التَطبيعُ فرضُ عَين

عبد الرازق أحمد الشاعر*

في بعضِ الأحيان لا يُعَدُّ الصمت سلبية، ولا الانسحاب تراجعًا، ولا رفض السلام عدوانية، فبعض الصمت أقوى من كل الحجج، والخروجُ من الكادر خيرٌ من رسم ابتسامةٍ بلهاء أمام عين الكاميرا، وقبض اليد خير من بسطها لا سيما حين يكون بساط الديبلوماسية مُضَرَّجًا بسوائل التاريخ اللزجة وروائحه العطنة. ربما دار هذا كله في خلد الشيخة مي بنت محمد آل خليفة وهي تتخذ قرارها التاريخي بعدم مصافحة السفير الإسرائيلي في المنامة، إيتان نائيه. وهو القرار الذي أُجبِرَت بسببه على التخلي عن منصبها في رئاسة هيئة البحرين للثقافة والآثار – يقول البعض.

لكن حكومة المنامة تؤكد أن هذا الخبر عار تمامًا عن الصحة، وتقسم بغليظ الأيمان أن قرار إقالة الشيخة مي والتي تنتمي إلى أسرة البحرين الحاكمة، قد جاء في إطار تعديلٍ وزاري واسع النطاق شمل 17 منصبًا وزاريًا. في الوقت نفسه، حذّر مصدرٌ مسؤول في مركز الاتصال البحريني من الانسياق وراء الشائعات التي تُطلقها جهاتٌ مَشبوهة ومُغرِضة لإثارة البلبلة داخل البلاد.

أصل الحكاية أنه في صبيحة السادس عشر من حزيران/ يونيو الماضي، توجّهت الشيخة مي إلى مقر السفير الأميركي، ستيفن بوندي، في المنامة لأداء واجب العزاء بوفاة والده، ولم يكن في حسبانها أن تتعرّضَ لموقفٍ سخيفٍ كهذا. فقد وجدت نفسها وجهًا لوجه أمام السفير الإسرائيلي في البلاد والذي لم تتلوّن بشرته بسحنة أهلها بعد. وحين وجدت أصابعه مفرودة عن آخرها في انتظار يدها البضة، أدارت وجهها، وقرّرت مغادرة المكان مُطالِبةً الصحافة بعدم نشر أي صور تتعلق بتلك الزيارة، إلّا أن مصادر إسرائيلية رفيعة – ربما عن عمد – قامت بتسريب الخبر.

لعلّ الشيخة مي لم تكن تتوقع أن تكون ردة فعل حكومتها بهذه القسوة، لا سيما وأنها استطاعت من خلال شغلها لهذا المنصب على مدار تسع سنوات أن تُقدِّمَ خدماتٍ جليلة لشعبها وأن تُشيِّدَ صروحًا ثقافية مُتَمَيِّزة مثل “مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة للثقافة والبحوث” و”المركز الإقليمي العربي للتراث”، ما حدا بمجلة فوربس الأميركية إلى تصنيفها كواحدة ضمن أكثر 50 امرأة تأثيرًا في العالم العربي، ناهيك عن أنها تنتمي إلى الأسرة الحاكمة في البلاد، وهو ما يمنحها حصانة استثنائية. لم تشفع للشيخة إنجازاتها العديدة في مجال حقوق الإنسان، ولم ينفعها كل ما قدمته للوطن والمواطن من خدمات ثقافية وإعلامية جليلة، وكان عليها أن تُغادر.

ربما أخطأت الشيخة البحرينية في توقّع اتجاهات الريح، ولعلّها لم تُدرك حجم مسؤوليتها كجُزءٍ من حكومةٍ وقّعت بالأحرف الأولى على اتفاقية تطبيع غير مشروطة مع الكيان الصهيوني، وأنها ليست مجرد لاعبة جودو يمكنها أن تُديرَ ظهرها للحلبة وقتما تشاء فيستقبلها الجمهور العربي بالتصفيق عند بوابات الوصول، وأن تحصد ملايين المشاهدات على مواقع التواصل. ربما لم تُدرك الشيخة مي كل ذلك، وربما فعلت ما فعلت لأنها تُدرِك كل ذلك، ولهذا وفّرت على نفسها وعلى ولاة أمرها مؤونة معارضتها التي لن تسمن ولن تُغني من خضوع.

قافلةُ التطبيع تمضي إذن، ولن يوقفها عواء أحد حتى وإن كان من العائلة الحاكمة، ولا حصانة لمُغرِّدٍ وإن تابعه آلاف المواطنين الشرفاء. ولن يُسمَح لمخلوقٍ بإحراج نظام حكمه على الملأ تحت مسمى الحريات أو اختلاف الإيديولوجيات. ولن يسمح الذين بشّروا بالديانة الإبراهيمية الجديدة بأيِّ اختلافٍ يؤدّي إلى تأجيج نعراتٍ دينية أو مذهبية، وعلى الذين يُعارضون الفكر التنويري الحداثي المُتَصَهين أن يديروا ظهورهم للكاميرا وأن ينصرفوا.

صحيح أن أول تغريدة شكر للوزيرة المُغادرة قد وجدت صدى عند آلاف القراء من المتابعين، لكن لا يمكن أن تُراهن سيدة البحرين على وعيٍ عربي مُتَرَهِّل ومأزوم ومشغول حتى النخاع بمهاترات غبية تُديرها أصابعٌ خفيّة داخل منصّاتٍ إعلامية ليست نزيهة أبدًا. وصحيحٌ أننا نثق تمامًا بأن الشيخ خليفة بن أحمد بن عبد الله آل خليفة سيكون خير خلف لخير سلف، لكننا أيضًا على ثقة من أنه سيُراجع نفسه ألف مرة قبل أن يردَّ يدًا إسرائيلية امتدّت بالسلام.

  • عبد الرازق أحمد الشاعر هو أديب، كاتب وصحافي مصري. يمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني التالي: Shaer1970@gmail.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى