سباقٌ بين السلام وتَفَكُّك الدولة في اليمن

فيما يعمل الأفرقاء المحليون على تعزيز نفوذهم، يتحوّل تفكّك اليمن تهديداً يُحدق بشدة بمحادثات السلام وتطلعات اليمنيين.

 

مشروع اليمن الاتحادي وأقاليمه الستة الذي طرحه عبد ربه منصور هادي

 

بقلم ماريكي ترانسفلد*

قامت المملكة العربية السعودية، في الشهرَين الماضيين، بدور الوساطة في الإتفاق بين الحكومة المُعترَف بها دولياً برئاسة عبد ربه منصور هادي والمجلس الإنتقالي الجنوبي، كما أعلنت أنها تخوض الآن مباحثات سلام غير مباشرة مع الحوثيين. وهكذا يبدو التوصل إلى حل سياسي للحرب اليمنية أقرب من أي وقت مضى. ولكن سوف يكون من الصعب ترجمة هذه النجاحات إلى إطار لمحادثات السلام برعاية الأمم المتحدة من دون أن تؤخَذ في الاعتبار درجة التفكّك التي تُعاني منها الدولة اليمنية. فالنفوذ المُتنامي للأفرقاء المحلّيين يتسبّب بتدهور الدولة اليمنية المُعترَف بها دولياً، الأمر الذي يزيد من التفكك الإجتماعي والسياسي والمؤسسي.

بعدما خاضت حكومة عبد ربه منصور هادي قتالاً ضد الحوثيين بدعمٍ سعودي على مدار سنوات عدة، تشنّ الآن معركة ضد المجلس الإنتقالي الجنوبي، المدعوم من الإمارات العربية المتحدة، لفرض سيطرتها على العاصمة المؤقتة عدن. وتُعتبَر المناطق الواقعة في وسط البلاد وشرقها معاقل النفوذ الأخيرة المتبقّية للرئيس هادي. لقد أفضى تعدُّد السلطات في دولة مفكّكة إلى فقدان اليمنيين إيمانهم بوطنٍ موحّد. وفي هذا السياق، أظهرت دراسة استقصائية أجراها المركز اليمني لقياس الرأي العام بين أيار (مايو) وتموز (يوليو) 2019 وشملت 3980 يمنياً في 19 محافظة من أصل 22، أن 46 في المئة من اليمنيين في جنوب البلاد يدعمون مطالبة الحراك الجنوبي بالإنفصال. يُشار إلى أن عدد السكان في جنوب اليمن هو أقل من ثلث العدد في شمال البلاد، ولذلك تعرّضت آراء الجنوبيين للتهميش طوال عقود من الزمن. أما في الشمال، فيُعارض 81 في المئة التخلّي عن الجنوب الغني بالموارد.

منذ اندلاع الحرب في العام 2014، عمدت مجموعات محلية عدّة إلى فرض سيطرتها على أراضٍ يمنية ومؤسسات تابعة للدولة، وعملت على ترسيخ هذه السيطرة. وقد أصبح حزب الإصلاح قوةً مُهَيمِنة في تعزّ. وفرضت قبائل محلية سيطرتها في محافظتَي مأرب وشبوة والمناطق الساحلية في محافظة حضرموت. واستولى المجلس الإنتقالي الجنوبي على أراضٍ في الجنوب الغربي، وتسلّم الحوثيون زمام السيطرة في الشمال الغربي. وفيما يعمل هؤلاء الأفرقاء على تثبيت نفوذهم المحلّي، ينخرطون في آليات هَرَمية لبناء الدولة من أسفل الهرم إلى أعلاه، مما يزيد من حدة التفكّك على مستوى الدولة. ففي المناطق الواقعة وسط البلاد وفي الجنوب الغربي مثلاً، تسبّب توسّع الحوثيين والرئيس السابق علي عبدالله صالح من طريق اللجوء إلى العنف في العام 2015، بإحداث فراغٍ أمني أفضى إلى ظهور قوات مقاومة مُسلّحة محلية. وقد أتاح أنصار صالح للحوثيين الوصول إلى المؤسسات الأمنية؛ ومع رفض بعض المسؤولين سيطرة الحوثيين على هذه المؤسسات، إنهار بعضها على غرار جهاز الشرطة. ونظراً إلى انهيار مؤسسات الدولة وصعود الميليشيات المحلية، إعتمد هادي على قوات المقاومة للدفاع عن حكومته. ونتيجة لذلك، دُمِجت قوات المقاومة غير النظامية في هيكليات الدولة التي اشتملت على الجيش الوطني.١

وتتألف قوات المقاومة، على الرغم من دمجها رسمياً في هيكليات الدولة، من مجموعات متفرّقة ذات مسارات تاريخية وأجندات اجتماعية وسياسية مُتباينة. وتتمسك هذه القوات بالهويات المحلية. وفي هذا الصدد، تنبثق المقاومة التي ظهرت في تعز على إثر التوغّل الحوثي، من المعارضة المسلّحة التابعة لحزب الإصلاح، وهي المجموعة نفسها التي دافعت عن الإحتجاجات الشعبية ضد قوات صالح خلال تظاهرات 2011. وعلى نحوٍ غير مفاجئ، فرض حزب الإصلاح في نهاية المطاف سيطرته على المقاومة المسلحة والآليات اللاحقة لبناء الدولة في تعز. وقد تولّى الإصلاح إدارة عملية إعادة بناء الهيكليات العسكرية من خلال دمج الميليشيات وإعادة تكوين المؤسسات الحاكمة. وفي مأرب، دخلت القبائل المحلية التي كانت تحكم المنطقة تقليدياً، في تحالف مع الإصلاح وحدّدت مسار بناء الدولة. وفي عدن والضالع، تطورت المقاومة انطلاقاً من الحراك الجنوبي، وهو حراك مدني واسع ظهر في العام 2007، ويُطالب، من جملة ما يُطالب به، بدولة مستقلة منذ العام 2009. وقد دافعت المقاومة الجنوبية عن الجنوب في مواجهة ما اعتبرته قوى شمالية تحاول استعادة السيطرة على الجنوب من أجل القضاء على مساعي الإستقلال.

الهيكليات الأمنية الضخمة في الجنوب هي الآن مستقلة عن النخب الشمالية. لقد ارتقى ضباط عسكريون من الجيش الجنوبي سابقاً –  أرغمهم صالح على التقاعد بعد التوحيد في العام 1990 –  عبر المراتب في صفوف الجيش والشرطة ومؤسسات الحكم في الجنوب. ونتيجةً لذلك، أصبح الحراك الجنوبي أكثر توحّداً وتنظيماً وتمكيناً من أي وقت مضى. وقد أتاح ذلك نشوء المجلس الإنتقالي الجنوبي في أيار (مايو) 2017 في شكل شبه حكومة في عدن، مع تمثيل له في المحافظات. ومنذ ذلك الحين، سيطر المجلس، إلى جانب القوى المدعومة من الإمارات، على عدن بصورة تدريجية. وقد استثمرت الإمارات في إنشاء هيكليات أمنية مستقلة، لا سيما قوات الحزام الأمني، من أجل ضبط الأمن في ميناء عدن. على الرغم من أن هذه الهيكليات تخضع إسمياً لسيطرة الدولة، تتبع القوات المختلفة هوياتها الوطنية، وهي تؤيّد بالتالي استقلال الجنوب. ويَعتبر أبناء جنوب اليمن أن هؤلاء الأفرقاء هم قوى تابعة للدولة: يريد 45 في المئة من سكّان الجنوب أن تتمتع القوى المدعومة من الإمارات ببعض السلطة على الأقل في المنطقة.

ينقسم الجنوبيون في آرائهم بشأن المجلس الإنتقالي الجنوبي. وفقاً للدراسة الإستقصائية، إعتبر نحو 37 في المئة من أبناء الجنوب أنه يجب أن يتمتع المجلس الإنتقالي الجنوبي، على الأقل، ببعض السلطة في الجنوب، فيما أبدى 19 في المئة رفضهم للمجلس. وهذا ليس مُستغرَباً على ضوء المواقف القومية المتشددة التي يُروّج لها المجلس الإنتقالي الجنوبي. فقد فرض المجلس قيوداً على حقوق المواطنين الأساسية في حين أن قواته المسلّحة مُتَورِّطة في انتهاكات لحقوق الإنسان في الجنوب. بيد أن 22 في المئة من أبناء الجنوب اعتبروا أن المجلس ناشط إيجابياً، فيما رأى 25 في المئة أنه ليس ناشطاً على الإطلاق (15 في المئة لم يسمعوا مطلقاً بالمجلس الإنتقالي الجنوبي). ليس جميع الجنوبيين الذين يتطلعون إلى استقلال الجنوب مُنضَوين تحت سلطة المجلس الإنتقالي الجنوبي. وفي هذا الإطار، يُشار إلى أن قاعدة الدعم الأقوى للمجلس موجودة في محافظة لحج. وتظهر الدراسة الإستقصائية التي أجراها المركز اليمني لقياس الرأي العام أن نسبة الدعم للمجلس أقل في مناطق أخرى حيث النزعات الانفصالية مرتفعة. ومن هذه المناطق محافظة أبين، مسقط رأس هادي، ومحافظة حضرموت التي تكتسب على نحوٍ مطرد إستقلالية عن الدولة منذ العام 2011. في الواقع، لا تسعى حضرموت إلى الإنضواء في اتحاد مع المحافظات الجنوبية الخاضعة لسيطرة المجلس الإنتقالي الجنوبي. والحال هو أن عدداً كبيراً من سكّانها يدعم فصل المحافظة عن باقي البلاد، بما في ذلك المناطق الخاضعة لسيطرة المجلس الإنتقالي الجنوبي.

ولطالما ابتعد الشمال الغربي أيضاً عن الحكومة المُعترَف بها دولياً. بيد أن الحوثيين أبقوا على هيكليات الدولة نفسها في المناطق التي سيطروا عليها. وفي آذار (مارس) 2019، أصدر التنظيم مستنداً من 82 صفحة يعرض فيه رؤيته عن دولة الحوثيين المستقبلية، بما يُشير إلى استحالة تخلّيه عن السيطرة. وقد أدخل الحوثيون، منذ سيطرتهم على صنعاء قبل خمس سنوات، منظومتهم الحاكمة في الدولة التي كانت قائمة أصلاً. وما أن تمكّنوا من الوصول إلى المؤسسات من خلال تحالفهم مع صالح حتى نشروا مشرفين من المناطق الحوثية الأساسية في المؤسسات من أجل فرض سيطرتهم المباشرة وتعلُّم شؤون إدارة الدولة. وبعد وفاة صالح في كانون الأول (ديسمبر) 2017، عزل الحوثيون أنصاره من مناصبهم وفرضوا سيطرتهم المباشرة. وبما أن الحوثيين استخدموا هيكليات الدولة بمثابة آلية للسيطرة، ترسّخت مكانة المؤسسات النظامية في مقابل زعماء القبائل. وعلى سبيل المثال، يقول مسؤولو الشرطة الذين يدعمون حكم الحوثيين أن عملهم أصبح أكثر فاعلية بفضل التمويل والدعم السياسي من الحوثيين. في الواقع، أكّد أشخاص يقطنون في مناطق خاضعة لسيطرة الحوثيين، في مقابلات مع المركز اليمني لقياس الرأي العام، أن الشرطة أصبحت أكثر يقظة في ظل السيطرة الحوثية. ٢ 

وفقاً للدراسة الاستقصائية التي أجراها المركز اليمني لقياس الرأي العام، يعتبر 44 في المئة من السكان أنه يجب عدم منح أي سلطة للمشرفين الحوثيين. لقد رسّخ الحوثيون حضورهم على الرغم من معارضة حكمهم في الشمال الغربي ومن التكتيكات القمعية التي يلجأون إليها ضد المعارضين بدءاً من المجتمع المدني وصولاً إلى المسؤولين المهمّشين. يقبل عدد كبير من المسؤولين اليمنيين بالحكّام الحوثيين لأنهم يُقدّمون أنفسهم في صورة “الدولة” بعد أربع سنوات من الحضور على الأرض. ويُبدي كثرٌ أيضاً دعمهم لهم مُرغَمين من أجل تحقيق مكاسب شخصية. ويتركّز جزء كبير من الدعم للحوثيين في معقل الزيديين شمال صنعاء. ويعتبر 15 في المئة من الأشخاص الذين يقيمون في مناطق خاضعة للحكم الحوثي أنه يجب أن يتمتع المشرفون الحوثيون بالسيطرة التامة، فيما يعتبر 12 في المئة أنه يجب أن تكون لهم، على الأقل، بعض السلطة في مناطقهم.

عدم تفكك وتمامية أراضي الدولة اليمنية على المحك. وفقاً للدراسة الإستقصائية المذكورة، يعتبر نصف اليمنيين أن جميع الأفرقاء في اليمن يفتقرون إلى السلطة الشرعية. يُبدي نحو 19 في المئة من اليمنيين تأييدهم لهادي والسياسات التي يمثّلها، مثل تقسيم اليمن إلى ست مناطق اتحادية. وفي هذا السياق، يتعيّن على المجتمع الدولي، الذي يُدرك مواقع المجموعات المختلفة على الأرض، أن يُدرج مفهوم الفيديرالية الذي هو من نتائج الحوار الوطني اليمني لعام 2013، في إطار العمل الخاص بمحادثات السلام.

  • ماريكي ترانسفلد طالبة دكتوراه في الجامعة الحرة في برلين، وزميلة مشاركة في مركز الأبحاث التطبيقية في إطار شراكة مع The Orient في بون. لمتابعتها عبر تويتر @projectyemen.
  • عُرِّب هذا الموضوع من الإنكليزية.

ملاحظات:

١الأرقام الواردة في هذا المقال مستمدة من دراسة استقصائية أجراها المركز اليمني لقياس الرأي العام وسوف تصدر نتائجها في كانون الأول/ديسمبر 2019.

 ٢ أجرى المركز اليمني لقياس الرأي العام مقابلات ونظّم نقاشات في إطار مجموعات تركيز مؤلّفة من صحافيين وشخصيات مدنية في صنعاء والحديدة وإب بين شباط/فبراير 2018 وتموز/يوليو 2019. وقد نُشِرت وقائع المقابلات في إحاطات وتقارير عبر الموقع الإلكتروني: www.yemenpolling.org.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى