لماذا هذا الودُّ الإيراني الطّارئ لمصر؟

محمّد قوّاص*

على إثر قيام الثورة في إيران في العام 1979، قدّمت مصر، في عهد الرئيس الراحل أنور السادات، لشاه إيران المخلوع محمد رضا بهلوي المَلاذَ الآمن. أثارَ الأمرُ حينها غَضَبَ طهران، وكان أن أطلقت لاحقًا اسم قاتل الرئيس السادات على شارعٍ في العاصمة الإيرانية. ولا يعود أمرُ التناقض بين مصر وإيران إلى هذه الأسباب فقط، بل إنَّ هذه التفاصيل هي واجهاتٌ لحالةِ توتّرٍ طبعت، في مراحل مُتعدّدة، تاريخ العلاقة بين البلدين.

قيلَ في كُتُبِ التاريخ إنَّ الملك فاروق شَجَّعَ شقيقته الأميرة فوزية إبنة الملك فؤاد الأول والملكة نازلي على الزواج من محمد رضا بهلوي في العام 1939، وكان حينها وليًّا للعهد في إيران. قيل يومها إن الأمرَ يَتّسِقُ مع خيار فاروق الانفتاح شرقًا، واعتُبِرَ الأمرُ أيضًا دافعًا لوحدةٍ بين السنّة والشيعة كان الأزهر راعيًا لها. حتى أن جماعة “الإخوان المسلمين” رحّبت بالأمر واعتبره حسن البنا، المُرشد العام للجماعة، “فاتحةَ عهدِ يُمنٍ وسعادة للمملكتين المصرية والإيرانية العريقتين في الحضارة والمدنية، الشقيقتين في الدين والآمال والتقاليد”، في برقيةٍ رسمية بعثها إلى رئيس وزراء إيران، محمود جام، سنة 1938.

حصلَ الطلاق في العام 1945، لكن الأمرَ، رُغمَ أنه من حكاياتِ القصور العائلية، تسبّبَ في أزمةٍ بين البلدين. ولا شكَّ في أن إطاحة الملك في العام 1952 وقيام عهد “الثورة” الناصري في مصر باعدَ ما بين القاهرة وطهران اللتين اندرجتا داخل مُعسكَرَين متقابلَين في مرحلةِ الحرب الباردة. مالت طهران إلى المعسكر الغربي ومالت القاهرة إلى المعسكرات المُناكفة لهذا الغرب.

ابتسمت طهران كثيرًا حين أُطيحَ حسني مبارك في العام 2011، وابتسمت أكثر وأكثر حين بات محمد مرسي رئيسًا للبلاد في العام 2012. كانت الجمهورية الإسلامية قد نسجت علاقات حميمة مع “جماعات” الإخوان المسلمين في العالم العربي (ما عدا الجماعة في سوريا). فاستقبلت قادتها ورعت أنشطتها ودعمت تنظيماتها، ثم اعتبرت أن حليفًا لها بات يقود الدفّة في مصر. تبادلَ الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد ونظيره المصري محمد مرسي الزيارات: طهران (2012) والقاهرة (2013). ومع ذلك لم يتجاوز الأمر حدود التجريب الذي لم يُعمّر طويلًا.

ورُغمَ أن لتلك الضبابية في علاقات مصر وإيران أسبابها وظروفها وحساباتها، لم يُلاحَظ عداءٌ بين البلدين بالمستوى الذي أظهرته دولٌ وأنظمةٌ وتياراتٌ في المنطقة ضد إيران وخيارات الوليّ الفقيه لديها في الشرق الأوسط. غير أن القاهرة بقيت مُتَحَفّظة في علاقاتها الإيرانية، مُلتَزمة بيانات جامعة الدول العربية وقممها، حريصةً على احترامِ مواقف دول الخليج، لا سيما السعودية، في مُقارَبةِ العلاقة مع إيران.

والأرجح أن طهران أدركت أن لا مصلحة لها في استفزاز القاهرة في وقتٍ كانت منابرها تتبجّح بالسيطرة على أربع عواصم عربية. سنة 2007 قال وزير خارجية مصر أحمد أبو الغيط إنه “إذا أزالت إيران الجدارية وغيّرت اسم الشارع الذي يحمل اسم خالد الإسلامبولي الذي اغتال الرئيس الراحل أنور السادات في العام 1981، فستُحَلّ 90 في المئة من المشكلات القائمة بين القاهرة وطهران”. فعلت إيران ذلك وغيّرت اسم الشارع وأزالت هذا المانع، ومع ذلك لم يحصل التطبيع المُتَوَخّى إيرانيًا مع القاهرة.

وفقَ هذه الخلفية يُمكنُ الاستنتاج أن القطيعةَ بين مصر وإيران هي فرعٌ من أصل، وأن لا موانع جيوستراتيجية بنيوية تَحولُ دون تطبيع العلاقات بين طهران والقاهرة. والواضح أن الاتفاقَ الذي أُبرِمَ بين السعودية وإيران في 10 آذار (مارس) الماضي في بكين باتَ يرفع عن العلاقة المصرية-الإيرانية الحَرَج، وأن ما استجدَّ بعد ذلك من “تطبيعٍ” عربي للعلاقة مع دمشق، الحليف العربي الأوّل لطهران، يجعل لأمرِ التطبيع بين القاهرة وطهران منطقًا له سياقاته ومبرّراته وربما ضروراته.

تَطرُقُ طهران، لا القاهرة، طبولَ الحدث المقبل. يصدرُ الأمرُ عن قياداتٍ إيرانية خلفية، لكنه يُمثّلُ تمنّياتٍ تُعرِبُ عنها وزارة الخارجية في طهران من دون أن تَصدُرَ تأكيدات رسمية بشأن مفاوضات وإعادة فتح سفارات وحتى لقاء مرتقب بين الرئيسين، المصري عبد الفتاح السيسي والإيراني إبراهيم رئيسي.

في 14 أيار (مايو) الجاري قال عضو لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في مجلس الشورى الإيراني، فدا حسين مالكي، إنه ستتم إعادة فتح سفارَتَي إيران ومصر في كلٍّ من القاهرة وطهران قريبًا، وفقًا لما نقلته “وكالة أنباء مهر” الإيرانية.

وفي مطلع هذا الشهر نقلت الوكالة عن رئيس لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان الإيراني وحيد جلال زاده، قوله إن الاستعدادات جارية لفتح السفارتين في إيران والسعودية، ليتبعها تبادل السفيرين بين البلدين.

واكتفى وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، في 14 أيار (مايو) الجاري أيضًا، بالإعلان أنَّ بلاده تأملُ أن ترى انفتاحًا جدّيًا في العلاقات الإيرانية-المصرية.

في المقابل، تَصمُتُ القاهرة ولا شيءَ يصدرُ عن مؤسّساتها المَعنيّة أو حتى إعلامها يوحي بالأمر. يشبه ذلك ما حدثَ في شأن العلاقة السعودية حين كانت طهران وبألسنةِ وزراء خارجيتها تُطلِقُ الدعوات إلى التطبيع. أما في عهد حسين أمير عبد اللهيان فكان الرجل يُكرّرُ الإعلان عن تقدّمٍ كبير في حوار البلدين، فيما كان نظيره السعودي الأمير فيصل بن فرحان يتحدّث لمامًا عن حوارات بغداد، وهو إن حكى فكان يصفها بـ”الاستكشافية”.

وحين تُسأَلُ القاهرة عن موقفها يصدرُ عن خبرائها ما يُفيدُ بأنَّ للقاهرة رؤى وحسابات تختلف عن تلك التي هي لدى عواصم عربية أخرى في قياسِ العلاقة بطهران والموقف من إيران. ما زالت القاهرة لا ترى في اتفاق بكين السعودي-الإيراني إلّا عناوين كُتِبَت بقلم رصاص تحتاج إلى الوقت والتطبيق في ملفاتٍ شديدةِ التعقيد.

تودّ طهران التعبير عن رغبةٍ تَعكُسُ خيارات قادتها الجديدة لتطبيع العلاقات مع العالم العربي، ومصر أساسٌ في تلك المُقاربة. يُروى أن عبد اللهيان كان أبلغَ في زيارته الأخيرة بيروت الأمين العام لـ”حزب الله” بالأمر بصفته خيارًا استراتيجيًا نهائيًا، وعلى كل الأذرع التموضع وفق ذلك التحوّل.

ورُغمَ أهمّية الاستدارة الإيرانية صوب السعودية والمنطقة، ومصر هذه الأيام، غيرَ أنَّ طهران تلتحقُ بشكلٍ أو بآخر بتلك الاستدارة الكبرى التي نفّذتها تركيا بزعامة رجب طيب أردوغان صوب العالم العربي. أجرت تركيا مصالحة مع السعودية والإمارات بعد مرحلةٍ من الخلاف والخصومة والتوتّر والنفور، فيما هي ذاهبة بهذا الاتجاه صوب مصر، ناهيك باستدارة صوب دمشق صعب تخيّلها قبل شهور.

وإذا ما أظهرت إيران مزيدًا من الجدّية والحماسة في إزالة كل موانع تطبيع العلاقات مع مصر، فذلك يعني أن إيران ستأخذ جيدًا بعين الاعتبار هواجس القاهرة في أمنها الداخلي (ولطالما كانت لأذرعِ الإرهاب امتدادات إيرانية) والخارجي (ولطالما كانت لطهران أجندات سودانية وإثيوبية وأفريقية وغزّية..إلخ). وعلى هذا فإن القاهرة تريد للمصالحة مع إيران أن تكون حدثًا مصريًّا في المتن لا يكون من الأعراض الجانبية لـ”صلح بكين” بين الرياض وطهران.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى