حسابات روسيا الفيروسية لن تُنسيها الشرق الأوسط

فيما يُحذّر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من أن روسيا ستعرف أياماً صعبة بسبب اتشار وباء “كوفيد-19″، فإن أزمة الفيروس التاجي أثّرت إلى حد ما في سياسات موسكو في الشرق الأوسط، بينما خلقت فرصاً أيضاً.

 

الرئيس فلاديمير بوتين والأمير محمد بن سلمان: تحية “الخمسة أصابع” الحارة العلنية لم تُغيّر كثيراً في العلاقات.

بقلم دِميتري ترينين*

إحدى أكثر العواقب الإقتصادية التي واجهتها روسا بسبب انتشار فيروس “كوفيد-19” كان انهيار أسعار النفط، التي انخفضت في مرحلة ما إلى أدنى مستوى منذ عقدين. كان لهذا الوضع تأثيرٌ قوي على سياسات موسكو في الشرق الأوسط.

منذ توصّلها إلى اتفاقية مع منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك) في العام 2017 للحفاظ على استقرار أسعار النفط، تُراقب روسيا بحذر متزايد إذ أن المنافذ التي أخلتها “أوبك+” (OPEC PLUS) (التي تشمل “أوبك” وروسيا وغيرها من منتجي النفط المُتحالفين) ) تم أخذها وتعبئتها من قبل منتجي الصخر الزيتي الأميركي وغيرهم ممَن لم يتم تقييدهم باتفاقات بشأن تخفيضات الإنتاج. وعندما أصرّت المملكة العربية السعودية على إجراء تخفيضات أعمق في آذار (مارس) 2020، مع انتشار الفيروس التاجي، غضبت روسيا بسبب “الإنذار” السعودي ورفضت الإقتراح، مما أدى إلى توقّف الإتفاقية. مُباشرة بعد ذلك، بدأ السعوديون في إغراق الأسواق الأوروبية بالنفط، وبدأت إيرادات الموازنة الروسية تنخفض وتجفّ.

كانت العلاقات بين روسيا والمملكة العربية السعودية دائماً صعبة ومُعقّدة. يسعى البَلَدان إلى تحقيق أهدافٍ مُختلفة للغاية في الشرق الأوسط. وعلى الرغم من تحية “ألأصابع الخمسة” العلنية بين الرئيس فلاديمير بوتين وولي العهد الأمير محمد بن سلمان في قمة مجموعة العشرين في تشرين الثاني (نوفمبر) 2018 في الأرجنتين، فإن الثقة مفقودة بين حكومتيهما. ومع ذلك، فإن القيادتين في موسكو والرياض ترتبطان بمنظورٍ للعالم قائم على الواقعية السياسية، مما يسمح باتفاقات ظرفية قائمة على مصالح وطنية مُعيّنة. كانت “أوبك+” واحدة من هذه الإتفاقات، والتي استمرت لفترة أطول بكثير مما توقعه أي شخص. وعندما تصدّعت وانتهت مفاعيلها، كان هناك شعور بأن خطأً كبيراً قد ارتُكب للسماح بحدوث ذلك، ولكن لم تكن هناك مرارة أو شعور بالمأساة. شعر معظم المراقبين أنها كانت مسألة وقت فقط قبل إبرام صفقة جديدة.

جاءت الصفقة بعد أكثر من شهر بقليل، مع الكثير من التحفيز من طرف ثالث، الولايات المتحدة. لقد انخرط الرئيس دونالد ترامب، مسترشداً بمخاوف صناعة النفط الصخري الأميركي، مع كلّ من بوتين ومحمد بن سلمان للتحرّك نحو اتفاق يضم جميع منتجي النفط الرئيسيين. وأرست الإتفاقية الجديدة “أوبك++” (OPEC Plus Plus) على أن الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية وروسيا هي القوى الرئيسة الثلاث التي تُقرر قضايا الطاقة العالمية. ما بدا لكثير من الروس في آذار (مارس) على أنه خطأ تفاوضي واعد بهزيمة نهائية، تحوّل إلى فوزٍ جيوسياسي مُذهل. أما الخسائر الناجمة عن حرب الأسعار، فلم تبلغ سوى جزء بسيط من الخسائر الضخمة التي ألحقتها أزمة الفيروس التاجي.

في مكان آخر، أدّى الوباء إلى هدوء مؤقت على جبهات القتال في محافظة إدلب السورية، التي اختبرت بشدة العلاقات بين روسيا وتركيا في أواخر العام 2019 وأوائل العام 2020. الجهاديون المُحاصَرون في الجيب المحمي من قبل القوات التركية قد قلّلوا بشكل كبير من أنشطتهم. في تركيا، ينتشر الفيروس التاجي بسرعة. وهناك أيضاً مخاوف من أن المرض سيؤثر في سكان إدلب، حيث يتجمع عدد كبير من الناس معاً في مخيمات اللاجئين. وإيران، لاعبٌ مهم آخر في المنطقة، مصابة بالفيروس التاجي أكثر من معظم البلدان، وتُركز القيادة في طهران على الاحتفاظ بسلطتها وقوتها داخل البلاد. في ظل هذه الظروف، تسعى روسيا إلى تعزيز موقعها ونفوذها في سوريا.

وبالنظر إلى المستقبل، يبدو من الواضح أن أزمة الفيروس التاجي لن تؤدي إلى تغييرات كبيرة في سياسات روسيا تجاه الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. قد يبدو هذا غير مُتوَقَّع. حتى كتابة هذه السطور، بدأ الوباء ينتشر فقط في روسيا، ويحظى باهتمام القيادة الروسية بأكملها. من المرجح أن تكون العواقب الاقتصادية خطيرة للغاية. ويتوقع كبار الإقتصاديين الروس وصندوق النقد الدولي أن ينخفض ​​الناتج المحلي الإجمالي للبلاد في العام 2020 بنسبة 5 في المئة على الأقل، وربما بنسبة 8 في المئة. الموارد المالية للكرملين ستكون مُرهَقة.

ومع ذلك، فإن سياسات روسيا في الشرق الأوسط لا تتطلب قدراً كبيراً من الإنفاق. يُمكن استمرار العملية العسكرية في سوريا إلى أجل غير مسمى على المستوى الحالي. لقد اجتازت تركيا الإختبار في علاقاتها مع موسكو في مطلع العام وستظل شريكاً أكثر من كونها خصماً. وتُثير اتفاقية “أوبك++”  العديد من الأسئلة المُتعلقة بتنفيذها على مدى العامين المقبلين، لكنها تجنبت أسوأ النتائج الممكنة لكلّ من روسيا والمملكة العربية السعودية. وستستمر مشاركة روسيا الديبلوماسية وشبه العسكرية في ليبيا، حتى مع سعي موسكو إلى تحقيق نتيجة سياسية مقبولة. وظلت العلاقات مع إسرائيل متينة، حتى حميمة على أعلى مستوى، بينما يتم الحفاظ على الروابط مع إيران على مستوى ملموس. أما مصر، فستظل تحظى باهتمام روسيا الخاص كقلب العالم العربي.

بينما تقود أزمة “كوفيد-19” الولايات المتحدة إلى التركيز أكثر على نفسها والدول الأعضاء في الإتحاد الأوروبي إلى إظهار المشاعر القومية المتزايدة، فإن نهج السياسة الخارجية الأساسي لروسيا القائم على أولوية المصالح الوطنية سيسمح لها بحرية أكبر في التصرف. وفيما ترسم مسارها، ستواصل موسكو الجمع بين الحذر الذي يمنع الإفراط مع تحرّكات جريئة لاستغلال الفرص التي من دون شك ستُقدّم نفسها.

  • دميتري ترينين، مدير مركز كارنيغي في موسكو، وهو يعمل في المركز منذ إنشائه. كما يرأس مجلس البحوث وبرنامج السياسة الخارجية والأمنية. يُمكن متابعته على تويتر: @DmitriTrenin
  • كُتِب هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى