معالجةُ جهل السياسة بمعرفة التاريخ

بقلم هنري زغيب*

كانت تُمضي أَسابيعَ نقاهة طويلة من كُسُورٍ بالغة سبَّبَتْها حادثة تزلُّجها في سويسرا (ميلاد 2013)، فراحت تغذِّي ثقافتها بقراءة كتابٍ ضخمٍ من 1192 صفحةً مُكثَّفةَ الوقائع والوثائق والتواريخ. عنوانه: “تغيُّرُ العالم في القرن التاسع عشر”. وحين أَنجزَت قراءتَه كانت تجمَّعَت لديها حزمةُ أَوراق صغيرة دوَّنت عليها ملاحظاتها وبضعةَ أَسئلة.

بعد أَشهرٍ حلَّ عيدُ ميلادها الستُّون (17 تموز/يوليو 2014). وعوَض أَن تحتفل به كعادتها مع أَصدقائها الأَقْربين، دعَت معهم إِلى بيتها ضيفًا استثنائيًّا: مؤَلِّف ذلك الكتاب. وأَضمرَت لا أَن تسأَله ما كانت دوَّنَت في أَوراقها بل أَن يُلقي على زوَّارها من فصول كتابه محاضرةً من 60 دقيقة، يجيبُ في نهايتها عن أَسئلتِها وأَسئلة سائر المدعُوين. وهكذا كان.

تلك السيدة: المستشارة الأَلمانية أَنْـغيِلا مُيرْكِل، وذاك المؤَلِّف: يُورغِن أُسْتِرْهَامِل (مؤَرخ أَلماني، مولود سنة 1952، متخصِّص في تاريخ العالم).

أُمسيَتَئِذٍ استهلَّ كلامه بأَنه سياسيًّا ليس من حزب صاحبة الدعوة (الإتحاد الديموقراطي المسيحي) بل من التيَّار المعارض (الحزب الديموقراطي الإشتراكي) لكنه يكُنُّ لـ”السيدة المستشارة احترامًا عاليًا، وإِعجابًا بقيادتها البلاد، وشُكرانًا خاصًّا لقراءَتها كاملَ كتابي الضخم، على ما فيه من دقائق وتفاصيل وتعقيدات الخرائط والتوثيق”.

عند نهاية محاضرته وقَفَت السيدة مُيرْكِل تصرِّح أَنها شديدةُ التأَثُّر بكتابه، وأَنها تعلَّمَت منه الكثير، خصوصًا “مقاربته نظريةَ التاريخ وتبدُّلات الزمن عند كلِّ عصر يتغيَّر فيه العالم بجميع مفاصله، وتحديدًا معالجته عوامل العَولَمة وموجات الهجرة وتقدُّم التكنولوجيا”. وأَشارت إِلى تَبَنِّيها فكرَه عند اتخاذها موقفَ بلادها من الأَزمة المالية الخانقة في اليونان. وركَّزَت على “صوابية ما جاء في أَحد فصول كتابه عن أَن أُوروﭘـا في القرن التاسع عشر تفوَّقَت على الصين اقتصاديًّا بتوحيد عمْلتها عبر اتحاد النقد اللاتيني سنة 1866 فيما كانت الصين متعثِّرةً بالازدواجية في معدن النقد بين الفضّي والنحاسي”.

تلك الأُمسية، غادر المدعوُّون تتردَّد في أَسماعهم كلماتُ هذا المؤَرِّخ عن “تغيُّرٍ جذْري حدَثَ في العالم لـحرّية التنقُّل بين الدول والقارَّات حتى نهاية الثلث الثاني من القرن التاسع عشر، حين أَخَذَت تُولَد تدابيرُ جوازات السفَر وإِجراءاتُ نقاط المراقبة على الحدود وتعرِفاتُ التبادل التجاري بين الدوَل، وهي لم تظهر إِلَّا قُبَيل الاقتراب من مطلع القرن العشرين”.

الشاهدُ من كلِّ هذا الأَعلاه أَنَّ المستشارة الأَلمانية، وهي مكبَّلَةٌ في فراشها لم يُكبِّلْها الكسَل، بل أَنجزَت تَـمَلِّي 1192 صفحة  قرأَتْها كلَّها وفهمَت واستفاضَت بالمعرفة ودوَّنَت وحلَّلَت وسأَلَت حتى شكَّلَت قراءَتُها جُزءًا من قناعاتٍ أَملَت عليها ملامحَ راسخةً من سياستها.

هكذا الحاكمُ التاريخيّ: يَعمل لترسيخ أُسُس دولتِه لا حُكْمِه، ولنَفْع بَلَده لا حاشيته ومحاسيبه وتيَّاره السياسي، ويَنهَل من طاقات العارفين بين موهوبي وطَنِه ومثقَّفيه، فيستخلصُ منهم ويوظِّف خُلاصاتهم في خلاص بلاده والإِخلاص لأَبنائِها وتاريخِها الساطع.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني مخضرم. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه: henrizoghaib.com
  • يَصدُر هذا المقال في “أَسواق العرب” تَوَازيًا مع صُدُوره في صحيفة “النهار” – بيروت.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى