لماذا فَقَدت “هواوي” فُرصَتَها للهَيمَنة على العالم

تعثّرت طموحات بكين الدولية بالنسبة إلى شركة “هواوي” (Huawei) للسبب نفسه الذي فشلت فيه باستمرار في لعبة التأثير العالمي – لم يكن لديها الصبر لمتابعة نهج القوة الناعمة للمدى الطويل.

 

الرئيس الصيني شي جين بينغ: هل ينتقم؟

 

بقلم كارثيك رامانا*

قررت حكومة المملكة المتحدة في تموز (يوليو) الفائت حظر استخدام معدات “هواوي” (Huawei) في شبكات اتصالاتها المتنقلة/المحمولة من الجيل الخامس. ويعكس القرار ويُناقض إنفتاح الحكومة البريطانية السابق على عملاق معدات الهاتف المحمول الصيني.

وقد برز الإنفتاح السابق كإصبعِ إبهامٍ مُؤلم بين أقرب حلفاء بريطانيا، وما يُسمّى ب”العيون الخمس”، التي تشمل أيضاً أوستراليا وكندا ونيوزيلندا والولايات المتحدة. وقد أعربت هذه البلدان الأربعة الأخرى عن تحفظات أمنية خطيرة على معدات “هواوي”، لا سيما أنه يُمكن استخدام هذه المعدات لتثبيت الأبواب الخلفية للتجسّس الصيني. بطريقة أو بأخرى، شعرت بريطانيا في حينه أن هذه المخاطر يُمكن إدارتها. ولكن، ما الذي عرفته لندن ولم يعرفه الآخرون؟

خلال البحث لإيجاد الإجابة عن هذا السؤال من أجل دراسةٍ إنتهيتُ منها أخيراً للقضية، وجدتُ أن الحكومة البريطانية السابقة كانت تقوم على ما يبدو بتقييم المخاطر الأمنية على اعتبارات تقنية ضيّقة جداً. كانت تلك الحكومة أيضاً حريصة سياسياً على إيجاد حل وسط، وذلك لتهدئة نظرائها الصينيين الحريصين جداً على مسألة “هواوي” – وحاجة بريطانيا الخارجة من الإتحاد الأوروبي إلى أصدقاء.

يبدو أن قرارَ تقييم المخاطر يتوقّف إلى حدٍّ كبير على عَمَلِ الفعالية المزعومة لـ”خلية” (Cell) فرعية تابعة لـلمُنظّمة الإستخباراتية السيبرانية والأمنية البريطانية “جي سي إيتش كيو” (GCHQ)  تعمل داخل “هواوي”. مثل مُعظَم الأمور التي انخرطت فيها هذه المنظمة الإستخباراتية، لا يزال الكثير من التفاصيل في هذه القضية غير معروف، ولكن ما أصبح واضحاً إلى حدٍّ ما من التقارير العامة هو أن هذا الجهاز الأمني ​​لم يتم إعداده للبحث عن التجسس الخلفي. بدلاً من ذلك، كان ببساطة يقوم بمراجعة قوة برنامج “هواوي” للهجمات الخبيثة من طرف ثالث. حتى في بطاقة الأداء الضيّقة هذه، ظهرت “هواوي” في بعض الأحيان غير مُؤهّلة.

وكما قال لي أحد خبراء أمن الكمبيوتر المُستقلّين، هناك الكثير من البرمجيات/البرامج في شبكات الجيل الخامس التي يتميز فيها عن الأجيال السابقة من البنية التحتية المحمولة، وتُشير الخبرة إلى أن أخطاء البرامج أو البرمجيات تنتقل بسرعة. بالإضافة إلى ذلك، إذا كان اختبار “الخلية” (Cell) هو كل ما يلزم لضمان خلو البرامج من التهديدات، فسنشهد المزيد من الإختبارات الطوعية بين الشركات الخاصة مثل “مايكروسوفت” (Microsoft) التي تخسر المليارات كل عام بسبب الهجمات الضارة على البرامج.

قد يكون من ضمن تفويض المنظمة الإستخباراتية “جي سي إيتش. كيو” تسهيل مشاركة “هواوي” على الأقل في بريطانيا، وربما كي تكون لديها نظرة ثاقبة على الأساليب الحالية للذكاء الإلكتروني الصيني. لكن هذا الهدف الأضيق غمره في نهاية المطاف الشعور بأن بريطانيا لا تستطيع أن تقف بعيداً من حلفائها.

مع قرار بريطانيا، فإن الدول الغربية المتبقية، وبخاصة فرنسا وألمانيا، من المرجح أن تتماشى مع “العيون الخمس”. وكذلك الهند أيضاً، التي من المُحتمل أن تكون واحدة من أكبر الأسواق غير الغربية لشركة “هواوي”. حتى الدول التي لا تشك بشكل طبيعي في الصين قد تحذو حذوها، لأنها لا تريد أن تكون مُحاصَرة باستخدام معدات مُتنقلة ومحمولة تعمل بمعايير تقنية مختلفة عن تلك الموجودة في الغرب.

كان تغيُّر حظوظ “هواوي” سريعاً بشكل مذهل وعميقاً للغاية. في صيف العام 2019، بدا أن الشركة على وشك السيطرة والهيمنة على عالم الهاتف المحمول – على نطاق يشبه القوة السوقية الإجمالية لشركات “آبل” (Apple) و”غوغل” (Google) و”سامسونغ” (Samsung) مجتمعة. فيما كانت البلدان في جميع أنحاء العالم تستعد للإلتزام بمليارات الدولارات لبناء البنية التحتية للإتصالات الخاصة بها للعقد المقبل، كانت هواوي مستعدة لمنتوجٍ أرخص وأسرع وأكثر شمولاً من أي منافس.

من ناحية أخرى، كان فيروس “كوفيد-19” لاعباً غير مباشر في سقوط “هواوي”. أولاً، شتّت الفيروس إنتباه واهتمام الحكومات التي تواجه معضلة عاجلة بالنسبة إلى الجيل الخامس (5G) على ما يبدو، والآن يُمكن لهذه الحكومات أن تتراجع بشكلٍ مُريح عن قراراتها الإستثمارية الرئيسة بالنسبة إلى الجيل الخامس لمدة عام، مُستشهدةً بأزمة الصحة العامة والقيود المالية. بحلول ذلك الوقت، من المتوقع أن تكون الشركات الغربية المنافسة ل”هواوي” مثل “أريكسون” (Ericsson) و”نوكيا” (Nokia) و”سامسونغ” (Samsung) قد توصلت إلى منتوج يبغيه ويحتاجه المجتمع الغربي وغيره بأسعار تُنافس العملاق الصيني.

ثانياً، عرّى فيروس “كوفيد-19” الإعتماد الدولي على سلسلة التوريد الهشة من الصين. من جهتهما تستكشف واشنطن ولندن الآن كيف يُمكن لما يسمى “د-10” (أكبر 10 ديموقراطيات: مجموعة السبعة (G-7) بالإضافة إلى أوستراليا والهند وكوريا) أن تخلق فقاعة تجارية لموازنة الصين.

وصفت كلٌّ من “هواوي” والحكومة الصينية رفض “العيون الخمس” للشركة كصراع حضارات “هنتنغتونسكي” بقيادة الولايات المتحدة، وهي محاولة من قبل أميركا الغيورة لحرمان الصين من مكانها الصحيح في العالم. لديهما في دونالد ترامب إحباطٌ مثالي – تم استخدام خطابه المتقلّب والعنصري في بعض الأحيان لنسج قصة اضطهاد “هواوي”.

ولكن الأمر ليس كذلك. لم تكن شركة “هواوي” أبداُ حقاً مُحتَكِرة ذات مصداقية للتكنولوجيا بالنسبة إلى الغرب كما هو الحال مع “آبل” و”غوغل”، حتى لو لم يكن هناك الصدع الحالي بين الولايات المتحدة والصين. أنظر إلى تشكّك أوستراليا المُبكر تجاه “هواوي”، على الرغم من اعتمادها الإقتصادي على الصين.

عندما كشفت تسريبات إدوارد سنودن عن أن الولايات المتحدة كانت تستخدم بعض شركات التكنولوجيا مثل “سيسكو” (Cisco) للتجسس على حلفاء مثل ألمانيا، كانت الاستجابة الإلمانية واضحة – فقد عانت “سيسكو” من فقدان الأعمال. لذا، مع وجود شكوك مماثلة بشأن “هواوي”، نتوقع استجابة مشابهة من قبل الحكومات غير الصينية، على الرغم من صراع الحضارات.

لم يتمكّن المسؤولون التنفيذيون في “هواوي” من توفير دفاعٍ مُقنع ومُتّسق ضد المخاوف الأمنية للبلدان العميلة. من ناحية، يُجادلون بأنه لا يوجد خطرٌ من التبعية الصينية في الجيل الخامس (5G) لأن الدول سوف تُنوّع مُورّديها عبر “هواوي” والبدائل الأخرى غير الصينية. ولكن بعد ذلك، في عرض المبيعات الخاصة بهم، ضغطوا ودفعوا بقوة ضد تنويع البائعين، خصوصاً في الأسواق الصغيرة حيث يمكن أن يكون ذلك مُكلفاً للغاية. مثل هذه التناقضات لم تُساعد مصداقية هواوي.

تتمتع “هواوي” بدعم الدولة الصينية: بالنسبة إلى هذا الأمر هناك قليلٌ من الشك. من المؤكد أن الدولة الصينية لم تكن بارعة بالنسبة إلى إخفاء ذلك.

ما يُمكن مُناقشته هو لماذا كانت الصين حريصة جداً على “هواوي”. هل ببساطة لكي تتمكّن قيادة الحزب الشيوعي الصيني من التفاخر بقصّةِ نجاحٍ عالمية على مستوى “آبل”، و”غوغل” و”مايكروسوفت”؟ أم أن هناك شيئاً أكثر شرّاً وشناعة يتعلّق بحربٍ هجومية سرية؟ إغلاق بريطانيا ل”هواوي”، وتأثير الدومينو الذي سيتبعه على الأرجح، يعني أننا ربما لن نعرف الجواب أبداً.

ولكن في أفضل الأحوال، فإن ضغط الحزب الشيوعي الصيني على شركة “هواوي” يفضي إلى تفوّح رائحة عفنة من رأسمالية الدولة على نطاقٍ من المرجح أن يكون غير مُريح حتى للفرنسيين، الذين لا يستمتعون عادة بهذا الشكل من الأعمال. علاوة على ذلك، على عكس الدولة الفرنسية، فإن الدولة الصينية غير ليبرالية بعمق وبدون ضوابط داخلية ذات مغزى. لذلك حتى في غياب أي دوافع للتجسس، فإن احتضان “هواوي” يبدو وكأنه دخولٌ في علاقةٍ طويلة الأمد سيندم عليها أي مجتمع ليبرالي.

وحتى إذا كانت شركة “هواوي” مُستقلة حالياً عن الدولة الصينية، فإن فكرة أنها ستكون قادرة على مقاومة إستدعاء أو مذكرة تتعلّق بالأمن القومي من بكين مُثيرةً للضحك. إذا كان هناك أي شك في رغبة بكين في السلطة المطلقة، فإن الأحداث في هونغ كونغ في الشهر الفائت تُعطي أفضل مثال.

في نهاية المطاف، تعثّرت بكين في طموحاتها بالنسبة إلى شركة “هواوي” للسبب عينه الذي فشلت فيه باستمرار في لعبة التأثير العالمي – لم يكن لديها الصبر لمتابعة نهج القوة الناعمة للمدى الطويل. عندما لم يؤدِّ “التشجيع” الأوّلي لتبنّي “هواوي” في جميع أنحاء العالم إلى نتائج، أصبح ديبلوماسيو بكين أكثر عدوانية ويأساً. إن تهديدات السفير الصيني في لندن لبريطانيا في أعقاب انقلاب المملكة المتحدة على انفتاحها السابق لا تُقدّم خدمات لصالح “هواوي”؛ بل تقضي على مصير “هواوي” في مكان آخر.

سيكون انتقام الصين من المملكة المتحدة حقيقياً، لكنه لن يكون قاسياً كما يتوقّع البعض. في أعقاب العزلة المتزايدة لشركة “هواوي” – والإندماج المُحتَمَل المُحفَّز، بسبب “كوفيد-19″، لـلديموقراطيات العشر – يحتاج الحزب الشيوعي الصيني الآن إلى الغرب أكثر مما يحتاج إليه الغرب. في المدى الطويل، بدون نموٍ إقتصادي تُغذّيه الصادرات، فإن الحزب الشيوعي الصيني مُعرَّضٌ لمشاكل كبرى.

مع ذلك، ستحتاج بكين إلى عملٍ وردّ فعلٍ لتبدو قوية داخلياً بعد الرفض المُهين لهواوي في لندن، لذلك توقّع كبش فداء. سيتعيّن على شركة أميركية أو وبريطانية كبرى واحدة على الأقل أن تسقط في الصين، وإذا كان علي أن أفترض، فستبدو “آبل (Apple) أو “أتش أس بي سي” (HSBC) على رأس اللائحة.

  • كارثيك رامانا هو أستاذ إدارة الأعمال والسياسة العامة في كلية بلافاتنيك الحكومية في جامعة أكسفورد.
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى