كانَ صَرْحًا من مِداد

رشيد درباس*

منذُ أن قلَّدَه الهوى الناصري ولايةَ الإشراف على مجلة “الحرية”، أحسستُ أنها مرحلةٌ انتقالية إلى فضاءٍ أوسع، لأنَّ موهبته شاسعة يضيق عنها وبها الالتزام الحزبي الصارم. إبن مهنة لم يتلقَّ فيها دروسًا أكاديمية، وصاحبُ هوايةٍ وقعَت، لحسن حظها، في أحضانِ أفذاذٍ من مثل رياض طه وسعيد فريحة وسليم اللوزي، وعبرت به إلى علاقاتٍ ثرية مع أرفع الأقلام المصرية شَأوًا وأرقاها أسلوبًا، وأغزرها ثقافة؛ حتى ليأخذني الرأي إلى أنه ابنٌ شرعيٌّ متفوِّقٌ لتلاقح الصحافتَين اللبنانية والمصرية، منذ يعقوب صروف وجرجي زيدان وأولاد تقلا وأنطوان الجميِّل وروز اليوسف الذين عجنوا دقيقهم بماءِ النيل، وقدموا مآكلَ من ثمارِ “الغيط” وحلاوات أفكار أستاذ الجيل أحمد لطفي السيِّد، وعميد الأدب طه حسين وكتابات العقّاد والمازني، ومن ثمَّ فكري أباظة، وإحسان عبد القدوس، وأحمد بهاء الدين، ولويس عوض… إلى قائمةٍ لا تنتهي. فلقد تَلَبّسَ طلال سلمان الهوية المصرية، وأتقنَ لهجتها، فصارَ يخشاه حتى محمود السعدني، ألذع الأقلام المصرية قاطبة.

دخل إلى محرابِ محمد حسنين هيكل خاشعًا ومُحِبًّا، فكان أن حسده هيكل -على حد تعبير جهاد الزين- لأنه يملك صحيفة، فيما هو يديرُ مؤسسة جبارة، بقاؤه فيها مرهونٌ بقرارِ رئيس الجمهورية. أحبَّ الكاريكاتور المصري، فجاراه ونافسه بعبقرية ناجي العلي “حنظلة الورد”، فلما قرّرَ أن يُقدِّمَ أوراق اعتماده “سفيرًا” فوق العادة للقرّاء اللبنانيين والعرب، لم يلبس “الرودنجوت” التقليدي، بل جعل من السفارة أمّةً في أقاليم عديدة متنوّعة الثقافات وموئل فنون، وحقول دراسات وعلمًا لفلسطين، ووفاءً يوميًّا لجمال عبد الناصر.

أطلقوا الرصاصَ على وجهه انتقامًا من لسانه، فما توقّفت أنامله عن المقاومة وهو طريح المستشفى. يوم تلك الحادثة قال فيه الرئيس سليم الحص “إن طلال مطربٌ سياسي حاولَ أن يغتاله النشاز”. يومذاك حاولتُ أن أُدرِكَ المغزى العميق من ذلك الوصف، فوجدتُ أنَّ موهبته الطربية ليست في حنجرته، بل في القلم الذي قال فيه أحد القرّاء العاديين: “كلما قرأته، أحسُّ أنني أنا كاتب المقال، لأنه يقول ما يدور في خلدي، بأسلوبٍ سلسٍ أعجز عن تقليده”.

لقد تدارك الدكتور غسان العياش الأمر، وقدّمَ شهادةَ عرفان بالأستاذ طلال قبيل رحيله مُقِرًّا له بفضل توجيهه في الكتابة، أما أنا  فأقدّمُ  شهادتي لعائلته وقرائه ومحبيه، وأقولُ إنني كنتُ مرّةً في زيارةِ “الطابق السادس” وكانت الأمور مُحتدمة جدًّا في طرابلس. استسفسر مني عن حقيقة ما يجري، فأبديتُ رأيي، فإذا به يناولني قلمه، ويُشيرُ إلى غرفةٍ جانبية طالبًا منّي دخولَها لأكتب ما قلته، فكانت تجربة شاقة جدًّا علي، إذ كان عليَّ أن أُدَبِّجَ في دقائق، نصًّا سيخضع لفحصِ واحدٍ من “طُغاةِ الكتابة”. فلمّا اجتزتُ الامتحان، بدرجة مقبول، أصبحتُ كاتبًا دائمًا في “السفير” التي ظلّت تنشر لي ما كان في بعض  الأحيان يُخالفُ سياسة الجريدة، بدون حذفٍ أو تحوير.

ذهبتُ إلى شمسطار يوم السبت الفائت، وجلستُ في ديوانية بيته مع حبيبنا فيصل وطلال حيدر وعبد الكريم الشعّار فأخذتني الذكريات إلى زمانٍ رائع، تَحَلَّقنا فيه، جان عبيد والعميد جوزيف البدوي وشلة أنس طريفة، في الديوانية نفسها، نستمع إلى المرحومة ذات الصوت الجبار، جوزيفين بريدي، وهي تغني:

يا فؤادي، لا تَسَل أينَ الهوى

كانَ صرحًا من خيالٍ فهوى

تلكم، كانت أغنية “الأطلال” التي ألحَّت عليَّ كلماتها فور الخبر، فكأنما شعرتُ أنَّ حرفَ الألف قد أُضيفَ إلى اسمه، وكأنما نزف حبره وسال خارج أوراق” السفير المُغلَقة” وبعيدًا من جناح الحمامة الزاجلة، فوجدتني أقول: كانَ صرحًا من مِدادٍ فهوى.

  • رشيد درباس هو وزير لبناني سابق يعمل بالمحاماة، كان سابقًا نقيبًا لمحامي شمال لبنان.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى