الذكرى الـ٣٣ لاتفاق الطائف: لبنان إلى أَين؟

الدكتور ناصيف حتّي*

تأتي الذكرى ال٣٣ لولادةِ اتفاقِ الطائف في خِضَمِّ أزمةٍ سياسيّةٍ يعيشها لبنان انعكست في عَدَمِ التوَصّلِ إلى انتخابِ رئيسٍ جديدٍ للجمهورية ضمن المهلة الدستورية التي انتهت في ٣١ تشرين الأول (أكتوبر) ودخول لبنان في فراغٍ/ شغورٍ رئاسي لا يدري أحدٌ متى يتمُّ الخروجُ منه. يأتي ذلك ولبنان يعيش في أسوَإِ الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بتداعياتها الخطيرة والمختلفة على الاستقرار المجتمعي وعلى مستقبل الوطن. شغورٌ رئاسي وحكومةٌ مُستَقيلة في وقتٍ يحتاج لبنان بشكلٍ مُلحٍّ للغاية إلى إعادةِ إنتاجِ سلطةٍ تُطلِقُ وترعى وتقودُ عمليةَ الإصلاح الشامل المطلوب والمُترابط الأبعاد، من المالي إلى الاقتصادي والسياسي،لإنقاذ “المركب اللبناني” من الغرق .

حَمَلَ اتفاقُ الطائف مُهِمَّتَين: أولًا، أنهى الحرب التي انفجرت في العام ١٩٧٥ (الحروب اللبنانية وحروب الآخرين عبر لبنان واللبنانيين) عبر تسويةٍ شاملة قامت على تفاهُمٍ خارجيٍّ عربي مدعومٍ دوليًّا وفّرَ الغطاء والدعم، ودفع وشجّعَ لا بل سهّلَ عملية التوصّل إلى الاتفاق أو العقد الوطني الجديد، الذي جاء ليعكس المعطيات الداخلية المختلفة التي استقرّت مع الوقت بعد عقودٍ أربعة ونيّف من الاستقلال .

طوى الاتفاقُ صفحةَ الحرب؛ حربُ الهوِيّات المُتقاتلة في الداخل التي تتغذّى على الصراعات الاستراتيجية في الإقليم. وكان هذا إنجازًا كبيرًا بحدِّ ذاته من جهة، كما إنّهُ  فتحَ صفحةً جديدةً لتطوير النظام من جهةٍ أُخرى .

ثانيًا، نصَّ الاتفاقُ على مجالاتٍ مُهمّة وضرورية للإصلاح، منها النزع التدريجي للطائفية من دون التخلّص منها كُلِّيًّا (العملُ على انتخابِ مجلسٍ نيابي على أساسٍ وطنيٍّ لا طائفي، واستحداثِ مجلسٍ للشيوخ تتمثّل فيه جميع العائلات الروحية وتنحصرُ صلاحياته في الأمور المصيرية ) بسبب الواقع اللبناني. لكن لا يعني ذلك إقفال الباب رسميًّا أمام المعالجة الجذرية لهذا المرض الذي يفتك دائمًا بالجسم المجتمعي والسياسي في لبنان في مختلف مجالات الحياة الوطنية، والذي أعتقدُ أن التخلّص منه ليس بالأمر المستحيل ولكن دونه الكثير من الصعوبات والعوائق. وهذا يستدعي اللجوء الى مسارٍ تدرّجي. كما إنَّ اتفاقَ الطائف أكّدَ على أهمّية اللامركزية الإدارية التي هي مدخلٌ أساس للإصلاح وللتنمية المناطقية بكافة أوجهها.

وحَسَمَ الاتفاقُ أيضًا جدلَ الهوية والانتماء: لبنان دولةٌ عربية وملتزمٌ بمواثيق جامعة الدول العربية بدون تحميل هذا الانتماء أيّ مفهومٍ عقائدي أو سياسي، أيًّا كان عنوان ذلك المفهوم في لحظةٍ مُعَيَّنة في الإقليم بحيث يجري توظيفه في صراعات اللبنانيين والآخرين. الصراعاتُ التي تخدمُ مَصالحَ دولٍ أُخرى على حساب لبنان، فالمطلوب التخلّص من دور الملعب لصراعاتِ الآخرين أو صندوق بريد لتبادل الرسائل في صراعاتِ وخلافات الآخرين.

المطلوب أيضًا الخروج من لعبة الكراسي الموسيقية للمذهبيات السياسية حَولَ مَن يُمسِكُ بالفعل بالسلطة في مرحلةٍ مُعَيَّنة، أو تحديدًا مَن هو الأوّل بالفعل بين متساوين بالقانون. الطائف وَفَّرَ الصيغة التي تسمح الإنتقال نحو ما أشرنا إليه من النزع التدريجي للطائفية. مسارٌ ليس بالسهل ودونه الكثير من العوائق، ولكنه مُمكنٌ وأهمّ من ضروري للذهاب نحو بناء الدولة الوطنية، وليس دولة تقوم بالفعل على فيدرالية طوائفية كلّ طرفٍ من أطرافها يملك قدرة ممارسة حق النقض (الفيتو) دفاعًا عن مصالحه الخاصة، والتي عادةً ما تتغطّى أو تُغَطَّى بمصلحة الطائفة او المذهب. وحدها عملية بناء الدولة المدنية في لبنان ينبغي أن تكون الهدف؛ دولةُ التنوّع الطائفي والمذهبي في إطار الوحدة الوطنية. التنوّعُ الذي يُغني ويُعزّزُ الوحدة، والوحدة التي تُشكّلُ حاضنةً للتنوّع.

لبنان اليوم أمام مُفترَق طُرُق. هل نبقى في سياسة التسويات الظرفية والهشّة والتي تعكس توازنات لحظةٍ مُعَيَّنة في الداخل وفي الإقليم، أم ننخرطُ في مسارٍ إصلاحيٍّ/ إنقاذيٍّ طويل أكثر من ضروري، وليس بالسهل ولكنه ليس بالمستحيل؟

  • الدكتور ناصيف يوسف حتّي هو أكاديمي، ديبلوماسي متقاعد ووزير خارجية لبنان السابق. كان سابقًا المُتَحدِّث الرسمي باسم جامعة الدول العربيةولاحقًا رئيس بعثتها في فرنسا والفاتيكان وإيطاليا، والمندوب المراقب الدائم لها لدى منظمة اليونسكو.
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى