إما إسرائيل أو الولايات المتحدة، أو أن الإثنتين تعملان معاً.

إذا كان الأمر كذلك، فما الذي يحاولان تحقيقه؟ لقد انخرط كلاهما أخيراً في مناوشات على مستوى منخفض مع إيران، والتي لامست، لكنها تجنّبت بطريقة ما، مستوى الأعمال العدائية المفتوحة.  بالنسبة إلى الولايات المتحدة، كان هناك تبادل إطلاق النار في العراق في كانون الأول (ديسمبر) 2019 وكانون الثاني (يناير) 2020، والذي بلغ ذروته في مقتل قائد فيلق “القدس” الإيراني الجنرال قاسم سليماني. وبالنسبة إلى إسرائيل، تبادلت الهجمات الإلكترونية السيبرانية مع الجمهورية الإسلامية، كما استهدفت مراراً القوات الإيرانية ووكلاءها في سوريا بغارات جوية لفرض منطقة عازلة بالقرب من حدودها (كان آخرها يوم الإثنين الفائت).

لذا، إذا كانت الولايات المتحدة و/ أو إسرائيل وراء التفجيرات، فإن حملة التخريب الحالية يُمكن أن تكون ببساطة امتداداً لتلك التوترات. ولكن ما إذا كان المقصود هو استمرار الضربات المُعَيَّرة والمدروسة أو غير المباشرة، أو التصعيد، فهو أمر غير واضح. لقد أشارت مقالة نشرتها صحيفة “نيويورك تايمز” أخيراً حول الإنفجار في نطنز، إلى أن ردّ إيران المحدود على مقتل سليماني ربما شجّع صناع السياسة الأميركيين والإسرائيليين، وخلق “حافزاً لمزيد من العمليات ضدها”. سيكون ذلك تفسيراً محفوفاً بالمخاطر لعدم تصعيد إيران إنقاذاً لماء الوجه بعد الضربة التي قتلت سليماني، والتي كانت تُمثّل بالفعل تصعيداً أميركياً كبيراً. من الممكن أن تكون إيران إرتدعت بشكل فعّال، ولكن إذا لم يكن الأمر كذلك، فمن المرجح أن تتجنّب طهران منحدراً مماثلاً الآن لصالح توجيه ضربة تصعيدية تُثير مرة أخرى خطر الصراع المفتوح.

يُمكن أن تكون الإنفجارات أيضاً جهداً غير ذي صلة بتراجع وتدمير البرنامج النووي الإيراني، ووفقًا لـ “إيلي لايك” (Eli Lake)، هي “شراء المزيد من الوقت لثورة ديموقراطية” في إيران. هناك احتمال آخر هو أن الحملة هي محاولة لإذلال القيادة الإيرانية بين جمهورها المحلي، حيث تدل على عدم قدرتها على حماية المنشآت العسكرية ذات الأمن الأعلى في البلاد من التخريب الأجنبي، وبالتالي تسريع الثورة الديموقراطية نفسها.

لا يُمكن استبعاد ثورة ديموقراطية في إيران، كاحتمالٍ بالطبع، لكن قلة قليلة من مراقبي إيران ذوي الرؤية الواضحة تعتقد أن مثل هذه الثورة وشيكة أو مُحتَملة. والأكثر احتمالاً في مواجهة أي انتفاضة شعبية سيكون حملة دموية من قبل نظام أظهر مراراً إستعداده لاستخدام العنف للإحتفاظ بقبضته على السلطة. حتى لو سقط النظام الحالي، فإن النتائج المُرجّحة ستكون استبداله بنظامٍ أسوأ، أو أنه يترك في أعقابه فراغاً آخر مُزعزعاً للإستقرار في الشرق الأوسط.

بغض النظر عن تفسير حملة التخريب الأخيرة، إذا كانت هذه الانفجارات كذلك، فلا شيء عنها يشير إلى أن الكثير من التفكير قد ذهب حول أهدافها وآثارها في المدى الطويل. وبدلاً، فإنها تُشبه إلى حد كبير نهج “جز العشب” الإسرائيلي تجاه غزة وأخيراً سوريا، إلّا أنه هذه المرة يستهدف إيران على أرضها: ضربات دورية لإعادة الوضع الراهن، من دون أي جهد لمعالجة الدوافع الأساسية للصراع .

والأسوأ من ذلك، أن الإنفجارات تكشف مرة أخرى مدى قصر نظر قرار إدارة ترامب بالإنسحاب من الإتفاق النووي الإيراني في 2018. كانت منشأة نطنز النووية التي لحقت بها أضرار بالغة في 2 تموز (يوليو) موقعاً مُعلَناً يخضع لعمليات التفتيش الوقائية من قبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية كجزء من خطة العمل الشاملة المشتركة. وعلى الرغم من أن الضربات المستقبلية قد تستمر في استهداف مواقع غير معروفة حتى الآن، إلّا أنه لا يوجد شيء بخصوص التفجيرات يشير إلى أن إيران كانت تخفي أياً من أنشطتها النووية عن مفتشي الوكالة. ووفقاً لكل الإشارات، كانت خطة العمل الشاملة المشتركة تعمل على تحقيق هدفها الوحيد – فرض قيود شديدة على قدرة إيران للسعي إلى امتلاك سلاح نووي – حتى قرر الرئيس دونالد ترامب الإنسحاب من جانب واحد منه.

في الوقت نفسه، يُوضّح مَرفَق “بارشين” العسكري، الذي كان أول من عانى من انفجارٍ في 26 حزيران (يونيو)، حدود الإتفاق النووي. مثل نطنز، هو مألوفٌ للمراقبين الغربيين، ولكنه كجزء من برنامج الصواريخ الباليستية الإيراني، فقد ظل خارج حدود خطة العمل الشاملة المشتركة. كان المنطق في ذلك الوقت هو أن اقتصار المفاوضات على البُعد النووي للتوترات بين الولايات المتحدة وإيران كان السبيل الوحيد للتوصل إلى اتفاق لإزالة أخطر تهديد – إيران مسلحة نووياً – من على الطاولة. على الرغم من أنه لم يتم التعبير عنه بشكل صريح في ذلك الوقت، كان من المأمول أن تعمل الاتفاقية النووية بعد ذلك كإجراء لبناء الثقة التي قد تُسهّل بمرور الوقت الحوار بين الولايات المتحدة وإيران لحل خلافاتهما العديدة الأخرى.

أثبتت الأحداث اللاحقة في العراق وسوريا مدى صعوبة ذلك حتى في أفضل الظروف، مع وجود إدارات في كل من واشنطن وطهران منفتحة على إمكانية تحسين العلاقات. وسرعان ما وضع ترامب حداً لأي فرصة لحدوث ذلك. لكن برنامج الصواريخ الإيراني كان نقطة شائكة رئيسة حتى خلال فترة شهر العسل القصيرة لخطة العمل الشاملة المشتركة، وهو تذكير ملموس بانعدام الثقة بين الجانبين وتصورات التهديد المتباينة على نطاق واسع. وهذا يظهر بشكل بارز في حملة تخريبية التي يبدو البرنامج النووي الإيراني في مرماها ليس مفاجئاً.

إذا افترضنا أن إيران تواصل ضبط النفس حتى الإنتخابات الرئاسية الأميركية في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، وافتراضاً أيضاً أن الإنتخابات فاز بها المرشح الديموقراطي جو بايدن، فما مدى احتمالية تحقيق نيته المُعلَنة بإعادة الولايات المتحدة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة؟ هذا يحدث فيما تأتي على الخط الشراكة الاستراتيجية بين إيران والصين. وفقاً لوثيقة مُسَرَّبة حصلت عليها صحيفة “نيويورك تايمز”، فإن الصفقة ستُغيّر بالتأكيد اللعبة إذا تم الانتهاء من الإتفاقية ووُضعت في التنفيذ. ستحصل إيران على مبالغ ضخمة من الإستثمار في قطاعَي الإتصالات والمصارف، وفي البنية التحتية للموانئ والسكك الحديدية، بالإضافة إلى التعاون العسكري في تطوير الأسلحة والمناورات المشتركة. من جانبها، ستكون للصين حصة بارزة في الإقتصاد الإيراني وتضمن إمدادات النفط، بأسعار مُخفّضة للغاية.

ولكن لأسباب مختلفة، فإن الشراكة، التي تم اقتراحها في الأصل في العام 2016، تواجه عقبات رئيسة. لسبب واحد، إنها تُواجه بالفعل معارضة داخل إيران بسبب التصوّر بأن البلاد ستُحاصَر، وهو ما يُنظر إليه على نطاق عام على أنه علاقة غير متوازنة مع الصين. من ناحية أخرى، لدى الصين تاريخ طويل من المبالغة في التسعير وقلة التسليم في مثل هذه الصفقات. أضف إلى ذلك حقيقة أن الصين كانت مترددة تاريخياً في انتهاك العقوبات الأميركية، وهي أقل احتمالاً للقيام بذلك الآن نظراً إلى الحالة السيئة الحالية للعلاقات الأميركية-الصينية، لذا يصبح من الصعب تخيّل أيّ من الطرفين قد يبذل جهداً كبيراً لدفع الإتفاق.

لكن من منظور أميركي، فإن مجرد إمكانية إقامة شراكة بين إيران والصين تجعل خطة العمل الشاملة المشتركة أقل جاذبية، حتى لمُدافعٍ عن الإتفاق النووي مثل بايدن، لأنه يؤكد على المخاطر التي يشكلها تطبيع إيران، وتحريرها من التهديد المستمر للعقوبات الأميركية، على المصالح الأميركية. لا شيء يتعلق بالشراكة سيُخالف خطة العمل الشاملة المشترك، ما يعني أنه لن يكون أمام واشنطن خيار سوى التراجع ومشاهدة منافسها العالمي الرئيس وأسوأ خصومها في الشرق الأوسط يتحالفان. وهذا أمرٌ غير مُستساغ بشكل أكبر بالنظر إلى الإجماع على “الحزم مع الصين” من الحزبَين الجمهوري والديموقراطي والذي يتم ترسيخه الآن في واشنطن – وهو موقفٌ تبنّاه بايدن أيضاً.

بالطبع، كان هذا دائماً هو القرص الأكثر مرارة التي سيتعين على الولايات المتحدة ابتلاعه في حالة نجاح الصفقة النووية: مراقبة إيران وهي تستفيد من مزايا الإتفاق لمواصلة تحدّي مصالحها. بالنظر إلى كل ما حدث منذ التوقيع على الإتفاقية، من الصعب التخيّل بأن أي رئيس أميركي سيستثمر رأسَ مال سياسي كبير لبث الروح في الصفقة وإعادتها إلى الحياة.

  • جودا غرونشتاين هو رئيس تحرير “وورلد بوليتيك ريفيو” (World Politics Review). يمكن متابعته على تويتر: @Judah_Grunstein.
  • كُتِبَ المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى