مُخيّم “الركبان” بين مطرقة الجوع والعطش وسندان النظام السوري

فيما تعمل الحكومة السورية – بمساعدة روسية – على تثبيت سيطرتها على شرق سوريا، يواجه النازحون داخلياً في مخيم الركبان الجوع أو العودة إلى العنف.

يرفعون لافتة: “الأسد يمنع الطعام والحليب عن أطفال الركبان”

بقلم جيس ماركس*

أعلنت وزارة الدفاع الروسية والسلطات السورية، في شباط (فبراير) الفائت، إنشاء “مراكز استقبال” وممرات إنسانية لعودة السوريين النازحين داخلياً في مخيم “الركبان” في شرق البلاد إلى المناطق الخاضعة لسيطرة النظام. فقد استندت روسيا، في خطوتها هذه، إلى استطلاع أجرته الأمم المتحدة أخيراً وأظهر رغبة سكّان مخيم الركبان في العودة إلى ديارهم. وقد أثارت الخطة التي وضعتها الحكومة السورية وشريكها الروسي لتسهيل مغادرة الأشخاص الراغبين في الخروج من المخيم، سجالاً دولياً. ويواجه أبناء المخيم أنفسهم خياراً صعباً، فإما البقاء والتضوّر جوعاً – بسبب الحصار على المخيم – وإما المغادرة والمجازفة بالتعرّض للعنف والقمع على أيدي النظام السوري.
فُرِضت قيود شديدة على وصول المساعدات الإنسانية إلى المخيم قبل أن تُقطَع هذه المساعدات بالكامل عندما أغلق الأردن الحدود في العام 2016 بعد سلسلة من الهجمات الدموية. فتحوّلت مسؤولية تأمين المساعدات الإنسانية إلى الركبان من ممثّلي الأمم المتحدة في عمّان إلى الوكالات التابعة للمنظمة الدولية في دمشق. وفي تشرين الثاني (نوفمبر) 2018، بعد مفاوضات مكثّفة بين سوريا وروسيا والأردن والولايات المتحدة والأمم المتحدة إستمرت أشهراً عدّة، تسلّم مخيم الركبان رزمة المساعدات الأولى من مكتب مفوضية الأمم المتحدة العليا للاجئين في سوريا. ثم وصلت دفعة ثانية من المساعدات من الأمم المتحدة في شباط (فبراير) 2019. غير أن النظام السوري منع، منذ ذلك الوقت، وصول المساعدات الأممية الضرورية لإنقاذ حياة أبناء المخيم البالغ عددهم نحو 40,000. ولم تتكلّل الدعوات التي وُجِّهت إلى موسكو ودمشق بغية السماح بوصول المساعدات الإنسانية إلى الركبان بالنجاح. وفي حين يضغط الأفرقاء من أجل النقل الطوعي للنازحين العالقين في مخيم الركبان باعتباره سبيلاً للخروج من الأزمة، تبقى أكثرية أبناء المخيم محرومةً من الوصول إلى المساعدات المباشرة. وعلى الرغم من أن ما لا يقل عن 13,100 مدني غادروا، وفق ما أُفيد، إلى المناطق الخاضعة لسيطرة النظام منذ آذار (مارس)، لا يزال نحو 30,000 شخص في المخيم، بحسب الأمم المتحدة.
ويبقى مستقبل المخيم محور مفاوضات أميركية-روسية مكثّفة. وبعد القرار الذي اتخذته إدارة دونالد ترامب في وقت سابق من العام الجاري بالإبقاء على جنود أميركيين في سوريا، إحتفظت الولايات المتحدة بوجود عسكري غير محدّد الأجل في التنف، ضمن مسافة 55 كلم من المخيم، ما يتسبب بتعقيد الجهود الروسية الهادفة إلى مساعدة الأسد على استعادة سيطرته على المنطقة الواقعة شرق سوريا. ومع تعثُّر المفاوضات الأميركية-الروسية، تحوّلت روسيا وسوريا نحو توسيع حضورهما في الشرق بذريعة مساعدة سكّان مخيم الركبان على العودة إلى ديارهم.
تطرح الخطة الروسية لإعادة سكان مخيم الركبان إلى ديارهم مشكلات كبيرة لهؤلاء الأشخاص. أولاً، لا تُقدّم الخطة أي ضمانات أمنية رسمية لطمأنة السكان المُتخوّفين من إرغامهم على الخضوع للتجنيد الإلزامي، أو من الإعتقال والحجز. وقد أعلنت الحكومة السورية عن خطتها بعدما كشف استطلاع مشوب بالعيوب نشرته المفوضية العليا للاجئين في شباط (فبراير) الفائت، أن معظم السوريين يريدون العودة إلى ديارهم. ولم تتطرق المفوضية في تقريرها إلى “الهواجس الشديدة بشأن الحماية” التي عبّر عنها أبناء المخيم على نطاق واسع. وبعد انقضاء أسبوعَين تقريباً، أصدر مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية تقريراً أشار فيه إلى الهواجس التي تُراود سكّان المخيم من العودة إلى مناطق خاضعة لسيطرة النظام.
والبقاء في المخيم خيارٌ محفوف بالمخاطر أيضاً، نظراً إلى تدهور الأوضاع منذ قيام القوات الروسية والسورية بقطع جميع الطرق الرئيسة المؤدّية إلى المخيمات – فحتى المهرّبين لم يعودوا قادرين على نقل الطعام إلى الخيَم يعتقد عدد كبير من أبناء المخيم أن الروس والسوريين يعملون على التسبب بأزمة إنسانية أسوأ في الركبان بهدف طرد الأكثرية المتبقّية في المخيم.
وتراجعَ أيضاً إلى حد كبير الدور الذي كانت الأمم المتحدة تؤدّيه في الحرص على أن تتم عملية العودة وإعادة الدمج وفقاً لأحكام القوانين الدولية. فوصولها المحدود إلى المخيم يُعطّل قدرتها على مراقبة العودة بطريقة فعّالة. واقع الحال هو أن روسيا وسوريا تتحكّمان بآلية العودة في ظل غياب كبير للشفافية والمساءلة.
من شأن المفاوضات الأميركية-الروسية، في حال استئنافها، أن تولّد خيارات مُستدامة تذهب أبعد من مجرد إعادة النازحين داخلياً إلى ديارهم. فمنذ إعلان إدارة ترامب عن خطط للإنسحاب من سوريا في كانون الأول (ديسمبر) الماضي، طالب النازحون داخلياً في مخيم الركبان بمجموعة متنوعة من الخيارات منها نقلهم إلى شمال سوريا أو الأردن. يُشار إلى أن نقلهم إلى شمال سوريا يعني على الأرجح أنه سينتهي بهم الأمر في مناطق شمالية تسيطر عليها تركيا وفي الشمال الشرقي الخاضع لسيطرة قوات سورية الديموقراطية، حيث سيكون هؤلاء النازحون خارج سيطرة النظام السوري.
تتوقف قابلية هذه الخيارات للتطبيق على موافقة مجموعة واسعة من الأفرقاء الذين غالباً ما تتباين مواقفهم، وعلى معالجة المسائل والتفاصيل المتعلقة بالنقليات، والأمن، والمساكن في الأماكن التي سيُعاد توطين النازحين فيها. وتتطلب العودة الآمنة والطوعية التي تحفظ كرامة الأشخاص، إجراء مفاوضات متعددة الأطراف لتأمين الضمانات الضرورية والإستعانة بمراقبين للإشراف على العملية. غير أن السجال بشأن وصول المساعدات الإنسانية إلى الركبان يكشف عن غياب الإرادة السياسية لدى جميع الأفرقاء للتوصل إلى تسوية مستدامة.
ويجب التوقف أيضاً عند ظروف المجتمعات التي سيُنقَل إليها اللاجئون. تشهد إدلب عملية عسكرية سورية-روسية واسعة النطاق، ما يتسبب بنزوح مئات آلاف المدنيين. وفي الشمال الشرقي، تستمر التشنجات فيما تحاول الولايات المتحدة منع تركيا من التدخل في المناطق الخاضعة لسيطرة الأكراد. وتلوح في الأفق أزمة إنسانية أخرى في مخيم الهول، وعلى الولايات المتحدة وحلفائها أن تُعيرها الإهتمام اللازم.
على نطاق أوسع، وعلى الرغم من انحسار وتيرة القتال في مختلف أنحاء سوريا (ما عدا إدلب)، لا يزال الشعب السوري يتكبّد معاناة تتوالى فصولاً، بسبب الأوضاع السياسية التي تزداد تعقيداً. ليس مخيم الركبان سوى واحدة من أزمات إنسانية عديدة حيث يجد المدنيون أنفسهم عالقين بين المصالح المختلفة للأفرقاء الدوليين. وفيما يبسط النظام السوري باطراد سيطرته على البلاد جغرافياً وسياسياً وإدارياً، غالب الظن أن سلطته ستمتد أيضاً لتشمل العمليات الإنسانية الهادفة إلى معالجة هذه الأزمات، الأمر الذي سيمنحه درجة كبيرة من السيطرة على مصير النازحين السوريين في مختلف أنحاء البلاد في المدى الطويل. وهذا المشهد يرسم مستقبلاً قاتماً بالنسبة إلى النازحين داخلياً الذين يتخوّفون من العودة إلى المناطق الخاضعة لسيطرة النظام.

* جيس ماركس زميل في برنامج فولبرايت الخاص بالأردن، وباحث في شؤون الشرق الأوسط في جامعة كمبريدج.
* عُرِّب هذا المقال من اللغة الإنكليزية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى