صفقة النفط الأممية الفاشلة تؤجّج نار التناحر في ليبيا

بدلاً من العمل على توحيد شركتي النفط الوطنيتين المنقسمتين وحل الميليشيات المتناحرة التي لا تعد ولا تحصى في ليبيا، فإن محاولات الأمم المتحدة الخرقاء لإستئناف صادرات النفط قد دفعت الجميع إلى معركة ضارية.

خريطة توزع المواد الهيدروكربونية في ليبيا
خريطة توزع المواد الهيدروكربونية في ليبيا

طرابلس الغرب – خالد الديب

يبدو الإختلال الوظيفي الحالي في ليبيا أكثر غرابة مما يدركه الناس. ما يُسمّى حكومة الوحدة الوطنية، المعروفة أيضاً بإسم حكومة الوفاق الوطني، ليست في الواقع إتحاد الميليشيات الرئيسية في البلاد. كما أنها لا تمثّل جغرافياً البلاد من خلال الجمع بين مراكز القوى. فهي تشمل بشكل حصري تقريباً سماسرة السلطة في مصراتة وطرابلس.
إن “الإندماج” الذي كان من المُفترَض أن يحدث في 2 تموز (يوليو) بين شركتي النفط الوطنيتين الشرقية والغربية المتنافستين هو عملية مماثلة من الإبداع اللغوي. لم تزل حكومتا طبرق الشرقية والوفاق الوطني الغربية في طرابلس تتبعان سياسات نفطية مختلفة وتحافظان على شركتين وطنيتين للنفط منفصلتين. في وقت واحد، تحاول كلٌّ منهما منع الأخرى من الإستفادة من الثروة النفطية للبلاد. في وقت لاحق، يبدو أن الإعلان عن نية للإندماج في حزيران (يونيو) الفائت من المرجح أنه قد لُفِّق لتهدئة مطالب الدول الغربية لتحقيق تقدم في مجال النفط.
الواقع أنه خلال أواخر الشهر الفائت، إكتشف المراقبون أن المجتمع الدولي والأمم المتحدة يضاعفان الجهود لتطبيق إستراتيجية “النفط أولاً”. بدلاً من السعي إلى تأمين تنازلات سياسية حقيقية أو تحفيز القتال بشكل مُنسَّق ضد تنظيم “الدولة الإسلامية”، يبدو أن الأمم المتحدة أعطت الأولوية لرشوة الميليشيات الرئيسية للسماح بتدفق النفط من خلال البنية التحتية التي تسيطر عليها هذه القوى. وهذه لن تكون المرة الأولى التي يشارك فيها مبعوث الامم المتحدة الخاص الى ليبيا في رشاوى. ومما لا يثير الدهشة، هو أن نتائج هذا التدخل العكسية بدأت فعلياً.
منذ فترة طويلة كان هناك تقدير وإدراك أنه ليست هناك أي سيطرة لتنظيم “داعش” على الساحل، ولكن بدلاً من ذلك هناك تنافس بين الفيديراليين – الجيش الوطني الليبي بقيادة الجنرال المارق خليفة حفتر – والميليشيات الإسلامية المتحالفة في مصراتة التي تمنع إنبعاث صادرات النفط والغاز الليبية. وقد إحتل الفيديراليون لفترة طويلة المحطات الرئيسية في مرفأي رأس لانوف والسدرة، والتي تقع في منطقة الهلال النفطي التي تمتد من بن جواد شرق مدينة سرت، إلى مرسى البريقة، جنوب غرب بنغازي.
ومع علمهم أن الحيازة هي تسعة أعشار القانون، فقد أغلق رجال الميليشيات المتنافسة حنفية محطات النفط الرئيسية في ليبيا في 2013-2014 عندما كانت الأسعار لا تزال مرتفعة بشكل معقول، الأمر الذي أثّر سلباً (في حينه) على خزينة الحكومة في طرابلس وجعلها على عتبة الإفلاس. بإعترافهم، لقد كلّفت “ضربتهم” ليبيا ما يقرب من 100 مليار دولار خسارة في الإيرادات. وعلى هذا الأساس إعتذر الزعيم الفيديرالي إبراهيم الجضران عن الأضرار السابقة التي ألحقها مؤيدوه، لكنه أكّد على أنه إذا لم يتم شمله في أي إتفاق لتقاسم السلطة في المستقبل، فإنه يمكنه وسيمنع محطات النفط من العودة إلى الإنتاج والتصدير.
على هذا النحو، كانت قوات حرس المنشآت النفطية التابعة له الميليشيا الشرقية الرئيسية المتحالفة مع حكومة الوفاق الوطني التي تدعمها الأمم المتحدة. وعلى الرغم من أنها أصبحت شرعية كلاعب سياسي، فإن النفط لم يتدفق، إذ أن الجضران ببساطة يفتقر إلى القدرة على تقديم زيادة في الإنتاج. في الواقع، فقد تضاءلت سلطته الفعلية في الهلال النفطي خلال الشهرين الماضيين فيما لمع نجم حفتر. وعلاوة على ذلك، فإن محطات النفط الرئيسية معطوبة ولا يمكن إصلاحها بسبب الإهمال وتكرار هجمات تنظيم “الدولة الإسلامية”.
في هذا الصدد، قال ريكاردو فابياني من مجموعة أوراسيا: “إن مدى الضرر اللاحق بالبنية التحتية في رأس لانوف والسدرة غير واضح. تبلغ الطاقة الإسمية للمرفأين حوالي 600,000 برميل يومياً، وهو ما يعني أنه حتى لو عملا بطاقة 30٪ فإنهما لا يزالان بحاجة إلى إضافة كبيرة قدرها 200,000 برميل يومياً”. بيان فابياني يمثّل كلاماً تقنياً دقيقاً بدلاً من قراءة سياسية لصعوبات التصدير التي تواجهها ليبيا. ومن جهته يواصل الجضران الوعد بأنه إذا تلقّى المال اللازم فإنه يمكنه إعادة فتح المحطات. الواقع أن خطابه يُبرز إعتقاده بأنه لا غنى عنه، وبالتالي زيادة قدرته على المساومة. في الواقع، قد يكون قادراً على تصدير النفط المخزّن بالفعل في الناقلات أو الصهاريج، وخصوصاً في الزويتينة.
بجهله وعدم إمساكه تماماً بديناميات نظرية اللعبة التقنية والسياسية المتداخلة، قام مبعوث الامم المتحدة مارتن كوبلر بزيارة الجضران في 21 تموز (يوليو) في محاولة للبحث معه في فتح مرافىء الهلال النفطي، والتي أتت بنتائج عكسية على الفور حيث أطلقت العنان للتدافع من أجل السيطرة على موانئ النفط نيابة عن كتائب الدفاع عن بنغازي الإسلامية وجناح الجيش الوطني الليبي الذي تدعمه العمليات الخاصة الفرنسية. وبعد أن صُدّت كتائب الدفاع عن بنغازي من الهلال النفطي في 23 تموز (يوليو)، نشر رئيس مجلس إدارة المؤسسة الوطنية للنفط المُعترَف بها دولياً، مصطفى صنع الله، رسالة لاذعة. مشيراً إلى العنف الذي سببه كوبلر عن غير قصد، كتب صنع الله بأنه شعر بالرعب جراء إقدام كوبلر على “توفير الإعتراف” بالجضران إذ “أن ما أقدم عليه يشكل سابقة رهيبة سوف تشجع جميع الذين يستطيعون حشد ميليشيا على إغلاق خط أنابيب، أو حقل نفطي أو مرفأ لكي يروا ما يمكن إبتزازه”.
وقد سادت هذه السابقة الرهيبة من الترضية والتملق لفترة طويلة في ليبيا. في العام 2013، على سبيل المثال، سعت ميليشيات البربر إلى إغلاق خط أنابيب الغاز الطبيعي إلى إيطاليا للحصول على الإعتراف بلغتهم في الدستور الليبي، وكل بضعة أشهر تقوم مجموعات مختلفة بإغلاق منشآت نفطية وموانئ مطالبة بحصولها على رواتبها غير المدفوعة. إن الجهات السياسية الفاعلة في ليبيا هي بلا خجل تنتمي إلى فئة المفكرين التي محصلتها صفر.
الحقيقة أن كل هذه الجماعات المُقاطِعة سوف تكون أفضل إذا تدفق النفط في ليبيا ووزّعت الثروة بشكل معقول إلى حد ما. ومع ذلك، فقد إستقرت منذ فترة طويلة على حالة كلاسيكية لمعضلة السجين. من جهته لا يريد الجضران تدفق النفط إذا كانت المؤسسة الوطنية للنفط في طرابلس، وبالتالي مصالح مصراتة والإسلاميين، ستستفيد من الإيرادات النقدية. تلك المصالح والأمم المتحدة قد تكون مستعدة لشراء الجضران للسماح بتدفق النفط، ولكن القيام بذلك قد يُخرج جهات فاعلة أخرى من اللعبة، مثل حفتر أو ميليشيات التبو في الجنوب، الأمر الذي سيولّد عرقلة للأمور. في حين قد يكون الجضران مسيطراً على موانئ النفط في الزويتينة والسدرة وراس لانوف، فإن الجيش الوطني الليبي والقبائل المتحالفة معه يسيطرون على حقول النفط في أحواض سرت والسرير، وهذا يعني أن صادرات النفط الثابتة من غير المرجح أن تُستأنف في المدى القصير.
في 26 تموز (يوليو) الفائت، حذر رئيس هيئة الأركان في الجيش الوطني الليبي عبد الرازق الناظوري من أن أي ناقلات نفط أجنبية تقترب من الساحل الليبي ستكون مُستهدَفة من قبل سلاح الجو. وقال الناظوري، الذي عيَّنه أخيراً رئيس مجلس النواب عقيلة صالح عيسى العبيدي حاكماً عسكرياً في الشرق، بأن ناقلات النفط الوحيدة التي تتعامل مع المؤسسة الوطنية للنفط (الشرقية) (أي التي يعترف بها مجلس النواب) سوف يُسمح لها بدخول المياه الليبية. وهذا الأمر يضيف تعقيدات إلى الإندماج المُفترض للمؤسستين الوطنيتين للنفط. ويأتي هذا التحذير بعدما أدانت كلٌّ من الإدارتين المتنافستين في المؤسستين الوطنيتين للنفط في طرابلس وبنغازي بشكل منفصل إجتماع مبعوث الأمم المتحدة مع الجضران. إن التهديد بالحصار يُعيد فعلياً ليبيا إلى مجموعة سابقة من التشكيلات السياسية. إن الجضران، الذي أصبح أخيراً حليفاً رئيسياً لحكومة الوفاق الوطني والمجتمع الدولي، سبق له أن خرج على القانون عندما حاول تهريب النفط بصورة غير مشروعة إلى الخارج.
في ربيع 2014، إستأجر الناقلة “Morning Glory ” التي ترفع علم كوريا الشمالية، والتي بعد وصولها إلى أعالي البحار تم إلقاء القبض عليها من قبل القوات الخاصة الأميركية. ولما كانت هذه السفينة قادرة على ترك المياه الليبية من دون أي إعتراض فذلك كان دليلاً كافياً عن عجز رئيس الوزراء علي زيدان. لذا بعد أيام من القبض على الناقلة خسر زيدان التصويت بحجب الثقة عنه وعن حكومته. وكانت هذه هي الخطوة الأولى التي أدت إلى إستقطاب مجلس النواب الذي تلاه إنقسام البلاد الى حكومتين متنافستين.
إذا كان التاريخ هو أي مؤشر، فإن الجضران إذا حاول مرة ثانية تهريب النفط فمن المرجح أن يكون الأمر كافياً للتسبب في إنهيار كامل لوساطة الامم المتحدة من أجل “توحيد البلاد”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى