ما هي العِبَر التي يُمكِن أن تستفيد منها تونس والسودان من مصر حول إصلاح الدعم الحكومي؟

الجهود التي تبذلها مصر لإصلاح الدعم الحكومي تحمل مقترحات يمكن أن تفيد منها كل من تونس والسودان اللتين تشهدان احتجاجات على خلفية ارتفاع أسعار السلع الأساسية.

مظاهرات الخرطوم: إزالة الدعم عن القمح أشعلها

بقلم برندان ميغان*

خلال العام الفائت، أَولى وزراء المال وحكّام المصارف المركزية في مختلف أنحاء الشرق الأوسط إهتماماً عن كثب لكيفية إستجابة الإقتصاد المصري للتراجع الشديد في سعر الجنيه، والزيادات في أسعار الفوائد، ومجموعة مُنوَّعة من الإصلاحات البنيوية التي وافقت عليها الحكومة قبل حصولها على قرض من صندوق النقد الدولي بقيمة 12 مليار دولار. إن الإقتصاد المصري المُتفرِّد بخصائصه، يُشكّل في الواقع مثالاً عن التأثير الذي تمارسه المماطلة والمواربة في معالجة التشنّجات في السياسات الإقتصادية التي تراكمت على مرّ العقود، بما يؤدّي إلى إستفحال الأزمات القصيرة الأمد – كما أيضاً عن كيفية إكتساب ثقة الشعب السياسية في مناخ من التضخم الشديد.
في الوقت الراهن، ينبغي على تونس والسودان، على وجه الخصوص، أن تستمدّا وتأخُذا العِبَر من مصر، حيث أثبتت الجهود المتواضعة لإصلاح الدعم الحكومي نجاحها. وعلى الرغم من أن الهيكلية الحكومية والفلسفة الإقتصادية تختلفان إلى حد كبير بين بلدٍ وآخر، مع إعتماد تونس منظومة أكثر ليبرالية ومرونة لتحديد أسعار الصرف فيما تستمر السودان في التعويل على منظومة مشوِّشة قوامها التثبيت الجامد (hard peg) مع تراجع مستمر في قيمة العملة، إلا أن الدولتَين تشهدان، على الصعيد الداخلي، أجواء إقتصادية وسياسية مُضطربة.
لطالما قدّمت مصر الدعم للمواد الغذائية والأصناف المختلفة من الطاقة، لا سيما الكهرباء والمحروقات المستخدمة في الآليات السيّارة. لكن مع إتّساع العجز المالي وظهور جوقة من الخبراء الإقتصاديين الأكاديميين والمتعدّدي الأطراف والعاملين في القطاع الخاص الذين طالبوا على إمتداد سنوات بإصلاح الدعم الحكومي، صَدَمت مصر المراقبين عبر التحرّك من أجل خفض الدعم للطاقة في تموز (يوليو) 2014. وقد أتاحت هذه الخطوة للحكومة تخصيص بعض من رأسمالها السياسي الداخلي للتخفيف من الأعباء عن كاهل الموازنة، فيما وجّهت أيضاً إشارة إلى المجتمع الدولي بأن مصر تأخذ الإصلاح الاقتصادي – وربما السياسي – على محمل الجد. في حين أن الإصلاح السياسي فشل إلى حد كبير في التبلور على الأرض، فإن الإصلاحات الإقتصادية مضت قدماً، ولو بعد العديد من الإنطلاقات الخاطئة.
لكن ما هو على الأرجح أكثر أهمية من الخفوضات في دعم الطاقة كان القرار الذي إتُّخِذ بعدم المساس بدعم المواد الغذائية – أقلّه في الوقت الراهن. على الرغم من أن دعم الطاقة يُمكن أن يعود بالفائدة على الفقراء من خلال خفض تكاليف النقل العام، إلّا أنه يصب بطريقة غير متكافئة في مصلحة المواطنين الأكثر ثراء الذين يمتلكون منازل، ويُشغّلون مكيّفات الهواء، ويقودون سياراتهم الخاصة. أما منافع الدعم للمواد الغذائية فتتوزّع بطريقة أكثر مساواةً. ونتيجةً لذلك، فإن من شأن الخفوضات في دعم المواد الغذائية أن تتسبّب بتململ واسع عبر مختلف الشرائح الاقتصادية.
لتونس، شأنها في ذلك شأن مصر، تاريخ طويل ومعقّد في دعم الطاقة والمواد الغذائية. وكما في مصر، بات الدعم الحكومي في تونس يستحوذ، سنة تلوَ الأخرى، على حصّة متزايدة من الإنفاق الحكومي. وقد سجّل الدعم الحكومي إرتفاعاً بعد ثورة 2011، فإزداد من 2.5 في المئة من إجمالي الناتج المحلي إلى 7 في المئة بحلول العام 2013. وكما في حالة مصر، بقي الدعم الحكومي الضئيل للمواد الغذائية في تونس على حاله إلى حد كبير. لكن على النقيض من مصر، لم يشعر السياسيون في تونس، في السنوات التي أعقبت الثورة، بأنهم يمتلكون الرأسمال السياسي اللازم من أجل إجراء إصلاحات صعبة في مجال دعم الطاقة. ولم تتحرك تونس لخفض الدعم السخي للطاقة سوى في تموز (يوليو) 2017، بناءً على طلب من صندوق النقد الدولي ووسط سجال داخلي حاد. فضلاً عن ذلك، عمدت تونس إلى زيادة الضريبة على القيمة المضافة، ما أدّى إلى إرتفاع أسعار المواد الغذائية، وفرضت المساهمات الإلزامية في الضمان الإجتماعي، فتراجع صافي الراتب. إن رغبة تونس في إجراء خفوضات إضافية هي في الواقع محدودة، شأنها في ذلك شأن مصر. لقد أعلنت الحكومة التونسية بوضوح في تشرين الأول (أكتوبر) 2017 أنها لن تنظر في إدراج خفوضات إضافية في موازنة 2018 إلا بعد إجراء مراجعة متأنّية لتحديد مَن هُم المستفيدون الفعليون من هذه البرامج. وغداة التظاهرات الأخيرة، أعلنت الحكومة أيضاً أنها ستزيد الدعم للفقراء، إنما لم تُدلِ بعد بتفاصيل عن طبيعة هذا الدعم.
أما بالنسبة إلى السودان فإنه في وضع أصعب من تونس إلى حد كبير. فمع خسارة الإيرادات النفطية بعد إنفصال جنوب السودان في العام 2011، لم يعد أمام الحكومة من خيارٍ سوى تطبيق خفوضات شديدة في الدعم. وقد أدّى تخفيض الدعم على الوقود في العامَين 2013 و2016، إلى إندلاع إحتجاجات شعبية واسعة، على الرغم من حملة القمع التي لجأت إليها الحكومة. وحتى بعد إقرار الخفوضات، ظلّ الإنفاق الحكومي على دعم القمح والمحروقات يسجّل نحو 5.75 في المئة من إجمالي الناتج المحلي حتى أواخر العام 2017 – وفي أعقاب توحيد سعر الصرف الحكومي في كانون الثاني (يناير) 2018، الذي تسبب برفع سعر صرف الدولار الأميركي لإستيراد القمح، زادت تكلفة هذه الإعانات.
قرّر السودان إلغاء الدعم على القمح إعتباراً من الأول من كانون الثاني (يناير) الفائت. وفي هذا الإطار، إعتبرت الحكومة أن هذه الخطوة تعود بالفائدة على السوق المحلية عبر التحوّل من المورّدين الخارجيين إلى الإقتصاد المحلي للحصول على القمح – حتى إنها لمَّحَت إلى أن سعر الخبز سيبقى على حاله بسبب زيادة المنافسة المحلية. إنه زعمٌ مُضحك من دون أدنى شك، فإعتباراً من العام 2015، لم يُنتج السودان سوى 30 في المئة فقط من القمح الذي يستهلكه. ومن شأن التحوّل الفُجائي من الأسواق الدولية نحو القطاع الداخلي أن يصطدم بعددٍ لا يُحصى من العثرات المُتعلّقة بالقدرة الإنتاجية، والحصاد، والنقل، والتخزين، والتوزيع، والتي تستغرق معالجتها سنوات طويلة. بدلاً من أن تبقى الأسعار على حالها، زادت أسعار الخبز بمعدّل الضعف في الأيام الأولى بعد خفض الدعم.
الواقع أن خفوضات الدعم تؤدي، في نهاية المطاف، إلى زيادة الأسعار الإستهلاكية، بغض النظر عن مدى فاعلية الجهود التي تبذلها الحكومة وحنكتها على المستوى الإقتصادي. أما الزيادات في أسعار الفوائد، كتلك التي شهدتها مصر بعد تعويم الجنيه وخفض الدعم في تشرين الثاني (نوفمبر) 2016، فلا يمكنها أن تساهم، في المدى المنظور، في كبح التضخم الناجم عن إنخفاض قيمة العملة، ما يؤدّي إلى إرتفاع أسعار السلع المستورَدة. والأهم من ذلك، إن التضخم ليس مشكلة إقتصادية وحسب، بل مشكلة سياسية أيضاً.
للوهلة الأولى، يبدو في معظم الأحيان أنه ليس هناك ترابط كبير بين معدّل التضخم وتداعياته السياسية. في أعقاب الخفوضات الأخيرة في الدعم الحكومي وتراجع قيمة العملة، تخطّت معدلات التضخم على أساس سنوي في كل من مصر والسودان 30 في المئة. لكن في حين شهدت مصر تظاهرات محدودة إحتجاجاً على إجراءات التقشف القسرية ومفاعيل تحرير سعر الصرف، لجملة أسباب منها “سياسة عدم التسامح” مع الاحتجاجات، كما تُسمّيها منظمة “هيومن رايتس ووتش”، تسبّبت خفوضات الدعم في السودان في العامَين 2013 و2016، بإندلاع إحتجاجات شعبية واسعة، فشنّت الحكومة حملة لقمعها أسفرت عن مقتل مئات المواطنين السودانيين. وكانت البلاد على موعدٍ مع مشهد مشابه في الاحتجاجات التي اندلعت على خلفية الزيادة الأخيرة في سعر الخبز، ولقي متظاهر واحد على الأقل مصرعه. غنيٌّ عن القول أن العداوة بين الشعب والحكومة السودانية التي باتت أكثر قمعية من أي وقت مضى، تزيد من التشنّجات في الأسواق.
في المقابل، تمكّنت تونس، من جهتها، من الإبقاء على معدّلات التضخم عند مستوى الرقم الواحد منذ العام 2011. فقد بلغ معدل التضخم 6.4 في المئة فقط في العام 2017. وعلى الرغم من أنه معدّل منخفض وفقاً للمعايير الإقليمية، فقد إندلعت إحتجاجات عنيفة، وألقى عدد كبير من المعلّقين باللائمة على صندوق النقد الدولي. ولا يُمكن تفسير هذا التباين إنطلاقاً فقط من إحصاءات الإقتصاد الكُلي. فعلى سبيل المثال، إن إجمالي الناتج المحلي بالنسبة إلى الفرد شبه متساوٍ في كل من مصر وتونس، رغم الإختلاف في تاريخ البلدَين وهيكليتهما الاقتصادية.
في مؤشّر مُهم، لقد أدّت إجراءات التقشف والإصلاحات الإقتصادية إلى إرتفاع سعر الخبز، في كل من السودان وتونس، ولكن ليس في مصر. إن أسعار الخبز، سواءً السعر المباشر أو أسعار المكوّنات على غرار دقيق القمح، مقدّسة إلى أبعد الحدود ولطالما كانت مضمونة من الحكومة. وهي ليست على الإطلاق السبب الوحيد وراء إندلاع الإحتجاجات في كلٍّ من السودان وتونس، فيما ظلّت مصر بمنأى عن الحركة الإعتراضية، لكنها رمز ثقافي شديد الأهمية من رموز عقدٍ إجتماعي بين الشعب والحكومة. وفي كلٍّ من مصر وتونس، كان الرغيف واحداً من ثلاثة مطالب رفعها المتظاهرون في الأسابيع الأولى من إحتجاجات “الربيع العربي”.
في المقابل، في حين أن تحرير سعر الصرف والإنضباط المالي يؤدّيان دوراً محورياً في تنفيس التململ الاقتصادي الذي تشهده مصر وتونس والسودان أخيراً، إلّا أن تجارب هذه الدول تُظِهر أن الزيادات في الأسعار، لا سيما أسعار السلع التي تُعتبَر أساسية بالنسبة إلى المستهلكين، هي شؤون سياسية بطبيعتها. قد تكون الأسباب وراء الزيادات في الأسعار مرتبطة بعوامل ماكرو إقتصادية، لكن الحلول التي يجدر بالحكومة إستنباطها تتطلب ثقة من الشعب، وعلوماً إقتصادية سليمة. مع بلوغ الغضب نقطة الغليان، لا تتمتع تونس ولا السودان بالمرونة السياسية والإجتماعية اللازمة في الوقت الراهن من أجل المضي قدماً بالإجراءات الإصلاحية المتنوّعة التي إتّفقت عليها حكومتا البلدَين مع صندوق النقد الدولي. وحدها مصر تبدو قادرة على السير قدماً بهذه التدابير. لكن حتى مصر تتناسى ربما ماضيها، مع إعلان وزارة التموين والتجارة الداخلية عن خطط في تموز (يوليو) 2017 لتحرير سعر الخبز وتقديم دعم نقدي بدلاً من دعم منتجي الخبز ومن تثبيت سعر الرغيف. قد يكون قراراً منطقياً من الناحية الاقتصادية، إنما تُطرَح علامات استفهام حول مدى حكمته على المستوى السياسي.

• برندان ميغان مُحلل متخصص في الاقتصاد الكلي يركّز على الشرق الأوسط. لمتابعته عبر تويتر: BrendanJMeighan@
• عُرِّب هذا الموضوع من الإنكليزية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى