بُركانُ أزمات… وصدمةٌ سلبية!
بقلم فيوليت غزال البلعة*
كان لبنان في حاجة إلى صدمةٍ إيجابية تَنتَشِله من براثنِ الإنهيار الشامل، وتدفعه على طريق الإنقاذ رغم العراقيل التي تعترض مسيرته الطويلة. لكن، منذ ليل السبت الماضي، فرض العامل الأمني نفسه على سلّة الضغوط، ليخلط أوراق الأولويّات المُتزاحمة، وليؤشّر إلى بداية مرحلة حادة قد تحرف لبنان عن هويته وطبيعة اقتصاده ومجتمعه.
غابت السلطة عن مواجهة أدوات “الفتنة” وضبط نشاطها الذي إحتلّ الشارع وأبقاه مفتوحاً على ما حُقِن به من جرعات طائفية وحزبية كادت تجرّ لبنان إلى “حرب أهلية” أطلّت بشعارات وبمشاريع وبمخاطر جديدة. المشهد السياسي اقتصر على حفلة استنكارات وتحذيرات ودعوات لوأد الفتنة “ظاهريا”. فهل هذا كافٍ لطمأنة المخاوف ومنع الفوضى، فيما يستعدّ لبنان لتسريع خطاه نحو المجتمع الدولي تحت شعار الإنقاذ المالي؟
صدمةٌ سلبية لم تكن هناك حاجة إليها في هذا الوقت. فالمفاوضات مع صندوق النقد ما زالت في بدايتها، واجتماع اليوم سيُناقش أرقاماً مُوحَّدة لتقديرات الخسائر المالية المطلوب تغطيتها بحزمة الـ10 مليارات دولار من “صندوق خبير” في إعانة الدول التي تمرّ في حال عسر مالي. وعين لبنان ترقب أيضاً مآل “سيدر” بعد أن يضع مندرجاته قيد التنفيذ ليضمّ الـ11 مليار دولار الى ما سيُحصّله من صندوق النقد، فيُطلق عملية الإنقاذ بنحو 20 مليار دولار. هي بداية مقبولة إن نجحت السلطة في إقناع المفاوضين بجديتها في تطبيق سلّة إصلاحية مُوازية لمصير المليارات.
حتى اليوم، لم يكتمل مشهد الشروط الإقتصادية والمالية التي يطلبها المجتمع الدولي. فلا الإصلاحات المالية والقضائية والإدارية تحرّرت من نظام المُحاصصة، ولا قطاع الكهرباء تخلّى عن مطامع الصفقات، فيما تحوّل قطاع الإتصالات – بعد تعيين مجلسَي إدارة “ألفا” و”تاتش”- إلى نموذج طازج على قرار تجاهل كل الإنذارات والتنبيهات.
تحرُّك الشارع على وقع ثورة “6/6” السبت الماضي، إنطلق من بركان الأزمات. فسلّة المطالب انتفخت منذ تحرّك “17 تشرين الأول/أكتوبر”، وباتت أكثر خطورة مع تفاقم التداعيات التي تحصيها الأرقام بحجم الإفلاسات والبطالة والغلاء. أما الدولار الذي بدأ يستكين لمنصة مصرف لبنان، فكان يحتاج إلى مشهد أكثر استقراراً لكي يلجم جنونه. لكنه اليوم، قد لا يُلام على جنوحه مُجَدّداً نحو التهام المزيد من الليرات تأثراً باهتزاز الأمن، الذي حلّ ضيفاً ثقيلاً على تردّدات ما زالت مفتوحة على معالجاتٍ عاصية على الحلول، وأقربها القرار السياسي القادر على لجم اندفاعة البلاد نحو السقوط.
هل هي الحكومة المناسبة للمرحلة؟
سؤالٌ يتردّد منذ شهر بحثاً عن بدائل. لكن، ليس مهماً تغيير شكل الحكومة، بل الأهم برنامجها الذي يفترض أن يقوم على رفض إدخال لبنان في الفوضى الإقتصادية والمالية والأمنية، إنطلاقا من:
- حكومة تصلح ما أفسدته في مفاوضاتها مع صندوق النقد بعد ترتيب العلاقة مع أهل البيت. فالمسارعة إلى تجاهل المواقف (مصرف لبنان والمصارف) والتفرّد بإعداد “ورقة الخسائر”، هو خطأ تاريخي لحكومة الإختصاصيين. والتفاوض مع وفد لبناني مُوَحَّد ومُنسجم حول سيناريو الإنقاذ، أفضل بكثير من “شتات” يتسابق فيه المستشارون على فرض نظريات غريبة عن طبيعة آليات الحلول المُتعارَف عليها.
- حكومة تترك للشارع الشعبي أن يتنفّس بحرية ويتحرّك من دون دُخلاء، أقلّه إحتجاجاً على أدائها الذي دفعه إلى مستويات غير مسبوقة من المخاطر المفتوحة الأفق على خيارات أحلاها مرّ. فحرية التعبير مُصانة في الدستور والقوانين، وقدسية الإحتجاج مشروعة طالما أن مفاعيل السياسات تفوق القدرة على التحمّل. وما غلاء المعيشة وفقدان الوظائف سوى نماذج مُبرَّرة لقلق على مستقبل لم يعد آمنا بكل المقاييس.
- حكومة تترك لمصرف لبنان أن يَرتَئِي، وفقاً لإستقلاليته وصلاحياته، ما يراه مُناسباً من آليات لضبط تفلّت الدولار من سوق صيرفة فرّخت أسواقاً سوداء ومُضاربات مُمَنهجة، وفتحت قنوات إنعاش الليرة السورية التي عادت إلى الوهن منذ انطلقت المنصة الإلكترونية في منتصف الأسبوع الماضي، وعجزت عن مجاراة إرتفاع الدولار إلى 2,800 ليرة سورية في نهاية الأسبوع.
- حكومة تترك للمصارف أن تُقرّر بنفسها ما يُمكن أن يتلاءم والمرحلة، وإن كانت مسؤولة عن قسمٍ من نتائجها. فإعادة الرسملة عنوانٌ لمشاريع دمجٍ طَوعية تفرضها المعايير والنُظُم التي أعقبت الأزمة، وليس بقرار قسري من حكومة تتطلع إلى إلغاء قطاعٍ بشطبة قلم كرمى لعيون خمسة مصارف جديدة ستؤسس بأموال جديدة لن تأتي من خارج أنهكته “كورونا”، ليكون البديل من داخل ما زال يملك ما يُؤهله لدخول الساح المصرفية من باب المُحاصصة السياسية. شكوكٌ تبقى مُحقّة ما لم يصدر ما يدحضها وينفي الهمس في كواليس المصارف المشغولة بالخط المباشر الذي فتحته على واشنطن لفرملة مخطط تدميري يستهدفها.
- حكومة تُناقش مع مصرف لبنان والمصارف والإقتصاديين، مفاعيل “قانون قيصر” تداركاً لأضرار قد تقضي على ما بقي “سالما” بقوة الإستمرار، من مكوّنات النمو. وهذا أفضل من ترك القطاع المالي يواجه مفاعيل العقوبات، وخصوصاً بعدما تردّد أن اغتيال المدير في “بنك بيبلوس” يأتي ضمن قرارٍ بتصفية خمسة مصرفيين زوّدوا الخزانة الأميركية بمعلومات تتعلّق بتبييض أموال لـ”حزب الله”.
ثورة “6/6” لن تقفل الباب على تحركاتها بعد ليل السبت. إذ ستندفع بقوة القهر والذلّ واليأس الذي لا يبدو أن السلطة في وارد تخفيفه رأفة بمَن استحالت عليهم الهجرة هرباً من فوضى الأزمات والفشل في إدارة البلاد… المرحلة إقتصادية ومالية بامتياز، والدولارات مشروطة بالإصلاحات وبدعم مصرف لبنان وليس فقط بوقف الحرب على حاكمه. صحيح أن “بركان الأزمات” يتطلّب صدمة، لكن يُفترَض ألّا تكون سلبية…
- فيوليت غزال البلعة هي صحافية وباحثة إقتصادية لبنانية.يُمكن متابعتها على الموقع الإلكتروني التالي والذي يُنشَر عليه في الوقت نفسه هذا المقال: arabeconomicnews.com