البرلمان يُعيق الإصلاح الأمني والدفاعي في تونس
تمتنع اللجان النيابية في البرلمان التونسي التي تتولى الإشراف على الأمن والدفاع في تونس عن إجراء الإصلاحات المُلحّة في هذا القطاع، لا سيما بسبب غياب الخبرة لدى أعضائها.
بقلم حمزة المقري*
على الرغم من الأهمية الكبيرة التي أوليت للإنتقال السياسي في تونس، فإنه لم يتحقق تحسّنٌ يُذكَر في السيطرة الديموقراطية على قطاعَي الأمن والدفاع اللذين يُعتبَران أساسيين من أجل إستمرارية هذا الإنتقال. ففي غياب خطوات آيلة إلى إشراك مزيدٍ من أصحاب الشأن والمعنيين في النقاشات الأمنية والدفاعية وإلى بناء القدرات والخبرات الدفاعية للسلطات المدنية، مثل مجلس النواب، سيبقى الإنتقال هشّاً.
في العام 2014، إتخذ البرلمان خطوات أولية للإشراف على القطاع وإدارته عبر تقسيم لجنة الدفاع القديمة إلى إثنتَين، لجنة للتشريع وأخرى للرقابة – لكنهما لم تُظهِرا فاعلية أكبر بالمقارنة مع اللجنة السابقة.
أوكلت إلى اللجنة الأولى، لجنة تنظيم الإدارة وشؤون القوات الحاملة للسلاح، مهمة إعداد تشريعات للإشراف على القطاع العام، واللامركزية الإدارية، والجيش. بما أن اللجنة التشريعية تُعنى بمواضيع عدة، منها تنظيم الإدارة التونسية ككل، لم تُقدّم مساهمة تُذكَر لإصلاح القطاع الأمني خلال الأعوام الأربعة الماضية. تجدر الإشارة إلى أن مجلس النواب أقرّ، منذ العام 2014، ستة عشر قانوناً وضعتها اللجنة، لكن ستّة منها فقط تتعلق بالقطاع الأمني. وقد أدخلت خمسة منها تعديلات طفيفة إلى القوانين القائمة في القطاع الأمني، مثل تعديل الخطوط العريضة لتقاعد الضباط، وتحديث قائمة الأوسمة العسكرية، وهناك قانون واحد فقط منها – القانون 44 الصادر في 2017 – يُمكن إدراجه في خانة التشريعات الإصلاحية. فقد صادقت تونس، بموجب هذا القانون، على إتفاقية كيوتو المعدّلة لتبسيط وتنسيق الإجراءات الجمركية، التي تفرض على عمّال الجمارك، الذين يعتبرهم عدد كبير من التونسيين العناصر الأكثر فساداً في القوى الأمنية، التقيّد بمعايير دولية في مجال الشفافية.
أما اللجنة النيابية الثانية، لجنة الأمن والدفاع، فمهمتها رصد جميع المسائل الأمنية والدفاعية، بما في ذلك إجراء نقاشات وعقد جلسات استماع مع مسؤولين أمنيين في الحكومة بُغية تنفيذ سياسات الأمن القومي أو مساءلتهم. وهي مخوَّلة إجراء بحوث واقتراح إصلاحات على لجنة تنظيم الإدارة وشؤون القوات الحاملة للسلاح، ومساعدتها على صياغة مقترحات حول المؤسسات العسكرية وأجهزة الشرطة على السواء، إنما لا يمكنها التصويت على مشاريع القوانين الصادرة عن لجنة تنظيم الإدارة وشؤون القوات الحاملة للسلاح قبل عرضها على مجلس النواب. غير أن عملها إقتصر في شكل أساسي، منذ العام 2014، على استجواب وزيرَي الداخلية والدفاع – المسؤولَين عن الأمن والدفاع على التوالي – وعدد قليل من الضباط المتقاعدين. وقد جاءت غالبية جلسات الإستماع رداً على حالة طارئة أو واقعة كبرى أثارت نقاشاً في وسائل الإعلام وفي أوساط المواطنين، مثل الهجمات الإرهابية أو المزاعم التي ظهرت في حزيران (يونيو) 2018 بأن وزير الداخلية السابق لطفي براهم كان يُعدّ لانقلاب.
تركيز اللجنة على جلسات الإستماع التقليدية ربما يُعزى في شكل أساسي إلى نقص المعارف الضرورية لدى أعضائها لفهم الشؤون العسكرية التقنية، ما يتسبب بتعقيد الجهود الآيلة إلى إصلاح القطاع الأمني. وفقاً للعميد المتقاعد محمود المزوغي، رئيس جمعية قدماء ضباط الجيش الوطني، لا يتمتع أعضاء اللجنة بالمؤهلات الكافية لإصلاح القطاع، مشيراً إلى أنه “في الديموقراطيات الغربية، يمتلك أعضاء لجان الدفاع والأمن إطلاعاً عميقاً على الشؤون الأمنية. فهم يتألفون عادةً من ضباط متقاعدين في الجيش أو القوى الأمنية أو من باحثين يدرسون الشؤون الجيوسياسية والاستراتيجيات الأمنية في مراكز أبحاث مرموقة”.
بُغية تخطّي هذا النقص في المعارف والخبرات لدى لجنة الأمن والدفاع، يُقدّم لها معهد الدفاع الوطني التابع لوزارة الدفاع تدريباً لمدة أسبوع تحصل خلاله على لمحة عامة عن دور الجيش وهرميته. بيد أن هذا التدريب لا يزوّدها بمعارف كافية للتفكير في الإصلاحات من وجهتَي نظر إستراتيجية ونقدية، كما أن اختيار أعضاء اللجنة، الذين يتبدّلون سنوياً من طريق المداورة، يتم بناءً على إستعدادهم لتحقيق مصالح حزبهم أكثر منه على كفاءاتهم أو خبراتهم الخاصة. على الرغم من أن لجنة الأمن والدفاع تطلب أبحاثاً ومنشورات من المعهد، إلا أنها تُبدي تردّداً – شأنها في ذلك شأن لجنة تنظيم الإدارة وشؤون القوات الحاملة للسلاح – في القبول بالجهود التي تبذلها جمعية قدماء ضباط الجيش الوطني من أجل متابعة تنفيذ التوصيات البحثية من طريق المساعدة على إعداد القوانين ذات الصلة، ربما لعدم رغبتها في الإجتماع بضباط متقاعدين غير تابعين للإئتلاف الحكومي.
علاوةً على ذلك، ثمة خطر شديد بأن تصبح اللجنة أكثر تسييساً وتبدأ وضع قوانين أو سياسات لتعزيز نفوذ فريق معيّن على حساب الجيش. ويقول المزوغي إن اللجنة إكتفت، لدى تشاورها مع ضباط متقاعدين حول مسائل مثل منح حق التصويت للجيش والقوى الأمنية، بالتواصل مع ضباط متقاعدين تابعين للإئتلاف الحاكم الذي يضم في شكل أساسي “نداء تونس” و”حركة النهضة”. وبما أن تركيبة اللجنة المؤلّفة من 21 عضواً تُحدَّد وفقاً لكوتا حزبية، يتبع الأعضاء بأكثريتهم الإئتلاف الحاكم، ما يُفضي على الأرجح إلى إعطاء الأولوية للجهود القصيرة الأمد الآيلة إلى ترسيخ نفوذ الأحزاب الحاكمة على حساب الإصلاحات الطويلة الأمد.
إن هذه المسائل تحول دون تحقيق اللجنتَين البرلمانيتين تقدّماً في الإصلاح الأمني والدفاعي الذي يشكّل حاجة ماسّة، وأبرز بنوده إعادة هيكلة القوات المسلحة التونسية لمواجهة التهديدات الجديدة. قبل الثورة، أدّت التكتيكات التي إعتمدها زين العابدين بن علي لدرء الانقلابات، إلى تهميش الجيش لمصلحة القوى الأمنية. كان الجيش يُساهم في شكل أساسي بعناصر في بعثات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، مع العلم بأنه عمل أيضاً على ضبط الحدود مع الجزائر خلال الحرب الأهلية التي دارت هناك في مطلع تسعينات القرن الفائت. تقتضي التهديدات الجديدة والمطّردة جراء الإرهاب والتهريب والهجرة غير الشرعية، وجوداً عسكرياً متزايداً في مختلف المناطق الحدودية، ربما بالتنسيق مع الحرس الوطني، كما تتطلب إمكانات مركزية لتنسيق العمليات الحدودية. وينبغي أيضاً تعيين رئيس جديد لهيئة أركان القوات المسلحة – مسؤول عن تنسيق جهود الجيش وسلاحي البحرية والجو – لملء المنصب الشاغر منذ استقالة رشيد عمار في العام 2013.
فضلاً عن ذلك، تفتقر اللجنتان إلى المعارف التقنية للإشراف على التغييرات في قانون الخدمة الوطنية الذي يعود تاريخ آخر تحديثٍ له إلى العام 1974. لقد شهدت القوات المسلحة تراجعاً غير مسبوق في عدد المُجنَّدين، لا سيما بسبب عدم تنفيذ القوانين. إشارة إلى أنه يُفرَض على جميع المواطنين التونسيين الخدمة في الجيش لمدّة سنة واحدة لدى بلوغهم سن العشرين، مع العلم بأن البعض يُفيدون من إعفاءات وتأجيلات. إنما هناك ثغرةٌ في القوانين تتيح لبعض الأشخاص الذين تنطبق عليهم شروط الخدمة العسكرية، ومنهم موظفو الخدمة المدنية، أن يمتنعوا عن الخضوع للخدمة العسكرية بذريعة أنهم يؤدّون “تكليفات فردية” مع الإكتفاء بتسديد رسم شهري. بُغية زيادة الإهتمام بالخدمة الوطنية والجيش ككل، تُجري وزارة الدفاع مداولات في الوقت الراهن لإقرار قانون جديد للخدمة الوطنية تأمل بعرضه على لجنة تنظيم الإدارة وشؤون القوات الحاملة للسلاح. من شأن مشروع هذا القانون أن يحدّ من الإعفاءات، ويفتح المجال أمام النساء والرجال على السواء للإلتحاق بالتجنيد الإلزامي، ويُرسي أشكالاً بديلة للخدمة. واللافت أنه من شأنه أن يُقدّم أيضاً محفزات، مثل ضمان حصول المجنّدين على الحد الأدنى للأجور المعتمد في القطاع العام، بهدف تشجيع المُتطوّعين على الإنضمام أيضاً إلى الجيش. قد يساهم ذلك في الحد من بطالة الشباب، ولو بصورة مؤقتة، ويُتيح للمجنّدين إلزامياً والملتحقين بالجيش إكتساب معارف وخبرات قيّمة يُفيدون منها في مسيراتهم المهنية مستقبلاً – لا سيما في مجالات الهندسة والزراعة وإدارة الأعمال وغيرها من القطاعات التي يُمكن أن تُساهم في التنمية الريفية.
فضلاً عن ذلك، تؤشّر الإنتهاكات المُستمرّة لحقوق الإنسان في القطاع الأمني، بما في ذلك من خلال التعذيب والوفيات المشبوهة، إلى أن مدوّنة قواعد السلوك المُعتمَدة من قبل الشرطة تحتاج أيضاً إلى الإصلاح. لقد وثّقت المنظمة التونسية لمناهضة التعذيب 153 حالة من التعذيب وسوء معاملة السجناء في العام 2016. وعلى الرغم من أن القانون يُحظّر هذه الممارسات، ليست هناك أجهزة مُكلَّفة خصيصاً مراقبة سلوك الشرطة، ما يجعل من الصعب محاسبة الضباط والعناصر على الإنتهاكات. وتفتقر منظومة الشرطة إلى الشفافية وتتفشّى فيها الرشوة، ولذلك ينظر إليها التونسيون بأنها من المؤسسات الأكثر فساداً في البلاد. ومع أن المواطنين يُبدون ثقة متزايدة بالقوى الأمنية، وفقاً لمؤشر الدفاع للعام 2016 الصادر عن منظمة الشفافية الدولية، إلّا أن الجيش هو أيضاً “معرَّض بدرجة مرتفعة لخطر” الفساد، لا سيما في مجالَي المشتريات والتجنيد. لذلك، فإن الأولويات التشريعية الراهنة في القطاع الأمني قد تشمل أيضاً إنشاء هيئات للتحقيق في مزاعم إنتهاكات حقوق الإنسان والفساد، فضلاً عن زيادة الحمايات القانونية للمعتقلين.
بُغية معالجة هذه المشاغل المُلحّة بطريقة فاعلة، قد يكون من الأجدى إصلاح اللجان النيابية بحد ذاتها. أولاً، من شأن دمج الأدوار التشريعية والإشرافية في لجنة واحدة معنيّة بالأمن والدفاع – مع فصلها عن شؤون إصلاح الإدارة العامة التي تتسبب بإهدار الوقت – أن يُتيح لأعضاء اللجنة توظيف الوقت والموارد بطريقة أكثر فاعلية. كما أن إضافة مزيد من التفاصيل إلى الإطار القانوني للجنة المدمجة يمنحها شرعية أكبر ويؤمّن آليات لتقييم مؤهلات الأعضاء ومساءلتهم عن أدائهم لواجباتهم. على سبيل المثال، من شأن منح اللجنة دوراً إستقصائياً – يذهب أبعد من الصلاحية الموكَلة راهناً إلى لجنة الأمن والدفاع باستدعاء مسؤولين لاستجوابهم – أن يُتيح لها التصدّي للفساد وانتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكبها قوى الأمن الداخلي على وجه الخصوص.
مثالياً، يجب أن يشترط إطار العمل أن يكون أعضاء اللجنة من النوّاب ذوي الخلفية التخصّصية في هذا المجال، كي تتمكّن اللجنة من إجراء بحوث تقنية حول إصلاح القطاعَين الأمني والدفاعي. وبما أن جميع الأعضاء يختارون الإنتقال إلى لجان نيابية أخرى من طريق المداورة السنوية، من شأن إطالة مدّة ولايتهم لتصبح خمس سنوات إلزامية، أن يُمكّن النواب من تطوير معارفهم الأمنية والبناء عليها، والأهم من ذلك، العمل على خطط استراتيجية متوسطة إلى طويلة المدى. بإمكان مجلس النواب أن يُعيّن أيضاً ممثلين عن كل فرع من فروع الجيش والشرطة للعمل يداً بيد مع اللجنة ووضع خبراتهم في تصرفها من أجل النهوض بإصلاحات وتحديات محدّدة، مثلما يفعل البرلمان الفرنسي. من شأن إجراء هذه الإصلاحات في هيكلية اللجنة أن يساعد على وضع جدول زمني مفصّل لمعالجة المسائل الملحّة إستناداً إلى رؤية واضحة حول سبل تطبيق الإصلاحات.
• حمزة المقري باحث في برنامج فولبرايت في كلية ماكسويل للمواطنة والشؤون العامة في جامعة سيراكوز.
• عُرِّب هذا المقال من الإنكليزية.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.