تركيا تسعى إلى دمج حلفائها في جيش وطني واحد لإعطائهم دوراً في مستقبل سوريا
بدلاً من أن تلقي أنقرة بثقلها كاملاً خلف توحيد المجموعات المتمرّدة السورية بسرعة، فهي تدفع شيئاً فشيئاً في هذا الاتجاه من دون أن تتسبب بخلل في الوضع القائم.
بقلم حايد حايد*
أعلن فصيل شهداء الشرقية،التابع لـ”الجيش السوري الحر” الذي يتمركز في مدينة جرابلس الخاضعة لسيطرة فصائل درع الفرات الخاضعة لقيادة تركيا، عن حلّ صفوفه في 28 تشرين الأول (أكتوبر) الفائت. وعلى الرغم من أن زعيم التنظيم صرّح أن القرار كان طوعياً، إلا أن مصادر محلّية أشارت إلى أن الفصيل تعرّض لضغوط من أنقرة لكي يحلّ نفسه على خلفية تحدّيه لتعليماتها. وتعمل تركيا على إنشاء دولة أوّلية إنطلاقاً من قوات درع الفرات، على أن تكون هذه الدولة على صورتها في الأراضي الخاضعة لسيطرتها في سوريا.
والواقع أن هذه الواقعة تسلّط الضوء على الهدف المعلَن الذي تسعى إليه تركيا، وهو إضفاء طابع مهني على حلفائها المتمرّدين، الأمر الذي من شأنه أن يؤدّي إلى تعزيز الإستقرار في المناطق الخاضعة لنفوذها، وقد يُتيح في نهاية المطاف للتنظيمات التابعة لها تأدية دور أكبر في مستقبل سوريا. غير أن الجهود التي تبذلها أنقرة لدمج هؤلاء الحلفاء والسيطرة عليهم لم تتكلّل بالنجاح، إما لغياب الإهتمام أو لعدم القدرة على التنفيذ. وعلى الرغم من الوحدة الشكلية، لا تزال تلك الفصائل المجزّأة زالمُنقسمة خارجة عن السيطرة ما يجعل منها عوامل مزعزِعة للإستقرار في شمال البلاد.
أطلقت القوات التركية، مدعومةً من مجموعة من المتمردين السوريين، عملية درع الفرات في شمال سوريا في آب (أغسطس) 2016. كان الهدف من هذه العملية بسط الأمن عند الحدود التركية عبر محاربة تنظيم “الدولة الإسلامية” وكبح النفوذ المتنامي للقوات الكردية السورية بقيادة وحدات حماية الشعب، والتنظيمان تصنّفهما أنقرة في خانة التنظيمات الإرهابية. ومن أجل أن تدير تركيا مجموعتها الواسعة من الحلفاء المسلّحين الذين يُقدّر عددهم بنحو 6700 مقاتل، إستخدمت غرفة عمليات درع الفرات للتنسيق بينهم وإصدار التعليمات. بيد أن الإنهاء الرسمي لحملة درع الفرات العسكرية بعدما حققت أهدافها، وفق ما أُفيد، في آذار (مارس) 2017، ولّد لدى تركيا حاجةً إلى إعتماد آلية مختلفة للسيطرة على حلفائها المسلحين.
نتيجةً لذلك، عمدت أنقرة إلى التنسيق مع “الحكومة السورية المؤقتة” (التي تُمثّل الإئتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية) لإنشاء هيكلية عسكرية رسمية ومركزية. وبعد أشهر من المفاوضات، أُعلِن عن تشكيل جيش وطني في كانون الأول (ديسمبر) 2017 لتوحيد الفصائل الثورية. وكان الهدف الأساسي في هذا الإطار هو إنشاء قيادة مركزية للقوات الثورية خاضعة لإمرة وزارة الدفاع في “الحكومة السورية المؤقتة”. وهدفت المبادرة أيضاً إلى تحقيق المهنية لدى القوات العسكرية عبر إنشاء منظومة تراتبية للحصول على هرمية عسكرية واضحة؛ وتأمين التدريب العسكري المتخصص والمنتظم؛ وتأسيس شرطة ومحاكم عسكرية للحدّ من الإنتهاكات بحق المدنيين وملاحقة المُرتكبين قضائياً.
في حين أن الهدف الذي يتوخّاه هذا الجيش هو السيطرة على جميع الأراضي التي هي في قبضة المتمردين، فقد أعلن رئيس “الحكومة السورية المؤقتة” أي حكومة المعارضة، جواد أبو حطب، أن الهدف الأساسي هو الإحتفاظ بالسيطرة على المناطق التي إستولت عليها فصائل درع الفرات. وقد ساهمت أنقرة، في إطار خطوةٍ أولى لتشجيع المجموعات على الإنضمام إلى الجيش الوطني، في تنسيق إجتماع بين حكومة المعارَضة و33 مجموعة ثورية في منطقة درع الفرات في تشرين الأول (أكتوبر) 2017. وقد وقّعت جميع المجموعات الثورية الحاضرة في الإجتماع وثيقةً أعلنت فيها عن موافقتها على توحيد فصائلها في ثلاث فرق عسكرية، على أن يُستتبَع ذلك باندماج كامل في الجيش الوطني.
لكن بمعزل عن هذا التوحيد الشكلي، لم تتبلور هيكلية وطنية على الأرض، وذلك بسبب التحديات التي تعترض تنظيمها، فضلاً عن مقاومتها من قِبَل قادة بعض المجموعات المسلحة. وعلى الرغم من أن المتمردين المتحالفين مع تركيا أعلنوا عن الإندماج في ما بينهم قبل عام، إلا أنه لا تزال لكل مجموعة قادتها وهيكلياتها وأجنداتها ومناطق نفوذها، ولا تمتلك القيادة المركزية للجيش الوطني سيطرة أو نفوذاً عليها. والسبب هو أن الأشخاص والقياديين الذين يُفيدون من الوضع الراهن يرون في الإندماج تهديداً لمصالحهم. على سبيل المثال، لا يزال عدد كبير من مجموعات المتمردين التي غادرت دير الزور للالتحاق بالقتال في المنطقة التي شملتها عملية درع الفرات، يسعى إلى العودة وتحرير مناطقه، في حين أن المجموعات المحلية ضمن الهيكلية القائمة تُعطي الأولوية للبقاء في المنطقة من أجل زيادة تأثيرها إلى أقصى حد.
بيد أن المخاوف من إقدام تركيا على قطع الدعم والتمويل – أو على حلّ هذه المجموعات ومنعها من دخول الأراضي التركية حيث يعيش عدد كبير من أنسباء المقاتلين – جعلت التنظيمات المعنيّة تُحجِم عن إبداء رفض قاطع للإندماج. لذلك وافقت فصائل كثيرة على الإندماج، لكنها تستمر في استغلال التأثير التركي الضعيف على الأرض كي تحافظ على نفوذها. وتُفيد التقارير بأن تركيا تتمتع بسلطة قوية على مقربة من المناطق الحدودية، مثل جرابلس والراعي، حيث تمتلك عدداً أكبر من الجنود، لكنها أضعف نحو الجنوب، حيث تفرض المجموعات المحلية سلطتها. ويقول المحلل العسكري نوار أوليفر إن “المجموعات التي تسعى إلى إنشاء مناطق نفوذ تبتعد من الحدود وتتّجه نحو مدينتَي الباب وأختارين”. وهكذا فإن الجزء الأكبر من الإنتهاكات التي يرتكبها المتمردون بحق المدنيين، والصراعات على السلطة بين الفصائل، يدور في تلك المناطق، لا سيما في الباب.
على الرغم من رغبة تركيا المُعلَنة بإضفاء الطابع المهني على حلفائها من خلال آليات التدريب والمُساءلة، إلّا أنها عاجزة عن أن تفرض على حلفائها المُنقسمين الإنضواء في إطار الجيش الوطني. وتخشى أنقرة أن يتسبّب اللجوء إلى الإجراءات المشدّدة (مثل التوقّف عن تمويل المجموعات) بظهور مقاومة مسلّحة. بيد أن تركيا لا تستعجل العمل على تحقيق المهنية لدى المجموعات المتحالفة معها، فالإنقسامات الراهنة في صفوفها تتيح لأنقرة إحكام سيطرتها عليها.
في الواقع، يبدو أن أنقرة قرّرت أن السبيل الأكثر أماناً لإدارة حلفائها هو الدفع ببطء نحو الإندماج من دون التسبّب بخلل في الديناميات السائدة على الأرض. لذا تواصل تركيا تمرير دعمها وتعليماتها مباشرةً إلى كل مجموعة بدلاً من أن تفعل ذلك من طريق القيادة المركزية للجيش الوطني، وهكذا تستمر هذه المجموعات في التعويل مادياً عليها. كما أن الخصومات بين هذه الفصائل تمنح أنقرة نفوذاً كافياً عليها بما يتيح لها أن تضمن مصالحها الفورية في سوريا، وعلى رأسها طرد القوات الكردية من عفرين وتل رفعت ومنبج، إلى جانب الإنخراط ديبلوماسياً مع روسيا للحؤول دون شنّ النظام هجوماً على إدلب. على سبيل المثال، تمكّنت تركيا من إقناع حلفائها بشن هجوم للسيطرة على عفرين في كانون الثاني (يناير) 2018، فيما كانت مدينة إدلب، التي تُعتبَر أكثر أهمية على الصعيد الاستراتيجي، تتعرض للهجوم من النظام.
بغية الحد من نفوذ هذه المجموعات، تستخدم تركيا تكتيكات مختلفة، منها ممارسة الضغوط على الفصائل الثورية لتسليم المعابر الواقعة عند حدودها (وهي مصدر أساسي للدخل) إلى كيانات مدنية تابعة ل”الحكومة المؤقتة” التي تقودها المعارضة. كما أن الجهود التي تقودها تركيا لإخلاء المناطق المدنية، مثل الباب، من القوات المتمردة، ولإنشاء قوات شرطة محلية وتدريبها، تؤدّي إلى خفض قدرة المتمردين على تحقيق منافع مالية من نقاط التفتيش والمعابر الحدودية والطرق التجارية المحلية. وفي كانون الثاني (يناير) الفائت، أنشأت حكومة المعارضة، بدعم تركي، محكمة وشرطة عسكريتَين في حلب، بهدف الحد من انتهاكات القوات المسلحة، أقلّه نظرياً.
يمكن أن تساعد هذه الإجراءات على التخفيف من بعض مضاعفات الفشل في تحقيق المهنية لدى حلفاء تركيا. إن الإنتهاكات التي يرتكبها أولئك الثوار ضد السكّان، تُولِّد مشاعر إستياء من المتمردين وكذلك من تركيا، الدولة الراعية. وفي هذا السياق، إندلعت مثلاً صدامات مسلحة بين أحرار الشرقية وأفراد من عائلة الواكي المحلية في 6 أيار (مايو) 2018، ما أسفر عن مقتل سبعة أشخاص وإصابة أكثر من خمسين آخرين بجروح. بالمثل، يؤدّي الدور الذي تلعبه المجموعات المسلحة في الحوكمة المحلية وفي المحاكم إلى غياب الفاعلية لدى هذه المؤسسات الأساسية، ما يولّد إستياء شديداً من تركيا لعدم إتخاذها الخطوات المناسبة لوقف هذا الدور.
من شأن توحيد حلفاء تركيا ضمن هيكلية عسكرية معيارية أن يعزّز حظوظهم بأن يتحوّلوا جزءاً من القوات المسلحة الرسمية في سوريا بعد النزاع – سواءً من خلال التوصل إلى إتفاق سياسي لإنشاء مجلس عسكري مشترك أو عبر إدارة المناطق المحلية في إطار من اللامركزية. لكن بدلاً من أن تُلقي أنقرة بثقلها كاملاً خلف هذا المشروع، يبدو أنها تستخدم مزيجاً من التكتيكات التي تصبّ شيئاً فشيئاً في هذا الإطار من دون أن تؤثّر في الوضع القائم هناك.
• حايد حايد زميل أبحاث في المركز الدولي لدراسات التطرف (ICSR)، وزميل أبحاث استشاري لدى “شاتام هاوس” في لندن. لمتابعته عبر تويتر HaidHaid22@
• عُرِّب هذا الموضوع من الإنكليزية.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.