لكِ الله يا تونس!
بقلم عبد اللطيف الفراتي*
ما عسى المرء أن يقول أمام سوء نية طبقة سياسية لا تهمّها مصلحة البلاد، ولا تتمتع بأدنى قدرٍ من المسؤولية، وهمّها خصومة سياسية تبرز فقرها الذهني والتفكيري.
تردّدتُ أياماً قبل أن تصلني الشجاعة وتدفعني لآخذ قلمي بين أصابعي، أو على الأصح لوحة مفاتيح الكومبيوتر، وشعور طاغ لدي بالغثيان، بعدما باتت شاشات التلفزيون ساحة لنقاش بلا مستوى بين ” كبار الدولة “.
يوسف الشاهد، الذي أركبوه في رئاسة الحكومة وهو نَكِرة، جزاء ما قام به من دورٍ ل”تتويج” حافظ قائد السبسي، الإبن المُدلَّل لرئيس البلاد، في موقع، لم يُخلَق له وليست لديه مؤهلاته، ناله بالإنقلاب على القيادة الشرعية لحزب “نداء تونس”، لا بقوة ذاتية أو كاريزما، وبقوة الدولة التي يرأسها والده، كما في الديكتاتوريات حيث حزب الدولة هو دولة الحزب. وقد إستعمل الشاهد شاشة القطاع العام ليقول حقائق عن حليفه بالأمس، خصمه اليوم، ويُحمّله مسؤولية كل الفشل في الدولة وحزب الدولة. غير أن هذا الهجوم كان على إبن رئيس الدولة. تأخر رد فعل الرئيس الباجي قائد السبسي ولكن في “نسمة”، القناة التلفزيونية التي جنّدت نفسها لخدمة “حافظ”، وجاء الأب ليدافع عن الابن، الأحد الماضي ]15 تموز (يوليو)[ في حوار لعله الأسوأ مهنياً مما رأيت في حياة صحافية طويلة. وعند إزالة المساحيق والمقدمات والمزينات، فإن ما يستنتجه المرء، أن رئيس الدولة تسنده عائلته، جاء فقط للدفاع عن إبنه الذي حوّل “نداء تونس” من صرح هوى للقاع، وبات مُرادفاً للفشل. جاء لينتصر لنجله أساساً مما بدا، وأن الدولة هي مرادف لعائلة قائد السبسي، وأن الأمر في تونس أصبح شديد الشبه بالأمر في كوريا الشمالية، توريث دفع البلاد إلى الهاوية.
من خلال الكلام المُنمَّق يقف المرء عند أمرين إثنين:
1- إرادة واضحة في تثبيت الإبن على رأس الحزب؛
2- دعوة رئيس الحكومة الذي عُيِّن غصباً عن الإبن على رأس الحكومة من دون وجه حق لأحد أمرين أيضاً إما الاستقالة أو عرض نفسه على ثقة البرلمان.
وبذكائه الخارق وقدرته الكبيرة على المناورة، فإن رئيس الجمهورية قادر بهذه الصورة أو يظن نفسه قادراً، على الوصول إلى غرضه أي إسقاط الشاهد بالضربة القاضية، وغالباً فإنه يستطيع ذلك، ولكنه أيضاً يدخل رهاناً غير مأمون العواقب.
فلو رفض الشاهد، وسيرفض قطعاً الإستقالة، ولم تتوفر نسبة التصويت اللازمة في البرلمان لحجب الثقة عن الرجل، فسيجد قائد السبسي الأب نفسه في موقف حرج، يبقى له أن يحل البرلمان ويدعو لانتخابات تشريعية جديدة قبل الأوان، وهو حل لا يريده، فنتائج الانتخابات البلدية التي قاد إبنه حزبه فيها إلى تقهقر غير مسبوق، تبدو وكأنها مذاق أولي لهزيمة منكرة في أي إنتخابات مقبلة على مستقبل منظور، فلا حزبه أي “نداء تونس” مستعد لها، ولا ماكينته الانتخابية التي أنجحته فيها، أي رضا بالحاج ومحسن مرزوق يمكن أن يدفعاه للنجاح .
ولذلك فإن الباجي قائد السبسي يتهيب دخول تجربة إنتخابية ليس واثقاً من نتيجتها، بل لعلّه واثق من نتيجتها العكسية، وبالتالي يبقى أمامه أحد حلّين، إما أن يستقيل الشاهد الذي إعتُبر في وقت من الأوقات إبنه الثاني، ولا يبدو مُطلقاً أنه ينوي الاستقالة، وإما أن يصوّت البرلمان وهذه أيضاً غير مؤكدة، ما دامت حركة “النهضة” تطلب إبقاء الشاهد الذي باتت الجهات البرلمانية المؤيدة له تتسع رقعتها. ولذلك تبدو المغامرة غير سليمة العواقب، وإستنتاجاً فإن التهديد بنهاية الوفاق بين “النهضة” و”النداء”، ليست سوى إبتزازاً ل”النهضة”، وهي ليست في وارد الإستجابة إليه، كما أنها في كل الأحوال لا تستعجل الأمور، والقناعة لديها أن الانتخابات المقبلة في ظل تمزق “نداء تونس”إرباً، ستمكنها من غالبية، ولو نسبية، كبيرة، تؤهلها لتشكيل حكومة تكون لديها فيها اليد الطولى، وإن إضطرت إلى توافقٍ مثلما حصل بعد إنتخابات 2011 بزعامة “النهضة”، أو 2014 بزعامة “نداء تونس”.
لكن هل في الوارد أن تتحدّى “النهضة” رئيس الجمهورية للآخر، فلا تلجأ للتصويت ضد الشاهد؟ كل شيء وارد، وللنهضة حساباتها على المدى القصير، ولكن بخاصة على المديين المتوسط والطويل.
الشاهد نفسه من جهته يجلس على كرسي هزّاز، فإذا إشتد إهتزازه فهناك خوف من أن يقذفه، فهو عندما أقدم على إقالة وزير الداخلية لطفي ابراهم، كان يعرف أنه لا يستطيع تعيين وزير مكانه من دون ضمان غالبية في البرلمان لتعيين خلف له، وهذه الغالبية (109 أصوات) غير مضمونة، كما إن توفر 109 أصوات لسحب الثقة منه لا يضمنها الباجي قائد السبسي، خصوصاً في ظل إنشقاق جديد لمن أسموا أنفسهم اللجنة السياسية بزعامة المقرب بين المقربين لحافظ قائد السبسي، سفيان طوبال الذي يبدو أنه قلب ظهر المجن لابن الرئيس فغادر ومجموعة مقربة منه السفينة قبل أن تغرق.
من هنا فإن التوازن غير المستقر كما يقول رجال الرياضيات قد حصل، فأنا لا أستطيع لك شيئاً وأنت بالمقابل لا تستطيع لي شيئاً، ولكن وإذ تبدو المعادلة بلا حل فهناك أمران يمكنهما أن يقلبا كل الإحتمالات:
أولهما تسجيل إنسحابات بالجملة من قبل الوزراء الندائيين أو حتى غير الندائيين، فلا يمكن للشاهد أن يحكم بوزارة منقوصة، فيضطره الأمر إلى اللجوء للبرلمان، لطلب التصويت على الوزراء الجدد للتعويض، فلا يجد الغالبية المطلوبة.
وثانيهما أن توازن “الرعب ” القائم الآن يجعل البلاد غير محكومة وهي تعاني ما تعانيه من صعوبة، فيزداد الأمر سوءاً.
إن خصومة الشاهد ـ النهضة مع السبسيين (الباجي وحافظ)، ذات أثر بالغ في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في تونس، فالدواليب كلها متوقفة، والوزراء في حيرة من أمرهم، هل يبقون أو يُصرَفون، وهذا الأمر هو الأكثر إضراراً بسير البلاد، وتنميتها ومشاريعها، بالإضافة إلى الخصومات الشخصية التي تبعث على المسكنة، والانتشار الواسع لضعف روح المسؤولية في طبقة سياسية لا تتمتع بأي روح وطنية، كلها عناصر دافعة بالبلد ومستقبلها نحو هاوية سحيقة، وإحتمالات كبيرة لعدم الإستقرار والإهتزاز.
كل ذلك ليس مهماً في نظر طبقة سياسية رديئة، كلٌّ يحاول إنقاذ سفينته من الغرق، ولكن لا يهمه أن تغرق سفينة تونس.
• عبد اللطيف الفراتي هو كاتب وصحافي تونسي، كان رئيساً لتحرير صحيفة “الصباح” التونسية. يمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: fouratiab@gmail.com