الإنخراط العسكري التركي في سوريا يدفع الأكراد إلى إعادة التركيز المُسلّح على داخل تركيا
الانخراط العسكري التركي في سوريا قد يدفع بحزب العمال الكردستاني إلى توجيه تركيزه من جديد نحو الداخل التركي، حيث أدّى القمع المتزايد إلى تراجع البدائل غير العنفية المتاحة أمام النشطاء الأكراد للتعبير عن إعتراضهم.
بقلم فرحات غوريني*
في العاشر من نيسان (إبريل) الجاري، حُكِمَ على النائبة الموالية للأكراد بورسو جليك أوزكان، بالسجن سبع سنوات بتهمة ترويج الإرهاب على خلفية توجيهها كلاماً تهديدياً إلى جندي تركي، وإلقائها، كما يُزعَم، خطاباً مؤيّداً لحزب العمال الكردستاني في أحد المآتم – مع العلم بأنه لم يتأكّد أنها كانت حاضرة في المأتم. لقد بلغت حملة القمع الراهنة ضد الحراك الكردي في تركيا، مستويات تُذكِّر بحكم كنعان إيفرين. وقد إستخدم حزب العدالة والتنمية، بقيادة رجب طيب أردوغان، هذا القمع أولاً من أجل تأجيج المشاعر القومية بغية حشد الأصوات في سلسلة من الانتخابات السابقة البالغة الأهمية – بما في ذلك الانتخابات البرلمانية في حزيران (يونيو) وتشرين الثاني (نوفمبر) 2015، والإستفتاء الدستوري في العام 2017 – وثانياً لرسْم معالم مستقبل المنظومة السياسية في تركيا. بعد الصدمة التي أصيب بها حزب العدالة والتنمية جراء خسارته أكثريته البرلمانية في إنتخابات حزيران (يونيو) 2015، فضلاً عن نظرة الحكومة التركية إلى ما إعتبرته تهديداً كردياً متنامياً خارج حدودها، لا سيما التهديد الآتي من سوريا، عمد الحزب الإسلامي الحاكم إلى تغيير إستراتيجيته منتقلاً من محاولة تسوية المسألة الكردية من خلال الإصلاح والحوار، إلى توليد الإنطباع بأنه قادر على معالجتها في ساحة المعركة ومن طريق الإجراءات القمعية.
عسكرياً، تجدّدَ في العام 2015 الصراع القائم منذ ثلاثين عاماً بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني. وعلى الرغم من أن هذا الأخير هو من الأفرقاء الأكراد الأكثر ثراءً داخل تركيا، ولعلّه الأكثر تأثيراً في المنطقة – من طريق الفروع التابعة له مثل حزب الإتحاد الديموقراطي في سوريا، وحزب الحل الديموقراطي الكردستاني في إقليم كردستان العراق، وحزب الحياة الحرة الكردستاني في إيران – إلّا أنه يبدو أن نشاطه العسكري في الداخل التركي قد خفّ وتباطأ، لا سيما في الأشهر القليلة الماضية. وعلى الرغم من أن حزب العمال الكردستاني هو عادةً أقل نشاطاً على المستوى العسكري في تركيا خلال فصل الشتاء، إلا أن أعداد ضحايا النزاع تراجعت بنسبة 400 في المئة في الأشهر الثلاثة الواقعة بين كانون الأول (ديسمبر) 2017 وشباط (فبراير) 2018، بالمقارنة مع الفترة نفسها من الشتاء المنصرم – وبنسبة 1400 في المئة بالمقارنة مع الفترة نفسها قبل عامَين. كذلك هدّد حزب صقور حرية كردستان – الذي يتألف من متشدّدين إنشقّوا عن حزب العمال الكردستاني بسبب إستعداده للتفاوض مع الدولة التركية، إنما يعتبره البعض أنه لا يزال خاضعاً لسيطرة حزب العمال الكردستاني – بإستئناف الهجمات في المدن التركية الكبرى مثل إزمير، وإسطنبول، وأنقرة في حزيران (يونيو) 2017. كان الهدف من هذه الهجمات المُعلَنة إلحاق الضرر بالإستثمارات والسياحة في باقي المناطق التركية. غير أن الحزب لم ينفّذ وعيده حتى الآن.
قد يكون الإستنتاج الفوري أن الحراك الكردي المُتشدّد قد أُنهِك وبات عاجزاً عن مواجهة حملة مُكثّفة يشنّها جيش تركي قوي العزيمة. هذه هي، على الأقل، السردية التي تحاول الحكومة التركية ترويجها أمام الرأي العام التركي. فقد قال أردوغان في كلمة ألقاها في حفل افتتاح مدارس جديدة وقاعات للرياضة في إسطنبول في الثاني من نيسان (إبريل) الجاري: “إنهم [إرهابيو حزب العمال الكردستاني] يختبئون، ونحن نطاردهم. ماذا جرى؟ لقد فرّوا إلى سوريا، إلى عفرين وسنجار”، في إشارة إلى أن إستنزاف قوى حزب العمال الكردستاني في الحرب هو الذي دفع بتركيا إلى إجتياح سوريا (وقد تجتاح أيضاً إقليم كردستان العراق).
غير أن ذلك يتغاضى عن طبيعة الصراع الذي يخوضه حزب العمال الكردستاني، وهو صراع عابر للأوطان. في سوريا، تضم وحدات حماية الشعب، المرتبطة بحزب العمال الكردستاني من طريق حزب الاتحاد الديموقراطي، نحو 60,000 مقاتل. وفي العراق، ساعد حزب العمال الكردستاني وحدات مقاومة سنجار، وهي ميليشيا أيزيدية تسيطر على أراضٍ إستراتيجية حول جبال سنجار، على النمو ليصبح عدد مقاتليها أكثر من 1500 عنصر، مع العلم بأن كثراً منهم غادروا لاحقاً للانضمام إلى البشمركة. إذاً يجب النظر إلى نشاط حزب العمال الكردستاني المتراجِع في تركيا على ضوء النشاط المتزايد للمنظمات الشقيقة له خارج تركيا والساعي إلى ترسيخ السيطرة على مناطق حيوية وإستراتيجية. على الرغم من أن حزب العمال الكردستاني يركّز على تعزيز النفوذ العسكري والسياسي لهذه الفروع المحلية، إلا أن الإنخراط العسكري التركي في هذه المناطق قد يدفع به إلى زيادة نشاطه في الداخل التركي بهدف الإنتقام.
في ميدان السياسة والحياة المدنية، يُمكن على الأرجح التوصل إلى الإستنتاج نفسه. وعلى الرغم من المستويات المرتفعة جداً للقمع وإلصاق التهم الجرمية، يحافظ الأفرقاء الأكراد غير العسكريين على التعبئة، ولو بهدوء. ومن أبرز إجراءات القمع التي لجأت إليها الحكومة التركية إلغاء الحصانة النيابية في 20 أيار (مايو) 2016، ما أتاح للحكومة سجن عدد كبير من النواب الأكثر كاريزماتية المنتمين إلى حزب الشعوب الديموقراطي الموالي للأكراد. كان الهدف من هذه الخطوة إسكات المعارضة الكردية، للمساهمة بصورة مطردة في تسهيل تحقيق تطلعات أردوغان إلى إنشاء نظام رئاسي تنفيذي، وهو ما ترسّخَ من خلال الاستفتاء الدستوري الذي أُجري في نيسان (إبريل) 2017. إلا أنّ للأحزاب الموالية للأكراد تاريخاً طويلاً من التعرّض للتجريم وإلصاق التهم بها، ثم إعادة تنظيم صفوفها لإستغلال الثغرات في القوانين التركية من أجل كسب مقاعد في البرلمان التركي. وقد كشف إستطلاع للراي نُشِر في شباط (فبراير) 2018 أنه من شأن حزب الشعوب الديموقراطي الفوز بـ12 في المئة من المقاعد لو أُجريَت الانتخابات الآن – أي تقريباً النسبة نفسها التي حصل عليها في جولتَي الانتخابات البرلمانية في العام 2015 – على الرغم من تكثيف الخطاب والإجراءات على السواء لإسكات المعارضة الكردية (أعلن أردوغان أن إنتخابات نيابية جديدة سوف تجري في 24 حزيران (يونيو) المقبل).
تنطلق الحملة العسكرية التي تشنّها تركيا وإجراءات القمع السياسي من إعادة تفسير حزب العدالة والتنمية للهوية القومية التركية. في الماضي، كان التركيز على التضامن بين المسلمين أكثر منه على الشوفينية الإثنية للشعوب التركية، ما أمّن منابر غير مسبوقة للأكراد للتعبير عن آرائهم، وأفسح المجال أمام قيام حوار بنّاء، وكان بمثابة أداة لإمتصاص صدمة العنف والتشدد الكرديين. هذا فضلاً عن أن وقف إطلاق النار الوجيز والمفاوضات الكردية مع تركيا بين العامَين 2013 و2015 تسببت بتقويض الأجندة الكردية، التي كانت حتى ذلك الوقت موجَّهة إلى حد كبير من قِبل حزب العمال الكردستاني، والطعن بها. مع أن ذلك منح قادة التنظيم المسلّح في قنديل فرصة لإنتزاع تنازلات من الحكومة التركية، إلا أن تأثيرهم تراجع أيضاً مع إيلاء مزيد من الاهتمام لحزب الشعوب الديموقراطي الذي كانت أهدافه مختلفة قليلاً عن أهداف حزب العمال الكردستاني، على الرغم من الروابط العضوية القوية بين الحزبَين ومن إلتقائهما حول قضية مشتركة. من المنطقي إذاً الاستنتاج أن الحكومة التركية، وعبر إقدامها على سجن نواب من حزب الشعوب الديموقراطي وتوجيه التُهَم الجنائية إليهم، لا تترك أمام النشطاء الأكراد من خيار سوى العودة إلى النهج العسكري لحزب العمال الكردستاني. وإذا إستمر الإضطهاد السياسي، فسوف يتيح ذلك لحزب العمال الكردستاني توسيع قاعدة التجنيد في صفوفه، ويَقضي على سنوات من الحراك الكردي السلمي ويدفع به نحو التشدد.
على الرغم من أنه لا يُمكن إستبعاد التوصل إلى حلٍّ للمسألة الكردية في المستقبل، إلا أن هذا الحل لن يُبصر النور قريباً. في الوقت الراهن، من المتوقع أن تتعمّق الإنقسامات، مع عودة حزب العدالة والتنمية إلى تبنّي نهج قومي إنعزالي في إطار سعيه إلى الفوز في صناديق الاقتراع – أملاً منه بأن يتجنّب الخسارة الانتخابية التي تكبّدها في حزيران (يونيو) 2015، عندما كان يعتمد نهجاً أكثر ليونة. على الرغم من أن سنوات الطفرة في النمو الاقتصادي والإشادة الدولية بقدرة حزب العدالة والتنمية على الدمج بين الإسلام والديموقراطية أتاحت للحزب الإنخراط في حوار سلمي مع حزب العمال الكردستاني في العام 2013، إلّا أن الحزب الإسلامي الحاكم لا يتمتع راهناً بموقع القوة نفسه، نظراً إلى الاضطرابات الإقليمية والإنحدار السلطوي. كما أنه ليس بإمكان مقاربته العسكرية الحالية التوصل إلى حل نهائي للمسألة الكردية، لا بل يُرجَّح أن تتسبب بتنشيط التمرد الكردي – وهو سيناريو ليست الدولة التركية مستعدّة جيداً لمواجهته، نظراً إلى تطهير 40 في المئة من كبار القادة في الجيش التركي غداة المحاولة الانقلابية في تموز (يوليو) 2016. وفي حال نجحت تركيا في إنتزاع السيطرة على الأراضي من قبضة حزب العمال الكردستاني في سوريا والعراق، مع إطلاق أردوغان تهديدات بتنفيذ عمليات عسكرية في سنجار ومنبج وتل رفعت، فسوف يعيد حزب العمال الكردستاني توجيه تركيزه نحو الداخل التركي، الأمر الذي من شأنه أن يتسبب بمزيد من الإضطرابات الداخلية.
• فرحات غورمي يتابع تحصيله العلمي لنيل بكالوريوس في العلوم الدولية في كلية لندن للاقتصاد، وهو محرر شؤون الشرق الأوسط في الفصلية الدنماركية “RÆSON”، لمتابعته عبر تويتر: FerhatGurini@
• عُرِّب هذا الموضوع من الإنكليزية.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.