الشَرقُ يَخذُلُ إيران

علقت طهران آمالها الإقتصادية على الصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية، لكن تلك الدول تركت الجمهورية الإسلامية تنهار إلى حدٍّ ما، ولم تكن على مستوى الآمال.

آية الله علي خامنئي: التطلع إلى الشرق هو هدف استراتيجي له

 

بقلم أليكس فاتانكا*

لدى المسؤولين في طهران الكثير من الهموم التي تَقضّ مضاجعهم وتُقلقهم. لكنهم مُنزعجون بشكل خاص من السرعة التي نبذت بها الدول الآسيوية إيران كشريكٍ تجاري. كانت الجمهورية الإسلامية تأمل في أن يُنقذَ الشرق اقتصاد البلاد من وابل العقوبات التي فرضتها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب. في أوائل العام 2018، في الوقت الذي كان ترامب وفريقه على وشك الكشف عن نظام العقوبات الأكثر عقاباً المفروض على دولة، حثّ المرشد الأعلى علي خامنئي طهران صراحة على التطلع إلى الشرق بحثاً عن شركاء تجاريين. إن سجل خامنئي الحافل في تشويه سمعة الغرب طويل، حيث يحتقر آية الله بانتظام أي مسؤول في طهران يختلف معه في هذا المجال وينعته بأنه مُغفّل وساذج أو “غير عاقل”. لكن البديل حتى الآن أثبت أنه لا شيء سوى مُجرّد حلم. ومع ذلك، يصرّ خامنئي على مهزلة خطة الإنقاذ الموعودة.

خلال فترة رئاسة ترامب، تباينت علاقات إيران مع الدول الآسيوية، ولكن لا توجد علامة على نجاحٍ واضحٍ في أيّ مكان. من بين الشركاء التجاريين السابقين للبلاد، تبرز كوريا الجنوبية والهند كأكثر الدول حرصاً على احترام العقوبات الأميركية على إيران. فقد توقّفتا عن شراء النفط الإيراني، وأوقفتا أي استثمارات طويلة الأجل لديهما في إيران، ورفضتا إلى حدّ ما بَيعَ أي شيء للجمهورية الإسلامية. في حزيران (يونيو)، بعد عامين من المفاوضات، أرسلت كوريا الجنوبية أخيراً إلى إيران شحنةً من السلع الإنسانية بقيمة 500,000 دولار. ويُقال أن شحنة أخرى بقيمة 2 مليوني دولار قيد التنفيذ، ولكن فقط إذا حصلت سيول على موافقة واشنطن أولاً.

كما أن طهران غاضبة من أن سيول ما زالت ترفض دفع حوالي 7 مليارات دولار مقابل النفط الذي تم تصديره إلى كوريا الجنوبية قبل تنفيذ العقوبات الأميركية في أواخر العام 2018. وسائل الإعلام الإيرانية مليئة بالعناوين الرئيسة التي تُطالب ليس فقط بأن يدفع الكوريون ولكن أيضاً بأن يدفعوا رسوماً وفائدة على الإحتفاظ بالمال في بنكين كوريين جنوبيين. طلب الرئيس الإيراني حسن روحاني من حكومته اتخاذ إجراءات قانونية ضد سيول لردع الدول الأخرى عن التصرّف بالطريقة عينها.

لم تكن لاحتجاجات إيران سوى نتائج قليلة. عندما أعلنت شركتا “سامسونغ” (Samsung) و”أل جي” (LG) الكوريتان الجنوبيتان في العام 2019 أنهما ستتوقّفان عن العمل في إيران، حذّرهما المسؤولون في طهران من أن العودة إلى السوق الإيرانية قد لا تكون بهذه السهولة. قال أحدهم: “المنطق التجاري يفرض أن الحفاظ على السوق أسهل من إعادة دخول السوق بمجرد مغادرتك”. ومع ذلك، غادر الكوريون الجنوبيون. على الرغم من أن إيران تُمثّل سوقاً كبيرة، إلّا أن الولايات المتحدة تُمثل بالطبع سوقاً أكبر.

كوريا الجنوبية ليست وحدها. خذ الهند. صدّت نيودلهي في السنوات الأخيرة طهران عند كل مُنعَطَفٍ حاسم. عندما أعادت إدارة ترامب فرض العقوبات على إيران لأول مرة في العام 2018، سعى الهنود أولاً إلى الضغط من أجل صفقة صعبة مع طهران. عانت الهند تاريخياً من عجز تجاري كبير مع الجمهورية الإسلامية. في العام 2018، على سبيل المثال، بلغت وارداتها حوالي 13 مليار دولار من إيران، لكن صادراتها إلى الأخيرة بلغت 3 مليارات دولار فقط. وكانت نيودلهي تتطلّع إلى معالجة هذا الخلل. عرض الهنود مُبادلة النفط مقابل بضائع. لقد كانت نكسة كبيرة لطهران، لأن مثل هذا الترتيب كان سيُحرمها من الحصول على العملات الأجنبية التي تشتد الحاجة إليها. في النهاية، كان من المستحيل على الحكومة الهندية أن تقاوم الضغط الأميركي، وأدى ذلك إلى القطع مع إيران تماماً.

حتى أن الولايات المتحدة أعطت نيودلهي تنازلاً حتى تتمكن من الإستمرار كمستثمرٍ ومُشَغّل في تطوير ميناء إيران العميق في تشابهار على خليج عُمان، لكن الهنود ما زالوا يترددون في تنفيذ هذا المشروع. لطالما وُصِفَت تشابهار بأنها قناة الهند الاستراتيجية للأسواق في أفغانستان وآسيا الوسطى وكمُواجِهة إقليمية لميناء غوادار الذي ترعاه الصين في باكستان. لكن يبدو أن الهند كانت لديها أفكار أخرى أدّت إلى ترددها، الأمر الذي أثار غضب طهران بشكل واضح. رداً على ذلك، بدأ خامنئي نفسه إصدار انتقادات للسياسات الهندية في كشمير، وهو صراعٌ كان تجاهَله في الماضي إلى حدّ كبير.

من بين شركاء إيران التجاريين الآخرين في الشرق اليابان والصين اللتان خذلتاها لأسبابٍ مختلفة. في حالة اليابان، أوقفت طوكيو التجارة مع إيران بسرعة امتثالاً للعقوبات الأميركية. ومع ذلك، فإن الحكومة، كما يؤكد الكتاب الجديد لمستشار الأمن القومي السابق جون بولتون، كانت سعيدة في الوقت نفسه بلعب دور وسيط محتمل بين طهران وواشنطن. ونظراً إلى أن اليابان هي حليفٌ كبير للولايات المتحدة، فإن طهران لم تُعلّق أبداً أملاً كبيراً في الحفاظ على التجارة مع طوكيو، ولكن يبدو أنها تُقدّر حقاً الجهود اليابانية التي تهدف إلى حلٍّ ديبلوماسي. كان هذا واضحاً في قرار روحاني القيام بزيارة دولة إلى طوكيو في كانون الأول (ديسمبر) 2019، وهي الأولى لرئيس إيراني منذ العام 2000. حتى مع فشل الوساطة اليابانية في تحقيق اختراق، تميّزت معالجة طوكيو للمواجهة الأميركية-الإيرانية بأنها ملاحة ديبلوماسية ماهرة إلى حد ما.

في الوقت عينه، في نظر طهران، تحوّلت الصين من كونها رصاصة فضية مُحتَمَلة إلى أُمّ جميع خيبات الأمل. في أيار (مايو) 2019، زار وزير الخارجية محمد جواد ظريف الصين في مهمة ذات شقين. طلب ظريف من بكين المساعدة على إنقاذ الإتفاق النووي الإيراني لعام 2015، الذي انسحبت منه إدارة ترامب في أيار (مايو) 2018. كما دفع الصينيين إلى الإستمرار في شراء نفط إيران وتجاهل العقوبات الأميركية. في البداية بدا وكأن رسالة ظريف لقيت تقبّلاً واستقبالاً حسناً. وخلال وجوده في بكين، أُفيد أن ناقلة نفط إيرانية سلّمت حمولتها إلى ميناء صيني. كانت هذه هي المرة الأولى التي يصل فيها نفط إيراني إلى الصين منذ أن وضعت إدارة ترامب حظراً تاماً على جميع صادرات النفط الإيرانية ابتداءً من أواخر العام 2018.

قبل أسابيع قليلة فقط، في مؤتمر ميونيخ الأمني ​​في كانون الثاني (يناير) 2019، حذّر ظريف الأوروبيين من التخلّي عن التجارة مع إيران تحت ضغط الولايات المتحدة. وكان الأوروبيون أطلقوا في ذلك الشهر “إنستيكس” (Instex)، وهي آلية لتسهيل التجارة مع إيران، ولكن كان من الواضح بالفعل أن المستثمرين والشركات الأوروبية كانوا يتركون إيران. فقط الصين يُمكن أن تكون المُنقذ الاقتصادي لإيران، أو هكذا ذهب التفكير في طهران. في الواقع، بالنسبة إلى العام 2019، إنخفضت التجارة بين إيران والصين بنسبة الثلث إلى ما مجموعه حوالي 23 مليار دولار. كلٌّ من إيران والصين تصدران أقل لبعضهما البعض.

تم الكشف عن البيانات المُثيرة للقلق في وقت بات الجمهور الإيراني مُعادياً للصين بشكل متزايد بسبب فيروس “كوفيد-19″، الذي وصل إلى إيران من الصين في وقت ما في أواخر العام 2019. أصبحت الحالة متوترة لدرجة أن سفير الصين لدى طهران، “تشانغ هوا” (Chang Hua)، كان عليه أن يكتب رسالة مفتوحة. وأوضح أن الإنكماش في التجارة كان بسبب أزمة جائحة “كورونا” في الصين وأنه سيكون مؤقتاً. ومنذ ذلك الحين، قام السفير الصيني بتذكير الجمهور الإيراني بشكل دوري بأن الصين لديها خطط إستراتيجية طويلة المدى لإيران، وقال من المحتم أن تكون بلاده دولة ستهيمن في النهاية على الإقتصاد العالمي.

ومع ذلك، في حين أن الصين لديها مُدافع قوي في طهران هو خامنئي، هناك أصواتٌ رسمية في صفوف الطبقة الحاكمة تُشكّك في المنطق وراء وضع إيران كل بيضها في السلة الصينية. يُثير اعتماد إيران على بكين أسئلة صعبة حول عدم قدرة طهران على المخاطرة بالإساءة إلى  شريكتها. ومع ذلك، فإن المؤسستين الأكثر دعماً وتأييداً للصين في إيران هما مكتب المرشد الأعلى وجنوده المسلحين في فيلق الحرس الثوري الإسلامي، وهما أهم مركزين للسلطة في البلاد. هذا هو السبب في أن الصين تشعر بالراحة في وضعها كشريك أجنبي لا مثيل له لطهران.

ليس هناك شك في أن علاقة إيران مع الصين أكبر من مجرد تجارة. كما هو واضح في تصويت الصين ضد لوم الجمهورية الإسلامية في الوكالة الدولية للطاقة الذرية في 19 حزيران (يونيو)، فإن لدى إيران والصين مشاركة متعددة المستويات. وعلى الأخص، يرى كلٌّ منهما الآخر على أنه ورقة يجب أن تُلعَب في مواجهات الحرب مع الولايات المتحدة. ولكن حتى في الحدث غير المُحتَمل الذي تأتي فيه بكين إلى إيران لإنقاذ اقتصادها من العقوبات الأميركية، فإن هذا لن يكون بمثابة ملاذ إيراني ناجح في ما يسمى بالشرق كما دعا خامنئي لسنوات. إنها حالة إخضاع إيران للصين ومصالحها. وبخلاف ذلك، ليس هناك ما يشير إلى سياسة إيرانية فعالة تجاه الشرق. هناك الكثير من المُحللين والمعلقين في طهران الذين يُدركون هذا الواقع الصعب، لكن القليل منهم فقط هم على استعداد لإخراج أعناقهم والإعلان عن ذلك علانية وبصوت عال. بعد كل شيء، الرقابة الذاتية هي أسلوب حياة للمسؤولين الإيرانيين، وقلّة قليلة منهم تجرؤ على التشكيك في الحكمة المزعومة لمحور آية الله خامنئي الذي يطمح إليه في الشرق.

  • أليكس فاتانكا هو زميل كبير ومدير برنامج إيران في معهد الشرق الأوسط في واشنطن. كتابه المقبل هو “معركة آيات الله في إيران: الولايات المتحدة والسياسة الخارجية والتنافس السياسي منذ العام 1979”. يُمكن متابعته على تويتر:AlexVatanka@
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى