إلى مَن نُقدِّمُ الطعنَ بـــ”الدُستوريّ”؟

بقلم سجعان قزي*

ليس الأذى إقصاءَ حزب “القوّاتِ اللبنانيّة” عن تعييناتِ المجلسِ الدُستوري (هذا صراعٌ بين أهلِ التسوية)، بل الأذى أن تُعيِّنَ الأحزابُ الأُخرى أعضاءَ المجلس (هذا اعتداءٌ على أهلِ الكفاءة). أيُّ قانونٍ يُجيزُ للأحزابِ والكُتلِ النيابيّةِ بأن تَتمثَّلَ في المجلسِ الدستوريّ، وهو أُنشِئ أساسًا لمراقبةِ سلوكِها في الحُكم؟ وأيُّ قيمةٍ لمجلسٍ دُستوريٍّ يُمثِّلُ الأحزابَ ويَتماثلُ معها؟ الأحْرى أنْ ندعوَه من الآنَ فصاعِدًا “المجلسَ الحزبي”.

لم يُعطِ الـمُشرِّعُ صلاحيّةَ تعيينِ أعضاءِ المجلسِ الدستوريِّ لمجلسَي النوابِ والوزراء، بما يُمثِّلان حزبيًّا وسياسيًّا وطائفيًّا، لكي يعيّنا أتباعَهُما، بل بصفتِهما مؤسَّستَين دُستوريّتين راقِيتَين (هكذا يُفترض) ومُؤتَـمَنتَين على ضميرِ الإختيارِ النقيِّ والمتجرِّدِ والأخلاقيّ، فــيُــعيِّنان إستنادًا إلى الهويّةِ العلميّةِ لا إلى الهويّةِ الحزبيّة. لكنَّ المجلسَين حوّرا وكالةَ الـمُشرِّعِ، ونَقَضا روحيّةَ الصلاحيّةِ المعطاةِ، وارتكبا جُرمَ “إساءةِ الأمانة”، واختارا بعضَ أعضاءِ المجلسِ الدُستوريِّ، “غِبَّ الطلب”، من أحزابِهما وكُتَلِهما بمنأى عن المعاييرِ والقيمِ المتَّبعةِ في الدولِ المحترمَة.

هكذا، بات المجلسُ الدستوريُّ، المؤهَّلُ لأن يَتلقّى الطُعونَ، مطعونًا فيه بالولادةِ رغم أنَّ بعضَ أعضائِه جديرٌ. السلطةُ السياسيّةُ أَفْقدَت المجلسَ الدستوريَّ صِدقيّتَه وحياديّتَه، وهي فَقدت، مرّةً جديدةً، نزاهتَها ورِفعتَها. كأنَّ هدفَ تَسْييسِ المجلس هو تعطيلُه لكي تَسْرحَ قِوى السلطةِ وتَمرحَ في التشريعِ الـمِزاجيِّ وفي مخالفةِ الدستورِ من دونِ “رقيبٍ أو حَسيب”.

غداةَ انتخابِه رئيسًا للجمهوريّةِ الفرنسيّة، طَلب الجنرال شارل ديغول الاطِّلاعَ على آليّةِ تعييناتِ المجلسِ الدُستوري، لا سيّما أنَّ بين أعضائِه الحُكميّين سَلفَيه، الرئيسين رينه كوتي (René Coty) وڤنسان أوريول(Vincent Auriol) . إحترمَ ديغول عملَ المجلسِ الدُستوريِّ الفرنسي وحيّدَه عن السياسةِ، لكنّه حَصرَ الإحتكامَ إليه خَشيةَ أن تَنزلقَ فرنسا في ما سمّاه “حكمَ القضاة” (le Pouvoir des juges)، فيما الشعبُ، بنظرِ ديغول، هو “المحكمةُ العليا”.

لقد حَلّت الدولةُ اللبنانيّةُ “الشُرطةَ الدستوريّة” التي تَنظُر في مخالفاتِها الدستورَ والقوانين وفي نزاهةِ الإنتخابات. وإني لأَضَعُ هذا التَصرُّفَ في خانةِ مسارِ هدمِ الدولةِ المركزيّة ونظامِها الديموقراطيِّ القائمِ على الفصلِ بين السلطات، وبخاصّةٍ بين السلطاتِ ذاتِ الطابعِ السياسيِّ (رئاسةِ الجُمهوريّة ومجلسَي النوّابِ والوزراء) والسلطاتِ القضائيّة (العدليّةِ والإداريّةِ والدستوريّة). في دولِ العالَم الحضاريِّ، يُسمّون أعضاءَ المجلسِ الدستوريِّ “الحكماءَ”، والمجلسَ “مجلسَ حكماءِ الجُمهوريّة” (Conseil des Sages de la République). يا ليتَ الدولةَ اللبنانيّةَ لم تَحرِمْنا لِذّةَ استعمالِ هذه التعابيرِ حيالَ المجلسِ الدستوريِّ الجديد. اليومَ أشعرُ بمعنى الحِرْمان.

ما اقترَفه هذا العهدُ ارتَكبَته عهودٌ سابقةٌ مع فارقٍ جزئيٍّ في نوعيّةِ القانونيّين المُختارين. لكن، أبعدَ من تعييناتِ المجلسِ الدستوريّ: مِن أين للأحزابِ اللبنانيّةِ أن تُصادرَ مناصبَ الإدارةِ عمومًا، خصوصًا أنَّ نظامَنا ليس قائمًا على أساسِ التداولِ الحزبيّ بل “التداولِ الذاتيّ”؟ حقُّ الأحزابِ أن تَتمثّلَ في مجلسَي النوابِ والحكومةِ. هناك ملاعبُها وساحاتُ نضالِها وجهادِها، وهناك حِصصُها في المقاعدِ النيابيّةِ والحقائبِ الوزاريّة. أما الإدارةُ فحقُّ الشعبِ والنُخبِ وأصحابِ الكفاءاتِ والإختصاص. هل أصبح لبنانُ مُلكَ بعضِ الأحزابِ والبقيّةُ أُجَراء؟ هل أصبح العملُ في إدارةِ الدولةِ يحتاج إجازةً حزبيّةً؟ والولاءُ للبنان يَـمرُّ بالولاءِ للقوى السياسية؟

أيّها السياسيّون: “خَلّوا” شيئًا للناسِ في هذه الدولة. دَعوا الأجيالَ اللبنانيّةَ تَشعر أنَّ هذه الدولةَ دولتُهم لا دولةَ الطبقةِ السياسيّة فقط، خصوصاً أنَّ هذه الطبقةَ ليست كلُّها في خدمةِ الدولةِ اللبنانيّة. أتْــركُوا بارقةَ أملٍ لأولادِنا، وأولادِكم، ليَبقَوا في البلدِ ولا يهاجِروا إلى بلادٍ فيها إدارةٌ للناسِ وحتّى للمهاجِرين.

قبلَ “اتفاقِ الطائف” كانت وظائفُ الإدارةِ اللبنانيّةِ محظورةً على الحزبيّين المُلتزِمين، فبقيت الإدارةُ للجميعِ والقضاءُ فوقَ الجميع. لكنْ بعد الطائف، فَتحت الدولةُ ـــ وأيُّ دولةٍ؟! ـــ أبوابَ وظائفِها الإداريّةِ والقضائيّةِ والأمنيّة والعسكريّة لأبناءِ الأحزابِ والميليشيات وبيئاتِهم الحاضنِة. فكان الإجتياحُ بعد الحَظْر والإختلالُ بعد توازنٍ، وكانت الشراهةُ بعدَ جوعٍ والرواتبُ الوهميّةُ والوظائفُ الزائدة، وكانت العدديّةُ دون الأهليّةِ بدلَ النوعيّةِ مع الكفاءة.

النفعيّةُ تسود إداراتِ الدولِ التي تعيش ـــ مثلَ لبنان ـــ على التسوياتِ المتعاقِبةِ، إذ تُمسي الإدارةُ، والقضاءُ ضِمناً، ضحيّةَ الإتفاقِ السياسيِّ التسوويِّ. في دولِ العالم الصراعُ دائمٌ بين الإدارةِ والسياسة. دولٌ اعتمدَت نظامَ الثنائيّةِ الحزبيّةِ وأَخضَعت الوظائفَ الأساسيّةَ في الإدارةِ للحزبِ الحاكم بعد موافقةِ الكونغرس (الولاياتُ المتحدة الأميركية). ودولٌ فَصلت إدارتَها عن الأحزاب مع حقِّ اعتبارِ الميولِ السياسيّةِ شرطَ أن يكونَ المرشحون متساوِين بالكفاءةِ والإختصاص (ألمانيا). ودولٌ أَنشأت معاهدَ تتولّى تحضيرَ كوادرِ الإدارةِ والقضاءِ والديبلوماسيّة واحتفَظت السلطةُ الحاكمةُ بالوظائفِ المرحليّةِ في مكاتبِ الرؤساءِ والوزراءِ (فرنسا). ودولٌ تركت الوظائفَ العامّةَ للمنافسةِ المهنيّةِ على غرارِ الحالِ في القطاعِ الخاص (غالِبيّةُ دولِ أوروبا الشماليّة). لكنَّ اختلافَ الآليات، لم يَحُل دون أن تحتكمَ سلطاتُ هذه الدول، على العموم، إلى قواعدِ النزاهةِ والكفاءةِ والأَهليّةِ والإستقامةِ. هناك، الشعوبُ تحاسِبُ والقضاءُ يلاحِقُ وأجهزةُ الرقابةِ تُجازي. هناك حسٌّ بالمسؤوليّة.

لا أحدَ يَنكُر ضرورةَ الإنسجامِ بين الحكمِ والإدارة، لكنَّ هذا الإنسجامَ لا يَستلزمُ تطابقًا سياسيًّا والتزامًا حزبيًّا بينهما، بل مفهومًا واحدًا للشأنِ العامِّ والمصلحةِ الوطنية. واجبُ الإدارةِ أن تحترمَ الهويّةَ السياسيّةَ للحكم، فلا تُعرقِلَ مشاريعَه. وواجِبُ الحكمِ أنْ يحترمَ مهنيّةَ الإدارةِ وحياديّتَها، فلا يَسعى إلى إخضاعِها خِلافَ أصولِ الدستورِ والقوانين. وأيُّ إشكالٍ بين الحكم والإدارةِ يُعالجُ من خلالِ القضاءِ وأجهزةِ الرقابةِ، لا بتعيينِ أزلام. عدا أن الإدارةَ الحياديّةَ تَضمنُ استمراريّةَ ماكينةِ الدولةِ واستقرارَها مع تغييرِ العهود، الإدارةُ الحياديّةُ تخدمُ الحاكمَ بغضِّ النظرِ عن لونِه السياسيِّ، فيما الإدارةُ المسيَّسةُ تثيرُ قلقَ الحاكمِ الجديدِ وتعيشُ قلقَ التغييرِ والإقالة.

على العموم، معاييرُ اختيارِ العاملين في إداراتِ الدول ثلاثةٌ: معيارُ الإستحقاقِ (المجتمعاتُ المتقدِّمة)، معيارُ الإنتماءِ (المجتمعاتُ الناميّة)، ومعيارُ الرعايةِ (المجتمعاتُ المتخلّفة). لبنان يُطبّقُ المعاييرَ الثلاثةَ على الشكلِ التالي: 20% استحقاق، 40% انتماء و 40% رعاية. هذا يَعني أنّنا دولةٌ بنسبةِ 20%. وهذه نسبةٌ مرتفعةٌ مقارنةً بما نشاهدُ من معاصٍ وانحلال.

  • وزير لبناني سابق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى