عملية عفرين التركية في سوريا تُهددّ بتدهور العلاقات مع أميركا وفرط الحلف الأطلسي

يتنبأ خبراء السياسة الذين يتابعون عن كثب ما يدور في سوريا بأن العملية العسكرية التي تخوضها تركيا في عفرين ستؤدي إلى تدهور أكبر في العلاقات مع الولايات المتحدة وتعقيدها وقد تهدد مستقبل الحلف الأطلسي.

الرئيس رجب طيّب أردوغان: هل يغامر بعلاقاته مع أميركا إلى حد الخروج من الحلف الأطلسي؟

بقلم مارك بييريني*

الأزمة العسكرية – الديبلوماسية الراهنة بين تركيا والولايات المتحدة، والتي تُصَوِّرها أنقرة على أنها حالة من “العداء الصريح” بين الدولتين، مُتَوَقّعة جداً وقيد التشكّل منذ فترة طويلة، وهي نابعة أساساً من الخوف التركي الدائم من تقسيم البلاد – وهو ما يُمكِن تسميته بـ”أعراض “سافر”” (نسبةً إلى معاهدة “سافر” (Sèvres )) – ومن نظريات المؤامرة التي تتوالى فصولاً ومفادها أن القوى الغربية تسعى إلى تقسيم تركيا منذ ولادة الجمهورية في العام 1923.
لكن سردية أنقرة الراهنة عن الأزمة تنطوي على سببين في غاية الأهمية مُتعَلِّقين بالسياسة المحليّة. أولاً، لم يتمكّن حزب العدالة والتنمية، الذي حافظ على مركزه الأول في البرلمان في الإنتخابات التشريعية التي جرت في حزيران (يونيو) 2015، من تشكيل حكومة من حزب واحد (كما فعل بعد وصوله إلى سُدة الحكم في العام 2002)، فيما حصد حزب الشعوب الديموقراطي الموالي للأكراد المرتبة الثالثة، وحلّ حزب الحركة القومية في المرتبة الرابعة. وقد شكّلت هذه النتيجة صدمة للرئيس رجب طيب أردوغان، ولا سيما أنها تزامنت مع ظهور مؤشرات أولى عن مساعي الأكراد العراقيين إلى الإستقلال، والأداء العسكري الجيّد للأكراد السوريين المنضوين تحت لواء وحدات حماية الشعب في المعارك التي دارت رحاها ضد تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش).
ثانياً، أدّى هذا الوضع الجديد إلى تحالف حزب العدالة والتنمية مع حزب الحركة القومية، وتجميد عملية السلام مع حزب العمّال الكردستاني التي أطلقتها أنقرة قبل ثلاث سنوات. فعلى غرار الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي، تُدرج تركيا حزب العمّال الكردستاني ضمن قائمة التنظيمات الإرهابية. وكما هو متوقّع، ناشد القوميون في حزب الحركة القومية الحكومة بسنّ وإطلاق سياسات أكثر تشدّداً ضد الأكراد الأتراك.
في خضم هذا الوضع، إعتبرت الحكومة التركية التحالف العسكري – الذي شُكِّل في سوريا بين الولايات المتحدة ووحدات حماية الشعب التي تعتبرها تركيا وثيقة الصلة بحزب العمّال الكردستاني – بمثابة خطوة عدائية. وقد إستولت وحدات حماية الشعب على أراضٍ كانت ترزح تحت سيطرة تنظيم “الدولة الإسلامية” في المنطقة الممتدّة من نهر الفرات غرباً إلى نهر دجلة شرقاً ووصولاً إلى مدينة البوكمال الواقعة على الحدود السورية – العراقية جنوباً. وتجدر الإشارة هنا إلى نقطة مهمة هي أن تركيا لم توافق إطلاقاً على الدعم الذي قدّمته واشنطن إلى وحدات حماية الشعب. وما زاد الطين بلّة أن إدارة ترامب زادت دعمها لهذه الوحدات، على الرغم من أن أنقرة كانت تأمل عكس ذلك.
إنتهجت الإدارة الأميركية في 17 كانون الثاني (يناير)، بعد عامٍ على إلتزامها الصمت حيال إستراتيجيتها بشأن سوريا، سياسةً مفادها أن القوات الأميركية ستبقى مُنتشرة في شمال شرق سوريا لإتمام الحملة ضد تنظيم “الدولة الإسلامية”. وقد أعاد الرئيس دونالد ترامب التأكيد على هذه الإستراتيجية خلال منتدى دافوس في 26 كانون الثاني (يناير) الفائت. وفي العام الأول من ولايته، سلّم ترامب الجيش زمام العمليات في شمال سوريا، ما أحدث ثغرة على مستوى الإتصالات الديبلوماسية مع تركيا. يُضاف إلى ذلك أن القيادة التركية باتت تشكّ فعلياً في مدى صدقية واشنطن بعد إعلان هذه الأخيرة حديثاً عن نيّتها بإنشاء قوة حرس حدود في سوريا قوامها 30,000 عنصر، يُرجَّح أن تخضع بشكلٍ كبير إلى نفوذ وحدات حماية الشعب. ومع أن الأميركيين صحّحوا خطأهم بعد بضعة أيام، فلم يكن هذا كافياً لتهدئة المخاوف التركية.
إمتدّت العملية التركية، التي إنطلقت في 20 كانون الثاني (يناير) الفائت بعدما حصلت القوات الجوية التركية على الضوء الأخضر الروسي للقيام بمهمات قتالية، على طول الحدود البالغة 150 كيلومتراً التي تسيطر عليها وحدات حماية الشعب بين عفرين وتركيا. لم يكن لذلك أيّ تأثير على القوات الأميركية، إذ إن وجودها معدوم في المنطقة المجاورة. لكن في المقابل، ثمّة وجود كبير للقوات الخاصة الأميركية في الأراضي الواقعة على طول 450 كيلومتراً بين نهري دجلة والفرات، وتشمل جيباً صغيراً في مدينة منبج الواقعة على الضفة الغربية للفرات، حيث كانت الولايات المتحدة قد وعدت أنقرة بألّا تطأ وحدات حماية الشعب قدماً أبداً هناك. إن منبج هي بالتحديد المكان الذي أعلنت القيادة التركية أنها ستتدخل فيها فور الانتهاء من تطهير حدودها من وحدات حماية الشعب.
في حال تمّ تطبيق هذه الاستراتيجية، سيبرز خطر حقيقي لنشوب نزاع بين القوات التركية والأميركية، وستصبح عندئذٍ إستراتيجية واشنطن في سوريا أكثر تعقيداً بكثير. فقد بلغ طوفان الإنتقادات التركية لواشنطن مستويات مرتفعة جديدة، وذلك عقب نشر مقال مُؤيِّد للحكومة بعنوان “الولايات المتحدة عدو تركيا”، وهو عبارة عن مزيج مُذهِل من جميع نظريات المؤامرة التي إنتشرت في تركيا حول الولايات المتحدة.
علاوةً على ذلك، لا يُمكن لحملة عفرين – على إفتراض أنها نجحت في دفع وحدات حماية الشعب خارج هذه المنطقة الكردية الواقعة في أقصى الغرب وإخراجها من شرق نهر الفرات – سوى أن تكون حلاً مؤقتاً. ففي نهاية المطاف، يهدف نظام الأسد إلى إستعادة السيطرة على حدود البلاد. والغريب أنه بالإمكان تحقيق ذلك من خلال إتفاق غير مباشر مع تركيا، بوساطة روسية، لكن لا يُمكن إستبعاد إمكانية أن تُفضّل دمشق التوصل إلى إتفاق آخر مع الأكراد السوريين. وعلى الرغم من الضجيج الإعلامي في تركيا، لا تزال طريق التهدئة الكاملة لعفرين طويلاً.
هذا ومن شأن عوامل مثل صفقة بيع صواريخ “أس 400” (التي حظيت بتغطية إعلامية كثيفة لكنها لم تُنفَّذ بعد) من روسيا إلى تركيا، والمحصلة النهائية لحملة عفرين، والتعقيدات التي قد تترتب على العلاقة بين الولايات المتحدة وتركيا في الجزء الشرقي من سوريا، أن تُساهم في “نجاح” موسكو في سوريا. فسياسة أردوغان المتقلّبة في البلاد قد تصبّ في نهاية المطاف في مصلحة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وذلك من خلال وضع أكبر جيشين تقليديين في حلف شمال الأطلسي، في مواجهة بعضهما البعض. لذا، ليس من المستغرب أن يشعر حلف “الناتو” بعدم الإرتياح حيال هذا الوضع.
في التحليل الأخير، لا بدّ لنا من العودة إلى السياسة المحلية التركية. فعلى رغم خطر الإرهاب الذي تسلّط عليه أنقرة الضوء، تُعتبر عملية عفرين أيضاً بمثابة مناورة إنتخابية لأردوغان. والجدير ذكره هنا، على سبيل المثال، أن الأتراك لم يشاركوا أبداً في عملية ديبلوماسية مع الأكراد السوريين عبر وساطة أميركية. بدلاً من ذلك، تعمد القيادة التركية، من خلال تكثيف الخطاب القومي، إلى إبقاء تحالف حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية على رأس أولوياتها. كما أعربت أطراف مثل حزب الشعب الجمهوري المعارض، ومنظمات رجال الأعمال الرئيسية في تركيا، والسلطات الدينية الأرمنية والأرثوذكسية، عن تأييدها لعملية عفرين. وفي الوقت نفسه، تمّ اعتقال أكثر من 300 شخص لمعارضتهم الحملة العسكرية عبر وسائل التواصل الاجتماعي. جميع السياسات تدور فعلياً في الفلك المحلي.
الأسئلة التي ستطرح نفسها في سوري وستكون أكثر جوهرية: إلى أي مدى يريد أردوغان تحدّي سياسة الولايات المتحدة جهاراً؟ وإلى أي درجة سيرغب ترامب في الدفاع عن مصالح الأمن القومي الأميركي ضد إيران وروسيا؟ الإجابات عن هذه الأسئلة ستكون لها تبعات ضخمة على سوريا، وربما حتى على حلف شمال الأطلسي.

• باحث زائر في معهد كارنيغي أوروبا، حيث تركز أبحاثه على التطورات في الشرق الأوسط وتركيا من منظور أوروبي.
• عُرَّب هذا المقال من الإنكليزية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى