المُشاغِبُ الإقليمي الرئيس

بقلم كابي طبراني

مع تدخّله الأخير في الصراع بين أرمينيا وأذربيجان، وسّع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بيكار مغامرات بلاده الخارجية من المشرق العربي وشمال إفريقيا إلى القوقاز، الأمر الذي أثار تساؤلات حول دور أنقرة المُثير للجدل كمُعطِّل إقليمي رئيس. الواقع أن نهج أردوغان الشعبوي تجاه الأزمات الإقليمية يعكس رغبته في إعادة تشكيل مكانة تركيا على الساحة الدولية. لكن ما هو بالضبط الذي يريد تحقيقه؟

في خطابٍ ألقاه أخيراً، إشتكى أردوغان من إخفاقات نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية كما فعل من قبل بشأن مظالم تركيا بعد الحرب العالمية الأولى، التي قيّدت الوصول البحري لبلاده في بحر إيجه. قال: ” لم تبقَ فرصة لهذا النظام الدولي المُشَوَّه، الذي يجد فيه العالم بأسره أنه مرهونٌ لحفنةٍ من الجَشِعين، ولا مجال له للإستمرار في الوجود بالطريقة الحالية”. في جميع خطاباته تقريباً، يؤكد أردوغان على ما يُسمى بالإستثنائية التركية في الوقت الذي يُصوّر تركيا على أنها ضحية.

تحدّث النقاد كثيراً، وبخاصة في الفترة الأخيرة، عن هَوَس أردوغان بإحياء الماضي العثماني لتركيا. إن مغامراته الخارجية تخفي في الحقيقة رغبته في إعادة تشكيل المكانة الجيوسياسية للمنطقة في ظل بروز تركيا العسكرية الجديدة. حتى وهو يقف إلى جانب أذربيجان ويدعمها في نزاع “ناغورنو كاراباخ”، فإنه يفعل ذلك انطلاقاً من نهجٍ مُتفَوِّق كرئيسٍ فخري للشعب التركي؛ حاثّاً الرئيس الأذري، إلهام علييف، على عدم قبول وقف إطلاق نار غير مشروط.

لقد وضع نهجه غير التقليدي في النزاعات تركيا في موقفٍ فريد وإن كان صعباً. رُغم أنه رئيس بلدٍ عضوٍ في حلف شمال الأطلسي، فقد بنى تحالفاً هشّاً مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وكذلك مع إيران حول سوريا، حيث ما زالت أهدافه النهائية هناك غامضة ومُريبة. وعلى الرغم من تحذيرات الولايات المتحدة له ضد الصفقة مع موسكو، فقد حصل على نظام الدفاع الجوي الروسي “أس-400” (S-400)، ما أجبر واشنطن على إلغاء صفقة الطائرات المقاتلة “أف-35” (F-35) مع أنقرة وفرض عقوبات عليها.

وفيما هو حليفٌ لموسكو في سوريا، فقد انحاز أردوغان إلى جانب حكومة الوفاق الوطني التي يترأسها فايز السراج في ليبيا، في حين يدعم فلاديمير بوتين “الجيش الوطني الليبي” بقيادة خليفة حفتر. كما وقّع صفقة بحرية مُثيرة للجدل مع فايز السراج تتعدّى على السيادة الإقليمية لليونان. ووصف كبار مساعدي أردوغان ليبيا بأنها أرضٌ عثمانية سابقة وتعهّدوا بعدم مغادرتها.

في مناقشات السلام الجارية بين الليبيين، يتمثّل العائق الرئيس في إبعاد وإزالة جميع اللاعبين الأجانب، وموقف أنقرة من هذه القضية الحاسمة غامضٌ، وخطر انهيار المحادثات بسببها مرتفع.

في إدلب السورية، تُواصل تركيا تقديم الدعم للجماعات المتطرفة بينما تعهّد أردوغان بأن تقضي تركيا على جميع مناطق الإرهاب – الأكراد السوريين – في سوريا إذا فشل الآخرون بالوفاء بوعودهم. أصبحت تركيا جزءاً من المشكلة التي تَحُول دون التوصّل إلى حلٍّ سياسي للصراع السوري المُستمر منذ تسع سنوات. وقد اتُهِمَت بنقل اللاجئين السوريين إلى المدن الكردية السورية المهجورة في شمال سوريا لتغيير الديموغرافيا فيها. في كلٍّ من سوريا وليبيا، كانت علاقة أردوغان الوثيقة بجماعة “الإخوان المسلمين” عاملاً إيديولوجياً رئيساً في رسم سياسته.

وهدّد الإتحاد الأوروبي أخيراً تركيا بفرض عقوبات عليها بسبب خلافها مع اليونان في شرق البحر المتوسط. وكانت العلاقات بين أنقرة والإتحاد الأوروربي، ولا سيما فرنسا، مُتوَتّرة بشأن سوريا وليبيا ولبنان والآن اليونان. بعد أسابيع من التوترات المتصاعدة، وافقت تركيا على سحب سفينة استكشاف في بحر إيجه وبدء محادثات مع أثينا. قد تكون شكاوى تركيا بشأن الحدود البحرية منطقية ومعقولة، لكن أسلوبها المُتمَيّز في انتهاك المياه اليونانية والقبرصية لا يساعد قضيتها.

تنخرط أنقرة اليوم بنشاطٍ في نزاعات مع جميع جيرانها وأبعد منهم. أضرّت مغامرات أردوغان الخارجية بالإقتصاد التركي وعكست الكثير من مكاسبه، كما تراجعت شعبيته محلياً. ويبقى السؤال الرئيس: ماذا يريد أردوغان حقاً؟ إن تحالفاته مع موسكو وطهران مؤقتة حيث تتقاطع أجندات هذين البلدين مع أجندته في بعض الأحيان وتتناقض في أحيان أخرى. لقد أدّت سياسات تركيا إلى استقطاب العالم السنّي وعزلها عن جيرانها. والآن يجد أردوغان نفسه في الجانب المُعاكس لبوتين في نزاع “ناغورنو كاراباخ” بينما يواجه اتفاقهما في شمال سوريا الإنهيار.

مع كل هذه الصراعات، التي تنعكس بشكل سيىء على الإقتصاد والعملة وحقوق الإنسان في تركيا، تجاوز أردوغان الآن قدراته وقد يجد نفسه قريباً في مواجهة تحدّيات مُتعدّدة في مجال السياسة الخارجية. ومن المثير للسخرية أنه خلال السنوات القليلة الماضية لم يستجب لدعوات المشاركة والمناقشات السلمية أو اقتراحها. إن الأقلية الكردية في سوريا ليست هي القضية ولكن أكراد تركيا هم القضية. لقد أهدر العديد من الفرص لإصلاح هذه المشكلة سلمياً.

في النهاية بينما كان يشكو من تشوّه النظام العالمي، أصبح أردوغان قوة مُعَطِّلة كبرى ومُشاغِبة في هذا النظام بالذات!

  • كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلّة وموقع “أسواق العرب”. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى