ماذا تعني القمة السعودية – الروسية الأخيرة للعلاقات بين الرياض وموسكو وللشرق الأوسط؟

منذ أن تبوّأ الملك سلمان بن عبد العزيز سدة العرش والرياض تحاول توسيع علاقاتها مع موسكو بعد أن أصيبت بالإحباط من السياسة الأميركية في المنطقة، فكانت الزيارة الأولى لولي العهد الشاب الأمير محمد بن سلمان أولاً الذي عبد الطريق لزيارة والده الأخيرة والتي إعتُبِرت تاريخية لأنها أول زيارة لعاهل سعودي إلى روسيا. ولكن هل ستغير هذه الزيارة منحى السياسة الروسية في المنطقة أم أن نتائجها ستقتصر على الإقتصاد فقط؟

الأمير محمد بن سلمان مع الرئيس فلاديمير بوتين: زيارة الأوّل مهّدت لزيارة الملك سلمان التاريخية.

موسكو – ميشال مظلوم

في 5 تشرين الأول (أكتوبر)، أصبح الملك سلمان بن عبد العزيز أول عاهل سعودي يزور روسيا. وقد أشاد الرئيس فلاديمير بوتين، الذي كان دعا الملك الى موسكو منذ اكثر من عامين، بالزيارة وإعتبرها “حدثاً تاريخياً”. وإصطفت لوحات كبيرة على جوانب شوارع المدينة التي رحّبت بالملك باللغتين العربية والروسية، فيما أطلق المتحدث بإسم الكرملين ديمتري بيسكوف العنان لكلمات الثناء القوية للقيادة السعودية.
وعقب القمة وقّع سلمان وبوتين على مجموعة من الوثائق والعقود في مجالات الطاقة والتجارة والدفاع، ووافقا على إستثمار مشترك قيمته مليارات عدة من الدولارات. وبالإضافة إلى ذلك، أفادت تقارير بأن السعودية وافقت على شراء نظام الدفاع الجوي الروسي “أس – 400” (S-400)، مما يجعلها ثاني دولة حليفة للولايات المتحدة تقوم بذلك. (تركيا كانت الأولى).
وتُعتَبَر هذه القمة علامة بارزة أخرى في الإتجاه الأخير المُتمَثّل في تطوير وإعادة الحرارة إلى العلاقات الروسية – السعودية. في حزيران (يونيو) 2015، حضر ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، المُلتقى الإقتصادي السنوي في سانت بطرسبرغ – وكانت المرة الأولى التي يشارك فيها الأمير في قضايا الطاقة وفقاً لتقارير صحافية في ذلك الوقت — حيث إلتقى بوتين. وفي الشهر التالي، تعهّد صندوق الثروة السيادية في المملكة العربية السعودية بإستثمار 10 مليارات دولار في روسيا على مدى خمس سنوات، وهو أكبر إستثمار أجنبي مباشر في البلاد وفقاً لصندوق الإستثمار المباشر الروسي. وخلال زيارته لموسكو هذا الربيع قال بن سلمان أن “العلاقات بين السعودية وروسيا تمرّ بأحد أفضل لحظاتها”.
وبالنظر إلى الإتجاهين المُعاكسين للبلدين اللذين يعودان إلى الحرب الباردة، فإن هذه التطورات الأخيرة تُعتبَر لافتة ومهمة، رغم أن إستمرارية التقارب ما زالت غير واضحة. ومع ذلك، فمن المؤكد أن العلاقات السعودية الجديدة مع روسيا تُظهر أن تأثير بوتين في الشرق الأوسط لا يزال يتابع صعوده.

تاريخ من الشك وإنعدام الثقة

منذ تأسيس المملكة العربية السعودية رسمياً في العام 1932، كانت مواقف موسكو والرياض متناقضة في كل حربٍ أو نزاعٍ في الشرق الأوسط تقريباً بإستثناء الصراع العربي – الإسرائيلي. من خلال كل ذلك، كانت موسكو تُدرك دائماً أهمية المملكة في المنطقة وحاولت بشكل دوري مدّ الجسور معها من أجل إضعاف، ولكن قليلاً، تحالف الرياض مع الغرب.
بعد أن رفضت المملكة العربية السعودية قرضاً وعدداً من المعاهدات المُتعلقة بالتجارة والصداقة من موسكو، تخلّى جوزيف ستالين أخيراً عن محاولات التقارب مع الملك عبد العزيز آل سعود وسحب البعثة الديبلوماسية السوفياتية من المملكة في العام 1938. وبعد وفاة ستالين في العام 1953، جدّد الكرملين محاولات التقارب، لكنه لم يتمكّن مرة أخرى من سحب السعودية من المعسكر الغربي. وقد عكس إندلاع الحرب الأهلية في اليمن في العام 1962 ما حدث من تقارب ضئيل حيث وجدت كل من الرياض وموسكو نفسها على جانبي النزاع. وعلى مدى السنوات اللاحقة، واصل الإتحاد السوفياتي والسعودية المدعومة من واشنطن تنافسهما للتأثير في بلدان مثل سلطنة عُمان والدولة الإشتراكية السابقة في جنوب اليمن.
وفيما تدهورت العلاقات الأميركية – السعودية على خلفية الحرب العربية – الإسرائيلية في العام 1973 والحظر النفطي اللاحق، فقد بدت الرياض أكثر تقبّلاً لفتح صفحة جديدة مع موسكو. ومع ذلك، فإن هذا التقارب، أيضاً، إنقطع في مهده عندما غزت القوات السوفياتية أفغانستان. وقد ساهم التمويل السعودي للمجاهدين الأفغانيين – إلى جانب توفير الأسلحة الأميركية والدعم اللوجستي الباكستاني – إسهاماً كبيراً في الهزيمة الكارثية للاتحاد السوفياتي.
وفي العام 1990، أي بعد عامين على الإنسحاب السوفياتي من أفغانستان، إتفق البلدان على إعادة العلاقات. لقد فتح إنهيار الإتحاد السوفياتي أبواباً جديدة، ولكن لفترة وجيزة فقط. وعلى الرغم من أن السعودية قدمت مساعدات بقيمة 2.5 ملياري دولار لروسيا في العام 1991، فإن موسكو إتهمت الرياض بإبقاء أسعار النفط منخفضة وبالتالي عرقلة الإنتعاش الإقتصادي الروسي. كما إنتقدت الدعم المالي السعودي للمعارضة الشيشانية والإسلاميين في روسيا على نطاق أوسع. وفي الوقت نفسه، أصيبت السلطات السعودية بالإحباط بسبب مبيعات الأسلحة الروسية لمنافسين إقليميين مثل إيران.
وعندما وصل بوتين الى السلطة فى أيار (مايو) 2000، وضع هدفاً أساسياً يكمن في جعل روسيا قوة وسيطة فى الشرق الاوسط، وسعى الى إستغلال الضغوط فى العلاقات الاميركية – السعودية. وكان أول رئيس دولة روسي يزور الرياض فى العام 2007 على خلفية الإحباط السعودي من الحرب الأميركية فى العراق ودعم واشنطن للحكومة الشيعية فى بغداد. إلا أن إندلاع الحرب الأهلية السورية في العام 2011 عرقل أي تطور حقيقي في العلاقات الثنائية، حيث وجدت الدولتان أنفسهما مرة أخرى على جانبي النزاع الإقليمي.

فصل جديد؟

بالنظر إلى هذا التاريخ الطويل من إنعدام الثقة، فمن المفيد الإستكشاف ومعرفة لماذا كانت هذه الدفعة الجديدة لتحسين العلاقات الثنائية. من جانبها، تتطلع موسكو إلى تعزيز علاقاتها الإقتصادية مع الرياض. من المعروف أن بوتين براغماتي المنحى، وهو يعلم أن الإقتصاد الراكد في روسيا يحتاج إلى إستثمارات أجنبية. (السعوديون لم يفوا بعد بتعهداتهم السابقة البالغة 10 مليارات دولار). وهناك أيضاً مصالح نفطية مشتركة. وفي كانون الأول (ديسمبر) 2016، وافقت روسيا و”أوبك” على خفض إنتاج النفط، مما ساعد على رفع سعر البرميل إلى 50 دولاراً — وهو ما يزال أقل بكثير من حوالي 100 دولار للبرميل الذي تحتاج إليه الموازنة الروسية، ولكن مع ذلك فهو تحسن متواضع بعد إنخفاض سعر برميل النفط إلى ما دون 40 دولاراً. إن مثل هذا التعاون على أسعار النفط يبني الثقة ويمكن أن يحقق قريباً إرتفاع الأسعار.
بالإضافة إلى ذلك، يواصل بوتين، كجزء من نهجه الصفري المجموع للديبلوماسية، السعي إلى سحب الولايات المتحدة بعيداً من حلفائها، في حين يقترب أيضاً من العالم الشيعي من خلال إنخراط أعمق مع إيران، والعمل مع “حزب الله”، وضمان بقاء الرئيس السوري بشار الأسد على رأس النظام في دمشق. إن علاقة أكثر دفئاً مع الرياض تُقدّم تصوراً أكثر توازناً.
أما مصالح الرياض فمن المرجح أن تكمن في أماكن أخرى. فهي تعترف بأن الأسد لن يترك السلطة قريباً، وتسعى إلى فتح الباب أمام المصالحة من خلال موسكو. وبالإضافة إلى ذلك، يبدو أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب، مثل باراك أوباما قبله، مستعد للسماح لروسيا بأن تأخذ زمام المبادرة في سوريا. ومن وجهة نظر براغماتية بحتة، عندها، يجب على السعودية أن تتعامل مع روسيا الآن بغض النظر عما إذا كانت ترغب في ذلك أم لا.
وتأمل المملكة العربية السعودية على الأرجح في تقديم حوافز إقتصادية التي يمكنها أن تحثّ وتشجع روسيا على أن تنأى بنفسها عن إيران، بل كان هذا أملها في الصفقات الإقتصادية السابقة. وقد تأمل أيضاً أن تكون روسيا أكثر فائدة للمملكة في اليمن، حيث تقاتل حرباً بالوكالة مع إيران. ومن المرجح أن تنتهي هذه الآمال بخيبة أمل. وسوف يرحّب بوتين بكل سرور بأخذ المال السعودي، لكنه لن يغيّر موقفه من إيران في مقابل ذلك. هنك خلافات عدة بين موسكو وطهران، لكنهما يضعانها جانباً لخدمة مصلحتهما المشتركة، أي تخفيض النفوذ الأميركي في المنطقة. وهذا الهدف مهم جداً بالنسبة إلى بوتين للتخلي عنه، ووضع إسفين بين روسيا وإيران يمثل تحدياً أكبر بكثير مما يقرّ به العديد من المحللين. بالنسبة إلى بوتين، فإن التحوّط ضد الرهانات ودعم الطرفين في اليمن، وكذلك في صراعات إقليمية أخرى مثل قطر، هو موقف أكثر واقعية.
نظراً إلى التاريخ الطويل للتوتر وإنعدام الثقة بين روسيا والمملكة العربية السعودية، قد يكون من السابق لأوانه الحديث عن تحوّل جوهري في العلاقة. كما أنه ينبغي أن ننتظر لنرى ما إذا كان كل جانب سُيقدّم ما وعد به. وعلى الرغم من أن الرياض تتحوّل نحو موقف موسكو بالنسبة إلى سوريا والنفوذ الإقليمي المتنامي لروسيا على نطاق أوسع، فإن مخاوف السعوديين بشأن التأثير الإيراني المتنامي من غير المرجح أن تنخفض، ومن المرجح أن تظل الرياض قلقة بشأن معاملة روسيا للمسلمين داخل حدودها. ومن جانبه، يُسعد بوتين أن يأخذ الاستثمارات السعودية، ولكن ليس على حساب تغيير السياسات التي خدمت روسيا بشكل جيد. ولا تعتبر موسكو تصدير الثورة الإيرانية تهديداً وجودياً على غرار ما تفعله وتراه السعودية، على سبيل المثال. بالنسبة إلى بوتين، فإن إيران هي ورقة مفيدة للعب ضد الولايات المتحدة، وهي ورقة لا يرغب في التخلي عنها. وفي المقابل، يحمل بوتين أوراقاً أكثر من الملك سلمان أو ولي العهد الأمير محمد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى