روسيا ما زالت لديها اليد الطولى في أسواق الطاقة الأوروبية
فيما تقوم حرب باردة بين روسيا والولايات المتحدة للسيطرة على سوق الطاقة في أورويا، يبدو أن موسكو ما زالت تتمتع باليد الطولى في هذا المجال على الرغم من أن واشنطن قد سجّلت أخيراً بعض النقاط.
بقلم تيم غوسلينغ*
قام وزير الطاقة الأميركي ريك بيري بجولة في وسط وشرق أوروبا في منتصف تشرين الثاني (نوفمبر)، حيث أشاد بقدرات أميركا في مجال الطاقة وحذّر الدول من تعميق روابطها مع روسيا. لقد كانت الزيارة جزءاً من دفعة جديدة لإدارة دونالد ترامب في منطقة تُشكل الطاقة جزءاً من منافسة جيوسياسية أوسع.
بيري الذي وصل ظاهرياً كبائع ومسوّق للغاز الطبيعي الأميركي والصناعات النووية الأميركية، أشار إلى أن واشنطن مستعدة للتدخل في صراع طالما حرّض روسيا ـ مع مواردها الغازية الهائلة والعلاقات النووية مع دول الكتلة السوفياتية السابقة ـ ضد الإتحاد الأوروبي. إنه صراع يبدو أن الصين بدأت تنغمس فيه الآن والإنضمام إليه.
الرهانات عالية. وقال رئيس الوزراء التشيكي أندريه بابيس بعد اجتماعه مع بيري: “علينا أن نأخذ في الإعتبار توجّهنا الجيوسياسي بينما نستثمر في الطاقة النووية”. وكشفت الحكومة التشيكية في أواخر تشرين الأول (أكتوبر) أنها أخّرت مرة أخرى مُناقصة بشأن خطة للطاقة النووية، طويلة الأجل، لتوسيع نطاق منشآتها النووية الحالية، بسبب مشكلة تأمين التمويل. وتتنافس كل من الولايات المتحدة وروسيا على العقد، إلى جانب الصين وموردي المواد النووية الرئيسيين الآخرين.
أوضح بيري لبابيس السبب الذي يجعل “ويستنغهاوس” (Westinghouse)، الشركة النووية الأميركية التي تقدمت بطلب لإشهار إفلاسها في شباط (فبراير) الفائت، شريكاً قادراً على بناء مفاعلات نووية جديدة في جمهورية التشيك. وأضاف أن روسيا تستخدم الطاقة “كسلاح سياسي” في وسط وشرق أوروبا. على السطح على الأقل، قال بابيس أنه أخذ الرسالة على محمل الجد.
ومع ذلك، هناك تلميحات إلى أن التشيك يميلون إلى حل مشكلات التمويل الخاصة بهم من طريق نسخ ما فعلته المجر المجاورة، حيث قام رئيس الوزراء فيكتور أوربان قبل ثلاث سنوات بإلغاء مناقصة دولية بشأن توسيع المصنع النووي الوحيد في المجر من أجل التوصل إلى إتفاق مع موسكو. وتقوم وكالة الطاقة النووية الروسية (روساتوم) ببناء مفاعلين جديدين في محطة “باكز” (Paks) لتوليد الكهرباء التي تعود إلى الحقبة السوفياتية، حيث يقدم الكرملين قرضاً بقيمة عشرة مليارات يورو لدفع تكاليفها.
من جهته، حاول الإتحاد الأوروبي وفشل في إبطال الصفقة الهنغارية، مُستشهداً بقواعد المشتريات الصارمة للإتحاد. ومنذ ذلك الحين يحاول التشيك إقناع بروكسل بالسماح لهم ببعض المناورة في خطة الطاقة النووية، ولكنهم يلمحون إلى أن الإتفاق الهنغاري لا يزال مخططاً مُحتمَلاً لبراغ لم يُلغَ بعد.
وقال دانيال بينيس، الرئيس التنفيذي لشركة “سي إي زي” (CEZ)، التي تسيطر عليها الدولة، للصحافيين في 11 تشرين الثاني (نوفمبر): “لا يُمكنني أن أتخيّل أننا سنختار مزوّداً من دون مناقصة”، لكنه أضاف أن ذلك يمكن أن يتبع إتفاق حكومي دولي: “لا أحد يقول أنه يجب أن يكون الإتفاق مع روسيا، ولكن هناك الكثير من العناصر الإيجابية في النموذج الهنغاري”.
ويُسعد “روساتوم” بالطبع أن تُشجع مثل هذا الكلام. “كل التجارب التي لدينا … تُبين لنا بوضوح تام أن المناقصة الرسمية المفتوحة ليست هي أفضل طريقة لاختيار مقاول”، قال لي فاديم تيتوف، رئيس وحدة أوروبا الوسطى في “روساتوم”، في العام الماضي. “تمتلك روساتوم خبرة واسعة في بناء محطات الطاقة النووية بشروط تمويل مختلفة وهي مستعدة للقيام بدورها في أي نوع من الطراز المختار أو الذي إقترحته الحكومة التشيكية”، على حد قوله.
الديبلوماسيون الأجانب في براغ يشتبهون في التوصل إلى إتفاق مع موسكو. وتواجه “ويستنغهاوس” منافسة من شركات فرنسية أيضاً، لكن المنافس الأقوى هو جديد في المنطقة. الصين التي تسعى لإثبات قدرتها النووية في أوروبا ومُنشغِلة منذ فترة في زراعة علاقات جيدة مع الرئيس التشيكي ميلوس زيمان في السنوات الأخيرة، تدفع براغ إلى الموافقة على صفقة من دون مناقصة، كما تفيد التقارير.
لا تملك حكومات وسط وشرق أوروبا العديد من الخيارات إذ إنها توازن خطط الطاقة لديها مع إحتياجاتها التمويلية، وفقاً لجيفري روثويل، الخبير الإقتصادي الرئيسي السابق في وكالة الطاقة النووية التابعة لمنظمة التعاون الإقتصادي والتنمية. وهو يقترح أن التمويل من المرجح أن يأتي من روسيا أو الصين.
المال يشتري النفوذ. وفي أثناء زيارة إلى موسكو في أيلول (سبنمبر) الفائت، ورد أن الرئيس “فلاديمير بوتين” إستجوَب “أوربان” مرة أخرى بشأن الخلافات بين “روساتوم” وشريكها المجري الذي أخّر التوسع النووي “باكس 2” لسنوات عدة عن الموعد المحدد. نظراً إلى أن أوربان يُعتبر أقرب زعيم في الإتحاد الأوروبي إلى موسكو، فقد حصل على الطاقة الرخيصة – جزءٌ كبير منها في شكل واردات غاز روسية – التي هي حجر الزاوية في جدول أعماله السياسي المحلي.
وفي بولندا المجاورة، التي تتعرض لضغوط من الإتحاد الأوروبي للإنتقال بعيداً من المصانع التي تعمل بالفحم والتي تعتمد عليها لمعظم إحتياجاتها من الكهرباء، فقد أدّت مشاكل التمويل إلى وضع خطط لبناء أول محطة للطاقة النووية في البلاد على الرف. لن تقوم الحكومة البولندية الوطنية القوية، التي ليست صديقة لروسيا، بدعوة الكرملين للقيام بمهمة بيع في أي وقت قريب. وبدلاً من ذلك، تُركز وارسو على تحسين إمداداتها من الغاز. وعلى الرغم من أنه من المرجح أن تكون طموحة للغاية، إلّا أن حكومة القانون والعدالة المحافظة تقول إنها تريد الإبتعاد من الغاز الروسي بالكامل عندما ينتهي عقدها مع شركة غازبروم العملاقة، التي تقدم نحو 70 في المئة من الطلب، في العام 2022.
إن هيمنة روسيا على إمدادات الغاز إلى وسط وشرق أوروبا تُعرِّض المنطقة بأكملها لضغوط سياسية واقتصادية. على سبيل المثال، تحدث جميع الزعماء التشيكيين والهنغاريين والسلوفاك ضد فرض عقوبات من الإتحاد الأوروبي على روسيا.
وقد دفعت نقاط الضعف هذه الإتحاد الأوروبي إلى العمل. تقوم بروكسل بتمويل تطوير البنية التحتية وإشهار سلطة تنظيمية في محاولة لتقليل النفوذ الروسي. في العام 2015، نجحت في وقف وإخراج خط أنابيب “ساوث ستريم” عن مساره، والذي كان سيحمل 63 مليار متر مكعب من الغاز الروسي كل عام تحت البحر الأسود إلى بلغاريا وخارجها، كما أجبرت شركة غازبروم على إنهاء ممارساتها المناهضة للمنافسة، مثل العقود التي تُقيِّد تجارة الغاز بين دول وسط وشرق أوروبا.
لكن مصداقية الكتلة باتت على المحك أيضاً بعدما فشلت في الجهود المبذولة لتأمين إمدادات الطاقة البديلة إلى أوروبا الوسطى والشرقية من الودائع العملاقة في أذربيجان. والأهم من ذلك كله، أن نفوذ ألمانيا في الإتحاد الأوروبي قد منع أي محاولة لوقف خط أنابيب “نورد ستريم 2” الذي تبلغ تكلفته 11 مليار دولار عبر بحر البلطيق، والذي سيشحن الغاز الروسي مباشرة إلى ألمانيا للتوزيع في جميع أنحاء المنطقة.
وقادت بولندا المعارضة ضد “نورد ستريم 2” في وسط وشرق أوروبا، شاكيةً من أن المشروع سيُعمّق من إعتماد المنطقة على موسكو، ويُشكل جزءاً من استراتيجية الكرملين لزيادة زعزعة إستقرار أوكرانيا. وإدارة ترامب، التي تُركّز على تشجيع أصحاب النفوذ الشعبويين في الإتحاد الأوروبي، تدعم بولندا الآن وتُهدد بفرض عقوبات على الشركات الأوروبية المشاركة في خط الأنابيب.
وقد دفع بيري هذا الجهد وشجعه خلال جولته الأخيرة. في المجر، حذر أوربان من التورط في “تورك ستريم”، وهو في الأساس إحياء ل”ساوث ستريم” عبر تركيا. كما شهد في بولندا على توقيع إتفاق ثالث طويل الأجل لاستيراد الغاز الطبيعي المسال من الولايات المتحدة، والذي وسعته أخيراً إدارة ترامب.
وقال بيري في وارسو: “هذه إشارة عبر أوروبا بأن هذه هي الطريقة التي يمكن بها تطوير مستقبل الطاقة لديك، وأمن البلاد، وتنوع الإمدادات. هذا هو يوم عظيم بالنسبة إلى أوروبا”. إن الإتفاق يُعزز العلاقات بين إدارة ترامب والقيادة البولندية المحافظة التي عملت بجد لكسب إحتضانها عن كثب. ولكن في حين قد تُبدي واشنطن ووارسو الثقة، فإن قدرة هذا الزوج على تخفيف قبضة روسيا على أسواق الطاقة في أوروبا الوسطى والشرقية محدودة بالقدرات والتمويل والسياسة.
• تيم غوسلينغ صحافي مقيم في براغ قام بتغطية منطقة أوروبا الوسطى لسنوات عدة. وقد ساهم في الكتابة في “Politico Europe” و”Deutsche Welle” و”Financial Times”، من بين منشورات أخرى، كما قدم تحليلات حول المنطقة لوحدة معلومات الإيكونوميست و”IHS Markit”.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.