لماذا سيعكس فيروس كورونا اتجاه الجغرافيا السياسية للعقد الفائت

من المُحتمل أن يؤدي فشل الحزب الشيوعي الصيني في حماية العالم من فيروس كورونا (COVID-19) إلى عكس مكاسب الصين الأخيرة التي حققتها في العقد الفائت في مَجالَي القوة والنفوذ.

 

شي جين بينغ: تخلّى عن تحذير سلفه دنغ شياو بينغ بـ”إخفاء السطوع والبريق”- أي ممارسة التواضع.

 

بقلم مايكل مانديلبوم*

على مرّ التاريخ، قلَبت الحروب الكبرى النظام الدولي، وصنَعت وقسّمت وكسرت دولاً بأكملها وأنظمتها السياسية، بينما زادت من قوة ووضع وشأن البعض وقلّلت من قوة ووضع وشأن آخرين. أصبحت الأسلحة الحديثة أقوى من أن تسمح بالصراعات على نطاق الحربين العالميتين في القرن الماضي، على سبيل المثال، ولكن في هذا القرن ظهر مُتغيّر: الأزمات العالمية. الأزمة الأولى التي بدأت في العام 2008، مع ما يقرب من انهيار النظام المالي الأميركي الذي أدّى إلى أعمق ركود اقتصادي منذ الكساد الكبير، عزّزت ثقة الصين، وزادت من عدوانيتها، وعززت مكانتها الدولية، وعجّلت بشكل عام في صعودها. أما الأزمة الحالية، التي هي النتيجة المباشرة لوباء كورونا الذي بدأ في الصين، فيُمكن أن تعكس هذه المكاسب.

إن زيادة القوة والنفوذ الصينيين بعد العام 2008 لم تأت من فراغ. لقد أعقبت ثلاثة عقود من النمو الإقتصادي السنوي الرائع المُكوَّن من رقمَين في ذلك البلد، وتطور دور الصين المركزي في الإقتصاد العالمي كحلقة وصل حاسمة الأهمية في سلاسل التوريد متعددة الجنسيات، والتي صار يعتمد عليها الكثير من الإنتاج العالمي. من خلال ضخ مبالغ هائلة في اقتصادها، تمكّنت الحكومة الصينية من جعل الإنكماش الإقتصادي الذي عانت منه الصين في أعقاب الأزمة المالية أقل حدّة مما كان عليه الأمر في أي مكان آخر تقريباً. ونتيجة لنجاحها – وإخفاقات الديموقراطيات الغربية بالمقارنة – زادت ثقة الصين وارتفعت مكانتها الدولية.

تخلى الزعيم الصيني شي جين بينغ الذي وصل إلى السلطة في العام 2013، عن تحذير سلفه دنغ شياو بينغ بـ”إخفاء السطوع والبريق” – أي ممارسة التواضع – في علاقاته مع البلدان الأخرى. وبدلاً من ذلك، بدأ شي علانية تأكيد ثقته في قوة بلاده. جاءت عبارة “الحلم الصيني” لوصف رؤيته الوطنية، مع تضمين، حسب بعض التفسيرات، أولويتها في الشؤون الدولية.

زعمت الصين أن كل غرب المحيط الهادئ تقريباً يقع في مياهها الإقليمية، وبدأت بناء جزر إصطناعية هناك مع منشآت عسكرية عليها. وللمرة الأولى منذ العصر الماوي، روّجت حكومتها لفكرة أن النظام السياسي الصيني قدّم دروساً، بل ونموذجاً، لدول أخرى. أطلقت بكين “مبادرة الحزام والطريق” الطموحة، وهو برنامج ضخم للبنية التحتية عبر آسيا وأوروبا يهدف إلى ربط بلدان أخرى بالصين إقتصادياً وسياسياً.

لأكثر من عقد من الزمن بعد العام 2008، تمتعت الحكومة الصينية، من الناحية الجيوسياسية، برياح في أشرعتها. ثم، في هذا العام، جاء فيروس كورونا، الذي نشأ في الصين، والذي نفت الحكومة الشيوعية وجوده في البداية ثم غطت عليه، مما سمح له بالانتشار في جميع أنحاء العالم. مع شعور البلدان في كل مكان بالحاجة إلى عزل مواطنيها، وبالتالي إدارة الصدمات الخطيرة والمستمرة لاقتصاداتها، تتحمّل الصين المسؤولية النهائية عن المعاناة الهائلة في جميع أنحاء العالم. من المُحتمل أن يؤدي فشل الحزب الشيوعي الصيني في الإعتراف بالفيروس وحماية العالم إلى عكس مكاسب الصين التي حققتها في القوة والنفوذ بعد العام 2008.

مثلما بدأ صعود الصين قبل العام 2008، ظهرت أيضاً علامات من المقاومة لهذا الصعود حتى قبل أن يبدأ الوباء في ووهان في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي. فقد فتحت إدارة دونالد ترامب نزاعاً تجارياً مع بكين تعاطفت معه الحكومات الأخرى، حتى تلك التي هي أقل صداقة مع هذا الرئيس الأميركي. بدأ معدل النمو الصيني في الانخفاض من المرتفعات النبيلة التي استمر عليها لمدة 30 عاماً. واعترضت دول آسيوية أخرى، إلى جانب الولايات المتحدة، على ادعاءات الصين البحرية وبدأت تتعاون عسكريا مع عيون تراقب وتستعد لمواجهتها.

لقد أوضح فيروس كورونا أن الصين تُشكّل مخاطر على جيرانها والعالم بالإضافة إلى طموحاتها الإقليمية في المحيط الهادئ. لقد اعتاد البلد على إحداث مخاطر صحية خطيرة: هذا الفيروس هو الأخطر في ربع القرن الأخير لكنه بالكاد يكون الوحيد؛ كما أن وباء سارس بدأ هناك أيضاً في العام 2003. نظراً إلى أن نظام البلاد السياسي يعتمد على السرية وتصميم الحزب الشيوعي الحاكم على تجنّب المسؤولية عن أي شيء يسير على نحو خاطئ، فإن تفشّي الأمراض المحلية في الصين يُمكن أن تخرج بسهولة عن نطاق السيطرة، وهو ما حدث مع فيروس كورونا. وكما قال تشارلز ليبسون: “جميع الأشخاص المحبوسين في منازلهم في كاليفورنيا، وجميع الأشخاص الذين يرقدون في وحدات العناية الفائقة في ميلانو ومرسيليا وسياتل ويعانون من مرض شديد، وجميع الأشخاص الذين يتم نقلهم من وحدات العناية الفائقة إلى المقابر حول العالم: إنهم هناك بسبب خيارات السياسة التي انتهجها الحزب الشيوعي الصيني”.

علاوة على ذلك، فإن اعتماد الإقتصاد العالمي على الصين يبدو الآن محفوفاً بالمخاطر. حتى لو بقيت أزمة فيروس كورونا داخل حدود ذلك البلد، فإن التكتيك الذي استخدمته السلطات الصينية لمحاولة احتوائه – عزل أجزاء كبيرة من السكان وإغلاق أجزاء كبيرة من الاقتصاد – كان سيفرض خسائر كبيرة على دول أخرى، والتي تعتمد بشدة على سلاسل التوريد التي تمر عبر الصين. بالإضافة إلى ذلك، إكتشف العالم أن الكثير من أدويته ومعداته الطبية مصنوعة في الصين. وهذا يعطي، في أزمة مثل الأزمة الحالية، نفوذاً قوياً على الدول الأخرى لنظام يجمع بين القمع وعدم الكفاءة في الداخل مع التنمر في الخارج.

في أعقاب أزمة فيروس كورونا، فإن تناقص دور الصين العالمي سيبدو أكثر جاذبية للآخرين. من المحتمل أن تُبذَل جهود لتقليل الإعتماد العالمي على المنتجات المصنوعة أو المُجمَّعة جزئياً هناك – وهي عملية تُعرف ب”الإنفصال” أو “الفصل”. إن تحذيرات الحكومة الأميركية لنظرائها الأوروبيين من الإعتماد على معدّات الإتصالات التي أنتجتها شركة هواوي الصينية سوف تلقى استماعاً أكثر تقبّلاً مما كان عليه الأمر حتى الآن. وقد تجد البلدان المجاورة مبادرة الحزام والطريق أقل جاذبية، ونظراً إلى الخسائر الإقتصادية التي ألحقها الفيروس بالصين، فإن الحكومة الصينية نفسها قد ترى أن تنفيذ المبادرة على النحو المخطط له مكلف للغاية. إن سوء التعامل الأوّلي للحزب الشيوعي مع تفشّي المرض، الذي كانت تكاليفه مرتفعة في الأرواح المفقودة والإنتاج الضائع، سيجعل الصين نموذجاً أقل جاذبية في نظر غير الصينيين.

وإدراكاً لاحتمال حدوث مثل هذه التطورات والخطر الذي يُشكله على مكانة بلادهم الدولية، أطلقت السلطات في بكين حملة دعائية للدفاع عن نفسها. فقد زعمت أن الجنود الأميركيين هم الذين جلبوا الفيروس إلى الصين، وهي تهمة كاذبة تماماً قد يعتقدها الصينيون الذين لا يستطيعون الوصول إلى وسائل الإعلام غير الخاضعة للرقابة، لكن الأجانب لن يفعلوا ذلك. كما أكدت السلطات على أن الصين تتعامل مع الوباء بطريقة أكثر فاعلية من الدول الأخرى، وهو أمر لا يزال مجهولاً ويتعين رؤيته إلى حد كبير، وعلى أي حال لا يلغي ذلك المسؤولية الصينية عن بدايته.

في العام 1977، نشر المؤرخ البارز وليام ماكنيل كتاباً بعنوان “الأوبئة والشعوب”، والذي رسم الآثار التاريخية الكبيرة للأوبئة الرئيسة مثل الموت الأسود في أوروبا في القرن الرابع عشر والجدري الذي جلبه الإسبان إلى العالم الجديد في القرن السادس عشر. هناك أمل كبير والأسباب الوجيهة للإعتقاد بأن وباء كورونا لن يتسبّب في دمارٍ على نطاق هذين الحدثين المروعين؛ لقد حدث كلاهما، قبل كل شيء، قبل وقت طويل من تطور الطب الحديث. ولكن إذا خدم، كما يبدو مُمكناً تماماً، لعكس الإتجاه الجيوسياسي الرئيس في العقد الماضي، فسوف يستحق مكانته الخاصة في مستقبل مثل هذه السجلات.

  • مايكل مانديلبوم هو أستاذ للسياسة الخارجية الأميركية في كلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جونز هوبكنز، وعضو في هيئة تحرير مجلة “أميركان إنتريست”، ومؤلف كتاب “صعود وسقوط السلام على الأرض”.
  • كُتِب هذا الموضوع بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى