أي مستقبل ينتظرالأجيال المقبلة في تونس؟

بقلم عبد اللطيف الفراتي*

لعلّ المرء تصيبه الغيرة كلّما رأى غيره وقد تفوَّق عليه وخصوصاً إذا تفوَّق على أبنائه، الذين يريد لهم أن يكونوا مُتمَيِّزين ومُتفوِّقين. ومهما يكن من أمر فإن المرء ينتظر أن يكون أبناؤه أفضل منه وأعلى مرتبة، وأوسع رزقاً وأفضل مقاماً، وحتى إذا كان مُرَفّهاً فهو يتمنى أن يكونوا أحسن منه حالاً.
غير أن تلك هي التمنيات، وكانت ممكنة بل واردة في ستينات وسبعينات وحتى ثمانينات وتسعينات القرن الفائت، فلقد عشنا نحن الجيل الذي فاق الستين والسبعين اليوم في وضعٍ أفضل مما كان عليه غالباً آباؤنا وخصوصاً أجدادنا، الذين عرفوا أو لم يعرفوا الكهرباء في بيوتهم، والمياه الجارية في ديارهم والثلاجة والراديو ثم التلفزيون، وفي ثمانينات القرن العشرين عرف جيلنا، أي جيل السن الرابعة اليوم أي ما بعد السبعين، الفاكس والكومبيوتر والإنترنت، وعرف السفر والتجوال بين البلدان على الأقل بالنسبة إلى ما يسمى بالطبقة المتوسطة عموماً، وبخاصة منها الطبقة الوسطى العليا. وكان يُعتبر من يبلغ دخله ما بين ألف و1500 دينار تونسي مُرًفّهاً، ويكون الأمر أفضل إذا كان ذلك مضاعفاً بإشتغال الزوجة وفي موقع “كادر” سواء في القطاع الخاص أو العام.
كيف إنحدرنا، ولم يعد الأبناء كما يأمل أو أمل الآباء، أن يكون أبناؤهم أفضل حالاً منهم وأكثر رفاهية؟
جيل إستطاع ولو كان من الإطارات المتوسطة، أن يبني لنفسه “فيللا” ولو صغيرة على قطعة أرض متوسطة بين 400 و500 متر مربع، تتوفر فيها كل المرافق، وذلك بالحصول على قروض ميسرة تُدفع أقساطها على مدى 15 أو 20 سنة بفوائد متدنية، لا تفوق 5 وفي أسوإ الأحوال 7 في المئة.
في المواقع نفسها، سواء الإدارية أو في المؤسسات العمومية أو الخاصة، هل يستطيع الشاب، أو حتى مَن تجاوز سن الشباب، اليوم أن يطمح إلى ذلك المستوى الذي عاش فيه صغيراً وشاباً يافعاً؟
لقد صُدِمت عندما رافقت زوجين ومعهما طفلاهما (في الابتدائي)، عَزَما على شراء بيتٍ من صالة وغرفتين في ضاحية متوسطة (النصر) وفي أعاليها بعيداً من العمران. وصدمت لأمرين:
أولهما ثمن المسكن، الذي يناهز 300 ألف دينار تونسي. وثانيهما ، ما ينبغي لهما أن يدفعاه شهريا كأقساط لسداد القرض، بعدما كانا وفّرا إدّخاراً ومساعدة من أبويهما بحوالي 100 ألف دينار (وذلك ليس متاحاً للكل). فالمبلغ اللازم للسداد يقارب 1800 دينار شهرياً، وإن كانا كلاهما من الكوادر العليا، فإنهما قادران على مجابهة ذلك، ولكن كم من الناس يقدر فعلاً، إذ أنه لا ينبغي أن تتجاوز أقساط السداد 40 في المئة من الراتب الخام.
ورأيت الزوجة تقول لزوجها، وهي لا تبدو شديدة التحمس فالغرف صغيرة لا تتتسع لما إشترياه من أثاث في أيام العز، بمساعدة الأهل: يعني وداعاً للسفر إلى الخارج مرة كل عامين. ووداعاً لتقضية أسبوع في الفنادق مرة صيفاً ومرة شتاءً، ” فالبنك سيلهف ما أمامنا وما وراءنا، حتى نصل لسن الكهولة ويكبر الأولاد”.
رب العائلة المسكين، كان يُدرك كل ذلك ولكن كل شيء يهون في سبيل ما يسمونه “قبر الحياة”، وهو يسعى لإخفاء مشاعره. أما الزوجة والأبناء الفرحون بأنهم سينتقلون إلى البيت الجديد، غير عابئين ببعده من المدرسة، ومن مجالات الترفيه، ومن مرافق التجارة ، التي كانت تسهل عليهم شراء حاجيات من الرغيف إلى الخضر وكل لوازم العيش.
بدا لي “الكوبل” سعيد بأنه سينتقل إلى التملّك، ولكنه حائر أمام إلتزامات جديدة، فهل تكفي سيارة واحدة هي سيارة وظيفية للأب، بعد ضرورة الإستغناء عن السيارة الثانية الصغيرة، لأنه لا طاقة لإحتمال نفقاتها المتزايدة، من بنزين في أوج إرتفاع أسعاره، وصيانة تقفز أثمانها من شهر إلى آخر، ومن طابع جبائي وتأمين هذا إذا سلم ربي ولم تدخل إلى مستودع الاصلاح لسبب طارئ من أي نوع.
هذا الحديث عن طبقة متوسطة عليا تنال مرتبات تفوق 3000 أو 3500 دينار في تونس، بين زوجين يكدان من الصباح حتى الليل، فما هو الشأن والحال بطبقة متوسطة عادية أو متوسطة تدحرجت إلى طبقة متوسطة دنيا، فيما تدحرجت البقية التي هي في الحضيض إلى درجة الفقر. فالموظف المحظوظ الذي ينال راتباً شهرياًأكثر من ألفي دينار وما أقل عددهم، وإذا لم يتمتع بمزايا وظيفية أخرى، فإن راتبه الحقيقي لا يكاد يصل إلى 600 أو 700 يورو، فيما عملتنا التونسية المتدهورة مرتبطة بالعملة الأجنبية، التي يؤثر صعودها أو نزول عملتنا في أسعارنا وخدماتنا الداخلية ما يزيد الطين بلة.
هذا في مستوى عيش الأجيال الحالية التي تعيش كابوساً حقيقياً، ولكن ماذا سيكون مصير كل هؤلاء الأفواج التي نراها أمام المدارس بمئات الآلاف؟ الأكيد أنها ستعيش وضعاً أسوأ من وضع شبابنا العامل اليوم، وكهولنا الذين إجتازوا العقبة.
لذلك لا يُمكن للمرء إلا أن يتفهّم إندفاع الشباب التونسي للهجرة إلى الخارج، فالإحساس بإنعدام مستقبل لائق، لا يُمكن إلّا أن يشعر بعدم الإطمئنان، وبات الكبار هم الذين يدفعون الأبناء للبحث عن فرص في الخارج، وهذا ما يُفسّر أن 850 طبيباً متخصصاً هاجروا إلى فرنسا وإلمانيا خلال بضعة أشهر، ومثلهم أو أكثر من المهندسين الحائزين على شهادات مرموقة. أما إرساليات بلدنا إلى أوروبا وأميركا من الطلبة المتفوقين، فإنها لا تعني من المنطلق إلا هجرة مؤكدة، فلا أحد منهم سيعود.
وحتى أبناء “الذوات” من أصحاب المشاريع والقادرين على الاستثمار، بما يتوفر لآبائهم، فهم أيضاً مُحجِمون على العودة للإستثمار في مشاريع آبائهم ما يحقق إستمراريتها، أو الإستثمار في مشاريع جديدة، ما دامت بلادنا على هذه الحال من الاضطرابات الإجتماعية والمطلبية المنفلتة والإضرابات والإعتصامات ” القانونية ” والفوضوية.

• كاتب وإعلامي تونسي مخضرم، كان رئيساً لتحرير صحيفة “الصباح” التونسية. fouratiab@gmail.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى