لماذا لن تقع إنتفاضة ثالثة الآن في فلسطين
على الرغم من أن العنف بالسكاكين تطور بين الفلسطينيين والإسرائيليين حيث وصل إلى قلب الدولة العبرية في الأيام الأخيرة، فإنه ليس من المحتمل أن يؤدي ذلك إلى إنتفاضة ثالثة كما يفيد التقربر التالي:
رام الله – سمير حنضل
قام مسلَّحون ملثَّمون تابعون لحركة “فتح”، التي يتزعمها الرئيس الفلسطيني محمود عباس، بمسيرة في شوارع رام الله في أوائل تشرين الأول (أكتوبر) الحالي، مطلقين نيران اسلحة آلية في الهواء فيما تجمّعت حشود لتصوير الموكب، حيث أعادت الصور المأخوذة بالذاكرة إلى أيام الإنتفاضة الثانية، عندما قامت القيادة الفلسطينية علناً بتنسيق العنف ضد إسرائيل. ومنذ ذلك الحين، بدأت موجة طعن بالسكاكين فردية وجماعية، وهجمات صاروخية، وإشتباكات مع الإسرائيليين، الأمر الذي أدى إلى عشرات القتلى في إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة. لكن مع كل هذا الحديث عن إنتفاضة ثالثة، فإن نسبة إحتمال وقوع إنتفاضة أخرى هي تقريباً نفسها كما هو الحال في أي يوم آخر في هذا الصراع الغارق في الدماء.
تاريخياً، تحدث إنتفاضة عندما تؤيد القيادة الفلسطينية علناً وتنسّق مقاومة واسعة النطاق، كما فعلت اللجان المحلية (وفي ما بعد منظمة التحرير الفلسطينية) خلال الإنتفاضة الأولى في أواخر ثمانينات وأوائل تسعينات القرن الفائت، وكما فعل سلف عباس، ياسر عرفات، خلال الإنتفاضة الثانية في العقد الفائت. لقد شهد تسلّم عباس القيادة الفلسطينية نهاية الإنتفاضة الثانية، إذ أنه عمل على كبح جماح الخلايا “الإرهابية” في حركة “فتح” التي يتزعمها ومنافستها حركة “حماس” في الضفة الغربية. كما أنه أوضح في إجتماع لكبار المسؤولين يوم الثلاثاء في 6 تشرين الأول (أكتوبر) الحالي، بأن الفلسطينيين سوف يستخدمون “الوسائل السلمية ولا شيء غير ذلك” في صراعهم مع إسرائيل.
هذا لا يعني أن عباس لا يستعد لمعركة. بل يعني فقط أن معركته ليست مع الإسرائيليين. هي، بدلاً من ذلك، مع “حماس”. ففي الضفة الغربية، فإن “حماس” هي التي تسعى إلى إثارة المزيد من عدم الإستقرار ونشر الإشاعات المُغرضة والمشاعر المضادة لعباس. وفيما تسعى السلطة الفلسطينية إلى نزع فتيل التوتر مع إسرائيل، فإن “حماس” تحرّض علناً على الإحتجاجات الشعبية والهجمات الإرهابية في جميع أنحاء الضفة الغربية على أمل أن يؤدي المزيد من الإضطرابات إلى دفع عباس الضعيف أصلاً إلى الخروج من السلطة.
دورة مستمرة
بدأت دورة العنف الحالية في تموز (يوليو)، عندما ألقى مستوطنون إسرائيليون قنبلة حارقة على منزل فلسطيني في الضفة الغربية، مما أسفر عن مقتل طفل عمره 18 شهراً ووالديه. على الأثر، دعا مسؤولون من “حماس” إلى إحتجاجات، مع إعلان أحد المسؤولين بأن كل إسرائيلي هو “هدف مشروع” للإنتقام. في أيلول (سبتمبر)، أدت التوترات على مجمع المسجد الاقصى المتنازع عليه في القدس إلى إعلان “حماس” عن “يوم الغضب” في الضفة الغربية، حيث أصيب عدد من الفلسطينيين في مواجهات مع الإسرائيليين. وبعد أسبوع، قُتل فلسطينيان في مدينة الخليل في الضفة الغربية بعد مواجهات مع الجنود الإسرائيليين، وفي جنازتيهما، دعت “حماس” مرة أخرى إلى إحتجاجات عنيفة ضد إسرائيل.
تصاعد العنف في الأسبوع الأول من الشهر الجاري عندما قتل مسلحون فلسطينيون إسرائيليين كانا يقودان سيارة مع أطفالهما الأربعة في الضفة الغربية. وأشارت التقارير الأولية إلى أن الجماعة وراء الهجوم كانت “كتائب عبد القادر الحسيني” – جماعة متطرفة داخل حركة “فتح” تدار معظمها من قطاع غزة. ومع ذلك، أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي موشي يالون في وقت لاحق أن خلية تابعة ل”حماس” كانت وراء الهجوم وأنه تم القبض على الجناة. وأشاد مسؤولو “حماس” بالجناة، واصفين الهجوم بأنه “رد فعل طبيعي على الجرائم الإسرائيلية” وحثّوا على إستمرار “النضال ضد الإحتلال”. في غضون أيام، أدت هجومات بالسكاكين إلى جرح وقتل بعض الإسرائيليين في القدس الشرقية، الأمر الذي أدّى إلى تطويق البلدة القديمة حيث مُنِع جميع الفلسطينيين من دخولها بإستثناء أولئك الذين يعيشون هناك.
خارج القدس، مع ذلك، إستمرت أعمال العنف خلال هذا الشهر. طعن مهاجمون فلسطينيون بهجومات فردية إسرائيليين في مدن عدة في أنحاء البلاد. وقد توفي فلسطينيان من سكان غزة بعد إحتجاجات في معبر إيريز إلى إسرائيل. وقُتل شاب آخر يبلغ من العمر 17 عاماً خلال إحتجاجات في مدينة طولكرم في الضفة الغربية. كما قُتل فتى فلسطيني يبلغ من العمر 13 عاماً أيضاً في مدينة بيت لحم في الضفة الغربية بعد إشتباكات مع الجيش الاسرائيلي. ورداً على ذلك دعت حركة “فتح” إلى إضراب عام في المدينة يوم 6 تشرين الأول (أكتوبر) الجاري. كما تسببت جنازة الفتى بإشتباكات مع القوات الإسرائيلية حيث أصيب العشرات.
الواقع أن الخلافات بين “فتح” و”حماس” هي التي أدّت إلى الإضطرابات الحالية. لقد تصاعدت حدة التوتر بين الحركتين منذ العام 2006، عندما فازت “حماس” في الإنتخابات التشريعية، وبعد ذلك خاضتا حرباً أهلية قصيرة نتج منها سيطرة “الحركة الإسلامية” على قطاع غزة، لكنها أبقت حركة “فتح ” منافسة لها بإعتبارها القوة المهيمنة في الضفة الغربية. عادة، كانت الخصومة بينهما تقتصر على الإنتقادات الخطابية. ولكن منذ شكّل الطرفان حكومة وحدة في العام الماضي، تصاعدت المنافسة في سباق تسلح سياسي في الضفة الغربية. وأثار إنهيار حكومة الوحدة هذا الصيف موجة العنف الأخيرة في الضفة الغربية وإسرائيل.
من ناحية أخرى، وُضِعت محادثات السلام الإسرائيلية – الفلسطينية التي رعتها الولايات المتحدة في عامي 2013 و2014 في غرفة العناية الفائقة عندما قرر عباس الإنضمام إلى عشرات المنظمات الدولية في نيسان (إبريل) من العام الماضي، متحدّياً واشنطن والتحذيرات الإسرائيلية من أن مثل هذه الخطوات من شأنها أن تقوِّض عملية السلام. مع ذلك، جاء ناقوس موت المفاوضات، بعد بضعة أسابيع مع الإعلان المفاجئ عن الإتفاق على حكومة الوحدة بين “فتح” و”حماس”.
ومع ذلك، لم تكد الحكومة تتشكل في حزيران (يونيو) 2014 حتى أقدمت خلية تابعة ل”حماس” في الضفة الغربية على خطف وقتل ثلاثة مراهقين إسرائيليين. وقد شعر عباس في حينه بأنه خُدع من قبل شركائه المُكتشفين حديثاً في “حماس”، لذا أعطى إسرائيل تفويضاً مطلقاً لمطاردة وإلقاء القبض على خلايا التنظيم الإسلامي. ردّاً على ذلك، أطلقت “حماس” مئات الصواريخ من غزة، مما أدّى في نهاية المطاف إلى حرب مدمّرة في الصيف مع إسرائيل دامت 50 يوماً.
خرجت “حماس” من الحرب راكبة موجة من التأييد الشعبي الشامل، في حين بدا عباس غير فعّال وبعيد. لقد تم خداعه من قبل “حماس” ووجد نفسه الآن في موقف لا يُحسد عليه إذ عليه جمع الأموال لإعادة إعمار غزة. علاوة على ذلك، فقد أدى بطء وتيرة إعادة الإعمار بالعديد من الفلسطينيين إلى الإعتقاد بأن الرئيس الفلسطيني ببساطة لا يهمه سكان غزة. حاول عباس إستعادة الزخم من “حماس” مع حملة ديبلوماسية مضادة في الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث إتهم إسرائيل بإرتكاب “إبادة جماعية”، وهدّد بالحصول على إعتراف بالدولة الفلسطينية في مجلس الأمن الدولي. في كانون الأول (ديسمبر)، وضع أبو مازن الفلسطينيين على طريق الإنضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية.
ولكن بعد أسابيع على إنضمام فلسطين أخيراً إلى المحكمة الجنائية الدولية في نيسان (إبريل) 2015، عادت “حماس” إلى الظهور مع إنتصار كبير في الإنتخابات الطلابية في أكبر جامعة في الضفة الغربية. كان أول إنتصار ل”حماس” على “فتح” في جامعة بيرزيت منذ الحرب الأهلية بين الطرفين في العام 2007. ومنذ الإنتخابات الأخيرة في العام 2006، رأى العديد من المراقبين الفلسطينيين في أن الإنتخابات الطلابية هي المقياس الدقيق الوحيد للرأي العام. ولا شك في أن حلفاء عباس قد فكّروا الشيء نفسه. وقد تم تأجيل إإثنتين من الإنتخابات الطلابية في الجامعات الفلسطينية الأخرى إلى أجل غير مسمى، في حين رثى صائب عريقات حركة “فتح”: “لقد خسرنا خسارة كبيرة. . . بيتي يشعر بالإختناق”.
وكانت حكومة الوحدة “ميتة” أساساً في تلك الفترة. وقد داهمت قوات الأمن التابعة لعباس خلية ل”حماس” في الخليل في أيار (مايو)، وردّت “حماس” بالدعوة إلى إجراء تحقيق مع مستشار بارز لعباس. في تموز (يوليو)، أقال عباس حكومة الوحدة مع “حماس” وأعاد جمع الموالين له في حكومة تابعة للسلطة الفلسطينية. إنتقدت “حماس” هذه الخطوة وإعتبرتها بأنها “غير دستورية”، كما وصفتها بأنها “إنقلاب” ضد الحكومة. في غضون أسابيع، قاد الهجوم في دوما إلى غرق الضفة الغربية في دوامة.
تحرّك عباس المقبل
فيما تصعّد “حماس” أعمالها في الضفة الغربية، فلدى عباس عدد قليل من الخيارات. إن حركة “فتح” التي يتزعمها، يمكن القول، هي أضعف أكثر من أي وقت في فترة “أوسلو”. قد تكون الحركة القومية والمؤيدة للديبلوماسية تفقد جاذبيتها بين الفلسطينيين: لقد وجد إستطلاع حديث للرأي أن شعبية حركة “فتح” قد إنخفضت في الضفة الغربية فيما إرتفعت شعبية “حماس”. وتفيد الشائعات بأن الفريق الفتحاوي يواجه أزمة مالية خطيرة. كما أنه منقسم ليس فقط لوجود فجوة بين الأجيال، ولكن للخلاف المتزايد بين الموالين لعباس والإصلاحيين. وتحاول هذه الفئة الأخيرة فرض خليفة على الزعيم البالغ من العمر 80 عاماً والذي رفض حتى الآن تعيين نائب له. مع عدم وجود خليفة، وإستراتيجية، أو وسيلة لمكافحة جاذبية “حماس” المتزايدة، فإن “فتح” هي على أرضية غير ثابتة.
ومن جراء هذا الوضع الواهن وموقفه الضعيف يعمل عباس بإلحاح للحفاظ على الهدوء مع الإسرائيليين. وقد قام بتحذير الأمم المتحدة حول إلغاء إتفاقات “أوسلو”، ولكن تفجيره لل”قنبلة” كان أقل من تهديد لإسرائيل وأكثر منه كان نداء يائساً للحفاظ على أهميته ودوره المحلي. إن منافسته مع “حماس” قد وضعته في الزاوية، والوسيلة الوحيدة لديه للطعن ب”مقاومة” الحركة الإسلامية هي حملة دولية له ضد إسرائيل.
ولكن الفلسطينيين لم يعودوا مقتنعين بذلك بعد الآن. وكما قال احد الصبية في مخيم للاجئين في الضفة الغربية لأحد المراسلين: “لا أحد هنا يهتم بخطاب أبو مازن”. يعرف الفلسطينيون أن تهديداته بقطع العلاقات مع إسرائيل هي جوفاء: في الوقت الذي كان الإسرائيليون يكشفون إنقلابات “حماس” ضد عباس، فإن الزعيم الفلسطيني إستمر بالتعاون معهم كمسألة للحفاظ على الذات.
لذا سيحاول عباس تعزيز السيطرة حيث ما زال له سلطة. بعدما أعاد تشكيل السلطة الفلسطينية كمل تروق له في تموز (يوليو)، عزل خصمه لفترة طويلة في منظمة التحرير الفلسطينية، صائب عريقات، لصالح الموالين. ثم حاول تنظيم إستقالة جماعية من أعلى هيئة صنع القرار في منظمة التحرير الفلسطينية، اللجنة التنفيذية، من أجل خلط قيادة السفينة هناك أيضاً. لكن منافسيه في منظمة التحرير رفضوا تحركه، وسيكون على عباس أن ينتظر حتى إجتماع الجمعية العامة في وقت لاحق هذا العام لإختيار قيادة جديدة. في هذه الأثناء، سوف يركّز عباس على مؤتمر “فتح” الذي ينعقد في الشهر المقبل، حيث ستجري الحركة أيضاً إنتخابات داخلية. في المؤتمر الأخير في العام 2009، أبعد عباس منافسيه بينما كافأ حلفاءه بالمناصب العليا. وقد زاد ذلك المؤتمر حماس القاعدة وأدى إلى زيادة في دعم حركة “فتح” في الضفة الغربية. مما لا شك فيه أن عباس يبحث عن نتائج مماثلة وسط تصعيد معركته مع “حماس”.
من الواضح أن عباس يفتقر إلى السيطرة الكاملة على السياسة الفلسطينية في الضفة الغربية، وطالما تستطيع حركة “حماس” شن هجمات ضد الإسرائيليين، فإنها ستستمر في تقويض أي إحتمال لدوام الهدوء. إن عباس وإسرائيل قد تجنّبا إنتفاضة أخرى إلى حد كبير لأن عبّاس و”حماس” لن يتوافقان على واحدة.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.