إنخراط إيران في سوريا يُغيّر أسلوبها الحربي وطريقة مواجهتها العسكرية مع أميركا

على الرغم من التكاليف المادية والبشرية التي أنفقتها إيران بسبب تدخّلها في سوريا، فإن ذلك يبدو أنه كان مفيداً لها على الصعيد العسكري إذ أنه غيّر طريقتها وأسلوبها في الحرب، الأمر الذي سيكون له تأثير في أي مواجهة مستقبلية مع أميركا.

 

قاسم سليماني في سوريا: يتفقد الجبهة في دير الزور

بقلم أريان م. طباطبائي*

في ربيع العام 2011، وبعد مشاهدة موجة الإنتفاضات المُعارِضة التي أصبحت تُعرَف في النهاية باسم “الربيع العربي”، أعرب مُعلِّقون من مختلف المشارب والقوميات السياسية عن أملهم في أن تتحرك المنطقة نحو الديموقراطية. وكانت إيران مرّت بلحظة مماثلة قبل عامين، عندما احتج ملايين المواطنين على ما اعتبروه إعادة إنتخاب إحتيالي للرئيس المتشدد محمود أحمدي نجاد. لكن بحلول العام 2011، كانت طهران سحقت هذه الحركة بشكل فعّال. ونتيجة لذلك، شاهد الكثير من الإيرانيين “الربيع العربي” يتكشّف بحَسَد.

سوريا، على وجه الخصوص، إستولت على مخيلتهم. تحت حكم عائلة الأسد، كانت سوريا حليفة حاسمة للجمهورية الإسلامية والشريك العربي الحقيقي الوحيد لها. لهذا السبب، رحّب العديد من الإيرانيين، الذين عارضوا حكومتهم، بالإحتجاجات المُناهِضة للنظام السوري التي اندلعت في أوائل العام 2011 ورحبوا باحتمال سقوط بشار الأسد. على النقيض من ذلك، نظر المسؤولون في طهران إلى الوضع في سوريا بقلق عميق. وخوفاً من انهيار النظام الصديق في دمشق، خصّصوا موارد كبيرة لدعم الأسد، وعمّقوا تورط إيران مع تحوّل الإنتفاضة في سوريا إلى حرب أهلية شرسة.

حتى الآن، أنفقت طهران ما يُقدَّر بنحو 15 مليار دولار لدعم الأسد – حتى في الوقت الذي انهار الإقتصاد الإيراني تحت العقوبات بالنسبة إلى الجزء الأفضل من الحرب. بالإضافة إلى ذلك، يُعتقَد أن الجمهورية الإسلامية قد أرسلت حوالي 10,000 عنصر، بما في ذلك قوات مقاتلة، إلى سوريا بين العامين 2011 و2014. هذا العدد يغفل القوات غير الإيرانية المدعومة من طهران، والتي قدرتها صحيفة “وول ستريت جورنال” ب130,000 في العام 2014. وباعتراف طهران الخاص، توفي ما لا يقل عن 2,100 إيراني في الصراع بحلول العام 2017 ، بمن فيهم عدد من القادة العسكريين رفيعي المستوى. اليوم، حتى مع خفة حدة الحرب وقرب نهايتها، تستمر أكياس الجثث الإيرانية في العودة إلى ديارها.

لقد كان تدخل إيران المُكلِف حاسماً لبقاء الأسد. كما أثّر ذلك بعمق في إيران نفسها: لقد أدّت تجربة القتال في سوريا إلى تغيير طريقة إيران وأسلوبها العسكري في الحرب، حيث غيَّرت التكتيكات الإيرانية وأجبرت الجيش في البلاد على اكتساب قدرات جديدة، لا سيما عندما يتعلق الأمر بالتعاون مع الجيوش الأجنبية وتدريب القوات الوكلاء غير الإيرانيين.

ويبدو أن هذه التغييرات لن تقتصر على سوريا. مع تصاعد التوترات بين واشنطن وطهران، ستبدأ الولايات المتحدة وشركاؤها في الشعور بآثار التحوّل العسكري الإيراني. للتعرف على “كتاب اللعب” الذي قد تغرف منه طهران أسلوبها في أي صراع مستقبلي مع أميركا، ينبغي على واشنطن أن تُولي إهتماماً وثيقاً لما تعلّمه الإيرانيون في سوريا.

الطريق إلى التدخل

منذ بداية القرن العشرين، نادراً ما نشرت إيران قوات خارج حدودها. في 1973-1974، أرسل الشاه محمد رضا بهلوي بضعة آلاف من الجنود والمستشارين إلى سلطنة عُمان لمساعدة السلطان قابوس بن سعيد على سحق التمرّد. في وقت لاحق، في ظل الجمهورية الإسلامية التي تم تأسيسها حديثاً (1979)، خاضت إيران حرباً إستمرت ثماني سنوات ضد العراق في ظل حكم صدام حسين، والتي راح ضحيتها مئات الآلاف من الجنود الإيرانيين، ولكن لم يستطع أيٌّ من الطرفين إعلان النصر بشكل مُقنِع. في أعقاب الحرب بين إيران والعراق، التي انتهت في العام 1988، حدّدت طهران نطاق تدخلاتها الأجنبية بالمساعدة والمشورة. كانت البلاد تفتقر إلى قدرات عسكرية تقليدية كبيرة، واتبعت سياسة الإنكار كلّما كان من الممكن رؤية أعمالها على أنها غير شرعية أو خارج الحدود.

في بعض الأحيان، شنت إيران غارات جوية ضد الجهات الفاعلة غير الحكومية خارج حدودها. طوال تسعينات القرن الفائت، على سبيل المثال، إستهدفت البلاد الأكراد الإنفصاليين و”مجاهدي خلق”، وهي جماعة معارضة وصفتها القيادة الإيرانية بأنها منظمة إرهابية. ومع ذلك، بالنسبة إلى الجزء الأكبر، إنخرطت إيران في بلدان أجنبية من خلال تدريب وتجهيز وتبادل المعلومات الاستخباراتية مع قوات وكيلة – وعلى الأخص مع مقاتلي “حزب الله” في لبنان.

عندما بدأت الإضطرابات في سوريا في ربيع العام 2011، إتبعت طهران قواعد اللعبة المعتادة. فقد أرسلت التكنولوجيا والمعدات والأسلحة، بالإضافة إلى المستشارين الذين يُمكن الإستفادة من تجربتهم في سحق المتظاهرين المناهضين للنظام في البلاد. لكن عندما انحدرت سوريا إلى حرب أهلية شاملة، فقد تحوّل ما كانت تأمل طهران بأن يكون مهمة سريعة ومنخفضة التكلفة نسبياً لتحقيق إستقرار الحكومة السورية إلى مستنقع – واحدٌ ينبغي على القادة الإيرانيين والمخططين العسكريين التكيّف معه إذا أرادوا منع سقوط الأسد واستبداله بنظام عدائي.

في العام 2013، عندما اكتسبت قوى المعارضة زخماً ودعت القوى الغربية الأسد إلى التنحي، إستخدم الديكتاتور السوري أسلحة كيميائية وارتكب فظائع لتعزيز قبضته على السلطة. في أعقاب هذه الهجمات، بدأت طهران نشر قواتها القتالية الخاصة في سوريا كجزء من نهجٍ أكثر انفتاحاً وحزماً. بالإضافة إلى قوات الحرس الثوري الإسلامي، التي ترسلها طهران عادةً للقيام بمهامها السرية، نشرت البلاد أفراداً من ميليشياتها العسكرية التقليدية بالإضافة إلى ميليشيات المتطوعين المعروفة باسم “الباسيج”. في الوقت عينه، قام عدد من شركاء ووكلاء إيران التقليديين من غير الدول، وبخاصة “حزب الله” وبعض الميليشيات الشيعية العراقية، بإرسال قوات إلى سوريا.

لزيادة عدد هذه القوات، جنّدت طهران ونشرت ميليشيات جديدة مؤلفة من شيعة باكستانيين وأفغان، وُعِدَ بعضهم بالتعويض المالي والإقامة في إيران مقابل انضمامهم إلى القتال. (قيل إن إيران أيضاً أجبرت اللاجئين الأفغان الذين يعيشون داخل حدودها للإنضمام إلى هذه المجموعات الجديدة). وغالباً ما زار قادة الحرس الثوري الميليشيات على الخطوط الأمامية السورية، مما ساعد على ضمان وجود قنوات اتصال مباشرة مع المقاتلين والسيطرة عليهم أثناء قتالهم لدعم حكومة الأسد.

بالقدر عينه من الأهمية، توقّفت طهران عن محاولة إخفاء تورّطها في سوريا. بعد أن نفت وأنكرت في البداية عملياتها السرية هناك، كما تفعل عادة، بدأت طهران في الإعلان عن دورها في الصراع. بحلول العام 2016، كانت منصات وسائل الإعلام الإجتماعية التابعة للحرس الثوري الإيراني ومواقع الأخبار الحكومية تبث مقاطع فيديو لقائد الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني يزور جبهة القتال، مصافحاً وحاضناً المقاتلين الأجانب. وعندما ضربت فيضانات هائلة مناطق عدة في إيران في ربيع العام 2019، تم جلب المقاتلين الأجانب من سوريا للمساعدة في جهود الإغاثة من الفيضانات – وهي أعمال نشرتها أيضاً منصات الحرس الثوري ووسائل الإعلام الاجتماعية التابعة له.

لم تُنسّق القوات الإيرانية ووكلاؤها مع نظام الأسد فحسب، بل وأيضاً مع الحكومة الروسية، التي بدأت توفير الدعم الجوي للجهد السوري والإيراني في العام 2015. وقد مثّل هذا تطوراً مُهماً آخر. تاريخياً، كانت العلاقات بين طهران وموسكو مشحونة في معظم الأحيان، وهي علاقة مبنية على التعاون في ظل التوتر وعدم الثقة. لم تَمحُ الحرب في سوريا الشك المُتبادَل، لكنها قدّمت مثالاً رائعاً لما يُمكن أن يحققه التعاون عندما تتماشى المصالح الإيرانية والروسية. كان الدعم الجوي الروسي، المُنَسَّق بشكل وثيق مع الحرس الثوري الإيراني وشبكته من الوكلاء الأجانب، حاسماً في نجاح العمليات الإيرانية – ولإبقاء الأسد في السلطة.

تأثير سوريا

كانت الحرب في سوريا المرة الأولى التي تنخرط فيها القوات الإيرانية في قتال حقيقي خارج حدود إيران منذ انتهاء الحرب الإيرانية – العراقية. لقد كان لهذه التجربة تأثير عميق في التفكير العسكري الإيراني، مما أجبر طهران على تحديث عقائدها وإجراءاتها العسكرية، وزيادة تماسكها، وتعزيز قدرتها على القيام بعمليات مشتركة مع جيوش أجنبية. يُمكن أن يكون لتطور النهج الإيراني في الحرب عواقب حقيقية على الولايات المتحدة وقواتها المسلحة: سواء بشكل مباشر أو من خلال وكلاء، فمن المرجح أن يواصل البلدان الصدام في المستقبل المنظور. تعمل القوات الإيرانية والقوات المدعومة من إيران الآن على مقربة من الجيش الأميركي وشركائه في أفغانستان والعراق وسوريا والخليج اللعربي.

لا تزال القدرات التقليدية لإيران لا تُضاهي القدرات الأميركية. إضافة إلى ذلك، لا تزال الجمهورية الإسلامية لا تملك أسلحة نووية. وبدلاً، فإن أكبر تهديد تواجهه الولايات المتحدة من إيران يكمن في قدراتها الحربية المختلطة، التي طوّرتها وشحذتها طهران على مدى العقود الأربعة الماضية وتكاملت في سوريا. إن الجمهورية الإسلامية تتمتع الآن بقدرات توظيف جديدة وشبكة موسعة من الوكلاء، ومرجع إعلامي مضخم، وقدرة حادة على التنسيق مع الحلفاء المسلحين تقليدياً مثل روسيا.

في إشارة مُحتمَلة إلى تعميق العلاقات مع موسكو، وقّع البلدان اتفاقية تعاون عسكري في وقت سابق من هذا الشهر. لم يتم الإعلان عن التفاصيل، لكن يبدو أن الإتفاقية تنطوي على عنصر بحري مهم. مع سعي الولايات المتحدة لمواجهة النشاط الإيراني المتزايد في الخليج العربي ومضيق هرمز في ظل تصاعد التوترات، سيكون من الجيد النظر في ما تعلّمته طهران في سوريا. لقد غيّر دعم الأسد الطريقة الإيرانية وأسلوبها في الحرب، على الرغم من أنه ليس من الواضح إذا كان أي شخص في واشنطن لاحظ ذلك.

  • أريان م. طباطبائي عالمة سياسية مشاركة في مؤسسة “راند”، وباحثة كبيرة مشاركة في كلية الشؤون الدولية والعامة في جامعة كولومبيا.
  • كُتِب هذا الموضوع بالإنكليزية وعرّبه قسم الأبحاث والدراسات في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى