بعد الإكتتاب العام في “أرامكو”، السعودية تأمل في خلقِ اقتصادٍ صديقٍ للمُستَثمِرين

بعد الإكتتاب العام في شركة “أرامكو” السعودية، تسعى الرياض إلى تنفيذ “رؤية 2030” التي أطلقها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان من طريق تنويع الإقتصاد وجذب الإستثمار من القطاع الخاص.

 

“أرامكو” السعودية: ما زالت أساساً في نمو الإقتصاد السعودي الكربوني

بقلم جان فرانسوا سيزنيك*

الإستنتاج الرئيس من الإكتتاب العام في أرامكو السعودية في كانون الأول (ديسمبر) 2019 هو أن القيادة السعودية مُستعدّة لتقديم الدعم الكامل للمُستَثمِرين في القطاع الخاص.

تتمثل الأولوية الرئيسة للمملكة في خلق وظائف خارج صناعة النفط، حيث تسعى إلى تحقيق طموحات التنويع التي تتمتع بها “رؤية 2030” لولي العهد الأمير محمد بن سلمان. وبالتالي فإن العديد من الشركات الحكومية الأخرى من المقرر أن تطلق إكتتابات عامة في المستقبل القريب، مثل المرافق العامة، وشركة تحلية المياه، وشركة الطيران الوطنية، والمطارات وغيرها. وبطبيعة الحال، يُمكن للمستثمرين توقّع المزايا نفسها والدعم عينه اللذين تمّ تقديمهما للإكتتاب العام في أرامكو السعودية.

ومع ذلك، فإن خصخصة الشركات الحكومية قد لا يكون الدواء الشافي المباشر للمملكة. حتى لو جمع السعوديون قدراً كبيراً من الأموال لصالح الدولة وصندوق الثروة السيادية، فقد تكون إحدى النتائج الأولى للخصخصة هي تسريح العمال لأن الشركات تقوم بترشيد وإعادة هيكلة القوى العاملة لديها. إن تسريح العمال هو نقيض ما تريده القيادة السعودية، لأن الهدف الرئيس من “رؤية 2030” هو خلق وظائف ذات رواتب جيدة وذات مغزى لأعداد كبيرة من الشباب في البلاد – 35 في المئة من السكان السعوديين تقل أعمارهم عن 25 سنة.

بالإضافة إلى ذلك، تحتاج إعادة الإستثمار إلى توليد العوائد المُتوَخّاة في “رؤية 2030″، ليس فقط في توسيع الصناعات الجديدة في المملكة العربية السعودية، ولكن في إعادة تشكيل وتأهيل السكان للعمل فيها.

من المتوقع أن يقوم صندوق الإستثمارات العامة، وهو صندوق الثروة السيادية في المملكة، بإعادة إستثمار جميع عائدات الإكتتاب العام في مجالات مثل التكنولوجيا المتقدمة والفائقة والتعدين والسياحة. لكن آخر إستثمارات صندوق الإستثمارات العامة كانت في الشركات التي لا يُتوَقَّع لها أن تحقق العائدات المطلوبة، مثل “تيسلا” (Tesla) و”أوبر” (Uber) و”صوفت بنك” (SoftBank). لا تستثمر “تيسلا” في المملكة، وتواصل “أوبير” في إعلان الخسائر، وقد واجهت إستثمارات “صوفت بنك” في جميع أنحاء العالم صعوبات.

كما استثمر صندوق الاستثمارات العامة في مدن جديدة، مثل “نيوم” و”أمالا”، التي من المتوقع أن تخلق فرص عمل في التكنولوجيا الفائقة والسياحة. ومع ذلك، حتى الآن، لم تستطع المملكة جذب استثمارات كبيرة. وصناعة التعدين تنمو، لكنها لن تخلق عدداً كبيراً من الوظائف بسرعة.

توسيع الصناعات المجاورة للنفط

لكن ليس كل الأموال ستذهب إلى قطاعات أخرى. تستمر “أرامكو” أيضاً في الإستثمار بكثافة في مشاريع النفط والغاز. إنها تستثمر في تحديث مصافيها وبناء أخرى في جميع أنحاء العالم. وهي تدير شركتين كيميائيتين رئيسيتين تُنتِجان مواد كيميائية متطورة: الأولى عبارة عن مشروع مشترك بقيمة 20 مليار دولار مع “داو دو بون” (DowDuPont) يدعى “صدارة”، والآخر عبارة عن مشروع مشترك بحجم مماثل مع “سوميتومو”، يدعى “بترو ربيع”.

كما افتتحت “أرامكو” أخيراً مصفاة “ساتورب” (SATORP) بقيمة 14 مليار دولار (أكبر مشروع تكريري بتروكيماوي عطري في العالم) وخطوطاً كيميائية في اتجاه المصب مع شركة توتال الفرنسية، وأنشأت مجمعاً صناعياً على مساحة 12 كيلومتراً مجاوراً، يُعرف باسم مجمع “بلاس كيم” (PlasChem)، حيث يُمكن للشركات الخاصة إنشاء متجر لتصنيع المنتجات بكفاءة باستخدام المخرجات من “صدارة” و”ساتورب”. أخيراً وليس آخراً، إستحوذَت “أرامكو” على شركة “سابك” في صفقة بلغت قيمتها 69.1 مليار دولار تم الإعلان عنها في آذار (مارس) 2019. و”سابك” هي رابع أكبر شركة كيميائية في العالم وتُدير بعضاً من أحدث الخطوط الكيميائية.

وعلى المنوال عينه، فإن مدينتي الجبيل ويُنبُع الصناعيتين توفّران مرافق منخفضة التكلفة، وإمكانية الوصول إلى الموانئ والمصافي والمياه والكهرباء للشركات العامة والخاصة. يُدير القطاع الخاص في المملكة مصانع كبيرة تُنتج كل شيء من الإسمنت والمواد الكيميائية المتقدمة إلى تكييف الهواء وكابلات الألياف البصرية. كانت هذه المصانع مُربِحة إلى حدّ كبير واستفادت من انخفاض تكلفة الطاقة والموقع المركزي للمملكة العربية السعودية بين الأسواق الأوروبية والآسيوية. نتيجة لذلك، يُمكن أن يوفّر المزيد من الاستثمارات الصناعية التقليدية في المملكة العربية السعودية نمواً سهلاً ومربحاً إلى حد ما، على الرغم من أن هذه الإستثمارات أقل تمشياً مع الأولويات المُعلنة لصندوق الإستثمارات العامة.

تسعير الكربون والمواد المتجددة

يُعَدّ التنويع بعيداً من الإقتصاد القائم على الكربون أولوية بالنسبة إلى صندوق الإستثمارات العامة أيضاً. يُدرك صندوق الثروة السيادية السعودي التأثير المُحتَمَل للتسعير الكربوني في الميزة الطبيعية للمملكة من الطاقة الرخيصة، حتى ولو ابتعدت من النفط الخام إلى المواد الكيميائية المُتقدّمة. ومع ذلك، فإن الميزة المنخفضة التكلفة للمملكة العربية السعودية ستُتيح لها التغلب على جميع المنتجين الآخرين وتوفير هوامش ربح ثابتة في المصب، على الرغم من الإنخفاض المُحتَمَل في مبيعات النفط الخام.

إن “رؤية 2030″ تُعطي الأولوية لتطوير الطاقة المتجددة. لقد تضمنت الخطة الأولية ل”نيوم” محطة شمسية ضخمة تبلغ تكلفتها 200 مليار دولار، و 200 جيغاواط – أي ما يعادل 2.2 ضعف إجمالي إنتاج المملكة من الكهرباء – رغم أن هذا الحجم قد تم تقليصه منذ ذلك الحين. في حين ستواصل المملكة الضغط من أجل زيادة مصادر الطاقة المتجددة، فمن غير المرجح أن تحلّ محل ميزتها في مجال النفط والغاز منخفض التكلفة. إذا كانت الرياض تود تطوير تكنولوجيا الطاقة المُتجددة الخاصة بها واستخدام إحتياطاتها النقدية الكبيرة لبناء مجموعة من الشركات المُصَنِّعة للطاقة الشمسية، مع ذلك، يُمكنها أن تُصبح البائع الرئيس للتكنولوجيا، بدلاً من أن تكون المشتري كما هو عليه الأمر اليوم. وهذا سُيمكّن المملكة من استبدال اعتمادها على صادرات النفط بالتكنولوجيا والخدمات المُتجدّدة.

إعادة هيكلة البيروقراطية السعودية لجعل الإستثمار أسهل

يعتمد إنشاء بيئة إستثمارية قابلة للتطبيق في المملكة العربية السعودية على ثلاثة عوامل رئيسة: تَوافُر ومهارات العمالة المحلية والنظام القانوني والبيروقراطية. وحتى الآن، تم التعامل مع قضايا العمالة من قبل الشركات العامة التي تُوظّف معظمها السعوديين، والقطاع الخاص الذي يستورد 85 في المئة إلى 95 في المئة من القوة العاملة من آسيا وأفريقيا.

ومع ذلك، فإن أصحاب العمل من القطاع الخاص يَتَعرّضون الآن لضغوط شديدة لتوظيف المزيد من العمال السعوديين – وهي عملية تُعرف ب”السَعوَدة”. العمال السعوديون حريصون على العمل ولكنهم سيطالبون برواتب ومزايا أكثر التي غالباً ما تنسجم مع العمال في الغرب. ومع ذلك، فإن شغل وظائف الخدمات الصناعية أو الماهرة وتدريب العاملين يستغرق وقتاً والتزاماً، مما يؤدي إلى تكاليف إضافية.

يجري إعادة هيكلة وتحديث النظام القانوني السعودي والبيروقراطية على نطاق واسع. لقد أصبح العديد من المتطلبات التقليدية المُحبِطة والأوراق، التي أبطأت العمل، مؤتمتة وأكثر كفاءة.

يُوضح الإكتتاب العام في “أرامكو” أن المملكة حريصة على دعم جميع الإستثمارات، المحلية والأجنبية. وتجري الآن هيكلة البنوك ومختلف الصناديق المالية الوطنية وسوق الأوراق المالية لتوفير التسهيلات التي يحتاج إليها رواد الأعمال والمستثمرون، بينما يتم تبسيط البيروقراطية لجعل عملية إدارة الأعمال أسهل. على الرغم من أن المسؤولين يُركّزون في الغالب على المشاريع غير المُرتبطة بالنفط في التكنولوجيا الفائقة والتعدين والسياحة، إلا أن الحقيقة هي أن المملكة العربية السعودية من المرجح أن تستمر في النمو في مجال الصناعات التي تتمتع بها بميزة طبيعية.

  • جان فرانسوا سيزنيك باحث غير مُقيم في معهد الشرق الأوسط في واشنطن، وهو زميل كبير غير مقيم في المجلس الأطلسي، وأستاذ مساعد في كلية “جونز هوبكنز” للدراسات الدولية المتقدمة.
  • كُتِب هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى