التهديد الفعلي لفلسطين هو … قيادتها!

بعدما وصلت القضية الفلسطينية إلى أخطر مرحلة في تاريخها، يبدو أن الحل الوحيد لانتعاش ونجاح الحركة الوطنية الفلسطينية وضمان مستقبلها هو إذا استقالت القيادة الحالية، أو تم دفعها إلى ذلك، لمنح آخرين أكثر تأهلاً فرصة للقيادة.

محمود عباس: عليه الإستقالة مع كل حاشيته لإفساح المجال أمام قيادة شابة جديدة مؤهلة

 

بقلم عُمر حسن عبد الرحمن*

أتى الجواب الفلسطيني على “صفقة القرن” التي طرحها أخيراً الرئيس الأميركي دونالد ترامب رفضاً سريعاً ومُتَوَقَّعاً. فبعد مُغازلة وجيزة مع إدارة ترامب منذ أكثر من عامَين، بات محمود عباس، رئيس منظّمة التحرير الفلسطينية ورئيس السلطة الفلسطينية، منذ ذلك الحين يَعتبر جهود البيت الأبيض مؤامرةً لتصفية الحركة الوطنية الفلسطينية، وهي تهمة كرّرها في مجلس الأمن في أوائل شباط (فبراير) الفائت.

وفي الأيام التي تلت إعلان الخطّة في 28 كانون الثاني (يناير)، دعا عبّاس شعبه للنزول إلى الشارع للإحتجاج، وطلب انعقاد اجتماع طارئ لجامعة الدول العربية في مصر، وبعث برسالة إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، يُهدّد فيها بوقف كلّ التنسيق بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، بما في ذلك موضوع الأمن.

وتؤكّد تفاصيل الخطّة بمجملها مخاوف عبّاس. فما تُدعى “رؤية” ترامب تلتزم بشكل وثيق للغاية بالمواقف التي يتبنّاها أقصى اليمين الإيديولوجي في إسرائيل، لا بل حتّى يستعين بلغته وخطابه، مثل اللجوء إلى إشارات توراتية لتبرير السيطرة السياسية الإسرائيلية على القدس. بالتالي، في حال تمّ السماح بنشوء دولة فلسطينية، ستكون دولة بالإسم لا أكثر، إذ ستُجرَّد من كلّ عناصر السيادة ذات المغزى وستقع في أرخبيل من الجيوب المعزولة والمُهمَّشة التي تُشبه البانتوستانات في جنوب أفريقيا في حقبة الفصل العنصري. وستحتفظ إسرائيل بأكثر من 30 في المئة من الضفّة الغربية وكلّ مستوطناتها والقدس بأسرها، فضلاً عن سيطرة تامّة على الأمن والمياه والأجواء والحدود وحتّى المعاهدات والتحالفات في فلسطين. وستكون الإستقلالية الفلسطينية مُقيّدة جداً لدرجة أنّ على “الدولة” الجديدة طلب الإذن من إسرائيل لحفر بئرٍ لأنّ حقوق المياه الجوفية تبقى في يد إسرائيل.

بعبارة أخرى، الخطّة مهزلة. لكن مع ذلك، لا يأتي التهديد الفعلي لتصفية الحركة الوطنية الفلسطينية من إسرائيل أو الولايات المتحدة، بل من فشل قيادتها. طبعاً لقد كشفت رئاسة ترامب عن الوهن الأساسي للسياسة الفلسطينية وخمول قادتها وحالة مؤسّساتها الرثّة بعد أكثر من ربع قرن من عمليات السلام والفشل التام لاتفاقيات أوسلو.

سلسلة من النكسات

منذ زمن الإنتداب البريطاني في فلسطين إلى تجدّد الحركة الوطنية تحت لواء منظّمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات وإلى اليوم، عارضت إسرائيل في غالب الأحيان التطلّعات الوطنية الفلسطينية، وعادة ما تكون الولايات المتحدة حليفاً حاضراً في الجهد المبذول لإعاقة هذه التطلّعات. مع ذلك، لم تختفِ الحركة الوطنية ببساطة، بل صمدت وتخطّت الكثير من التحديات والنكسات عبر الزمن.

ومع أنّ إسرائيل اعترفت في نهاية المطاف بمنظّمة التحرير الفلسطينية مُمثلاً شرعياً للفلسطينيين في العام 1993 مع توقيع إتّفاقات أوسلو، لم تقبل آنذاك بحقّ الفلسطينيين بتقرير مصيرهم في دولة سيادية خاصّة بهم. عوضاً عن ذلك، عكست إتفاقات أوسلو حدودَ ما كانت إسرائيل مستعدّة للقبول به منذ بداية المفاوضات: كيانٌ فلسطيني مجرّد من الجنسية للإهتمام بالحَوكَمة المحلّية في الضفّة الغربية وقطاع غزّة، فيعفي إسرائيل بذلك من معظم موجباتها كمحتلّ عسكري ويسمح لها في الوقت عينه بممارسة السيادة على كامل الأراضي. ومن دون تقدير أساسي متشاطر لما ستؤول إليه المفاوضات أو من دون أيّ شروط قانونية مَرجَعيّة، فقد حوّل انهيار الإتفاقات في النهاية هذا الإتفاق المؤّقت إلى وضع مستمرّ. علاوة على ذلك، هذا هو جوهرياً ما ستكرّسه خطّة ترامب بشكل نهائي في حال طُبّقت.

لكن لأكثر من عامَين، وفيما وضع فريق ترامب مبادرة تلوَ الأخرى بشأن السياسات إما بهدف ترسيخ السيطرة الإسرائيلية على الأراضي المحتلّة، بما في ذلك القدس، أم بهدف تقويض المواقف الفلسطينية، لم يصدر عن عباس والمقرّبين منه سوى إطلاق شعارات بالية. فعِوَضاً عن مواجهة الإقتراح الوشيك بشكل فاعل عبر تقديم رؤية بديلة والعمل مع الحلفاء في المنطقة وخارجها لحشد الدعم لها على الأقل، لم تحرّك القيادة الفلسطينية ساكناً وقبعت في مكانها تنتظر من دون وضع استراتيجية أو رؤية مُقنعة.

تعرف إسرائيل أنّ تهديدات عبّاس بإنهاء التعاون مع السلطة الفلسطينية أو حلّ السلطة برمّتها ليس أمراً يمكن القيام به. فكان ذلك يتطلّب، في مرحلة ما على مدى السنوات الخمس عشرة الأخيرة، بناء البدائل اللازمة لهيكليات حقبة أوسلو التي تعفي إسرائيل من مسؤوليات الحكم مع تعزيز اتّكال واعتماد الفلسطينيين عليها في كلّ شيء، ابتداء من المياه والكهرباء وصولاً إلى المرافئ والرخص. بناء على ذلك، قد يكون القيام بمناورات ذات صلة على غرار قرار السلطة الفلسطينية أخيراً بحظر استيراد بعض المنتجات الإسرائيلية إلى الأسواق الفلسطينية أمراً فعّالاً في المبدأ، لكنّ الفلسطينيين غير جاهزين أبداً للحرب التجارية التي ستنشب جراء ذلك على الأرجح. وانتشالُ الفلسطينيين من هذه الورطة من دون خطر هائل على رفاههم مهمّةٌ تتخطّى مؤهلات هذه القيادة.

وعوضاً عن البحث عن مخرج من فوضى أوسلو، غاص عبّاس أكثر فأكثر وأصبح أكثر إعتماداً على الرضا الإسرائيلي والأميركي للسير قدماً بقضية إنشاء الدولة الفلسطينية. وعوضاً عن تمتين العلاقات المُجدية في الخارج، من ضمنها العلاقات بين الشتات الفلسطيني، تمحورت استراتيجيته حول الإنتظار لحلول تغييرات جذرية داخل إسرائيل أو الولايات المتحدة قد تُنقذ حلّ الدولتَين. وبفعل هذا الإتّكال الشديد غدت إسرائيل والولايات المتحدة في موقع يخوّلهما إلحاق ضرر جسيم إلى هذا الحدّ بالحركة الوطنية.

ولا شكّ في أنّ القيادة الفلسطينية ستجد عزاء في قرار جامعة الدول العربية برفض اقتراح ترامب بالإجماع، ممّا قضى على آمال الإدارة الأميركية بأن تجمع الدعم لرؤيتها للمنطقة الأوسع. ولحق ذلك بعد أيام قرارٌ لمنظمة التعاون الإسلامي دعا الدول الأعضاء السبع والخمسين إلى “عدم الانخراط في الخطّة أو التعاون مع الإدارة الأميركية في تطبيقها بأيّ شكل من الأشكال”.

غير أنّ هذه المواقف تتعارض مع تحوّلات مهمّة في الشرق الأوسط حول المسألة الفلسطينية والعلاقات مع إسرائيل. فقد قرّبت وقائعُ جيوسياسية جديدة — بما فيها الإضطراب الإقليمي، والتهديدُ المتصوّر للتوسّعية الإيرانية والإنحسارُ الأميركي — بين إسرائيل وبعض الدول العربية. علاوة على ذلك، كيف يُمكن للمرء أن يتوقع من الدول العربية أن تمتنع إلى أجل غير مسمى عن متابعة مصالحها المشتركة مع إسرائيل فيما تتعاون السلطة الفلسطينية مع إسرائيل بشكل يومي؟ بالتأكيد، لا يستطيع عباس أن يطلب منها جميعاً أن تكون أكثر كاثوليكية من البابا، أي أن تكون أكثر تشدّداً من السلطة الفلسطينية نفسها!.

ويتّصل بهذا الأمر الجمهورُ العربي الأوسع وحماسه للقضية الفلسطينية، التي عادة ما أدّت دور الزاجر والكابح للقادة الإقليميين. لكن في السنوات الأخيرة تضاءل هذا الحماس، ويُعزى ذلك جزئياً إلى تبوّؤ مسائل أخرى أكثر إلحاحاً الأولوية، لكنّه يُعزى أيضاً إلى قيادة الفلسطينيين العجوز والهرمة وغير اللافتة والضيّقة الأفق التي لم تحرّك ساكناً أخيراً لتحميس الرأي العام الإقليمي. (إنجاز لمراهقة اسمها عهد التميمي واجهت جندياً إسرائيلياً في العام 2017 بيّن كيف يمكن أن تأسر أعمال المقاومة مخيّلة العالم).

ويسري الأمر أيضاً في الداخل حيث تضاءلت شعبية عباس ومصداقيته بسبب غياب التقدّم في شأن تأسيس الدولة والحوكمة الرديئة بالإجمال وتعليق الإنتخابات الديموقراطية والرغبة في المحافظة على التعاون الأمني مع إسرائيل. وعوضاً عن تفويضٍ شرعي، لجأ بشكل متزايد إلى أدوات القمع للبقاء في السلطة. وفي خضمّ ذلك، أسكت النقّادَ وكَبَت النقاش البنّاء وأفقد الشعب حماسه، إلى درجة أنّه بالكاد بقي أيّ من الهيكليات التي سمحت للفلسطينيين قبلاً بتحدّي الإحتلال الإسرائيلي.

وفيما كانت تُعتبر منظّمة التحرير الفلسطينية هيئة ممثلة شرعياً — لكن من دون أن تكون هيئة ديموقراطية – فقد حوّلتها الجهود لتعزيز السيطرة على المؤسسّة إلى كيان فارغ: تمّ إبعاد اللاجئين والشتات عن العملية السياسية، وقسم كبير من المجتمع الفلسطيني المرتبط بالفصائل الإسلامية، مثل حركة “حماس”، ليس منضوياً تحت مظلة منظمة التحرير، وخسرت الفصائل الباقية الكثير من صلتها السابقة بالأوضاع.

لا بديل من القيادة السياسية

ينبغي أن تكون حالة الشؤون الفلسطينية همّاً للجميع، بغضّ النظر عن خلفيّتهم السياسية. فهذا الضعف هو ما سمح لإسرائيل بالإستفادة من أفضليّتها إلى أقصى الحدود، وهو أمر يكمن في صلب الجهود الفاشلة لإحلال السلام. وإذا في مرحلة من المراحل في المستقبل قرّرت إسرائيل أنّه من مصلحتها إبرام اتفاق مع الفلسطينيين، فلن يكون هناك أي طرف شرعي بما فيه الكفاية على الجانب الآخر للتوقيع على اتفاق ذي مغزى ودائم. وسمح الضعف الفلسطيني أيضاً لأولئك الأسرائيليين الراغبين في الوصول إلى استسلام فلسطيني تامّ باستغلال المبادرة، التي قرّبت إسرائيل من الضمّ والفصل العنصري، فضلاً عن الواقع الثنائي الذي هو أكثر ما يخشاه الكثيرُ من الإسرائيليين.

مع ذلك، طالما الفلسطينيون محرومون من الحقوق المدنية والسياسية، سيستمرّ الصراع ويتردّى ويولّد المزيد من عدم الإستقرار. وفيما أضعفت القيادة الفلسطينية الحالية الحركة الوطنية، ما زالت تحظى بالكثير من المقوّمات التي تستطيع التعويل عليها: ما زالت الهوية الفلسطينية راسخة ومنتشرة ويشكّل الناشطون والمجتمع المدني وداعميه، من ضمنهم مجموعات إسرائيلية ويهودية، على المستوى الشعبي المكوّنَ الأنشط والأكثر إلهاماً في الحركة الوطنية ويقدّم جيل جديد من الأكاديميين والمفكّرين إطاراً فكرياً جديداً لفهم الصراع يستعين به الشعب لتوجيه نضاله وتبقى التعديات اليومية التي يواجهها الفلسطينيون خزّاناً لا ينضب يأخذون منه التبرير والطاقة لقضيّتهم.

من شأن حملة شعبية، على غرار حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها التي تأسّست في العام 2005 كوسيلة للضغط على إسرائيل في وجه فشل الجهات الفاعلة الحكوميّة في حلّ هذا الصراع، أن تكون آلية قوّية للتغيير، غير أنّها ليست بديلاً من برنامج سياسي مترابط تسير به قدماً الجهات الفاعلة السياسية.

الحل الوحيد لضمان مستقبل الحركة الوطنية الفلسطينية هو إذا استقالت القيادة الحالية، أو تم دفعها إلى ذلك، لإعطاء آخرين أكثر أهلية وتأهلاً فرصة للقيادة.

  • عُمَر حسن عبد الرحمن هو زميل زائر في مركز بروكنغز الدوحة، وهو في صدد تأليف كتاب عن التجزئة الفلسطينية في حقبة ما بعد اتفاقات أوسلو. عبد الرحمن كاتب ومحلل سياسي وصحافي في مجال الوسائط المتعددة متخصص في سياسات الشرق الأوسط والسياسة الأميركية الخارجية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى